يعجبني المحامي الفرنسي جاك فيرجيس، الذي كان يدافع عن الشيطان أينما وجد، فقد دافع عن بول بوت وبينوشي وأمثالهما وأظنه سيتطوع للدفاع عن القذافي، فحتى الشيطان في مائدة الرحمن سمح له الرب بالاستمرار في الوجود، فهدد الرب بأنه لسوف يحتنكن ذرية آدم إلا قليلا ويملأ بهم جهنم أجمعين، بل ألقى اللوم على الرب في انحرافه فقال: بما أغويتني، مقابل اعتراف آدم وحواء بالخطأ وطلب التوبة: قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. فهنا تظهر فلسفتان في الحياة فلسفة آدم وفلسفة الشيطان.. وهكذا فحتى الشياطين لهم محامون. أخذ المحامي جاك فرجيس (Jacqes Verges 83y) الفرنسي لقب محامي الشيطان لأنه لم يترك مجرما من عتاة المجرمين إلا دافع عنه، وفي صالات المحاكم الكبرى. فالرجل التقى بماو تسي دونج وبول بوت، ودافع عن جزار ليون النازي كلاوس باربي وكذلك الإرهابي كارلوس، وعنده استعداد لأن يدافع عن هتلر وستالين والقذافي، وقد قدم مشورته في قضية ميلوسوفيتش وله فلسفة خاصة جديرة بالتأمل في معنى الخير والشر في العالم، ويعتبر المحامي الأكثر جدلا وشغبا بين كل محاميي العالم، وعنده استعداد لأن يدافع عن بن لادن وبوش بشرط اعتراف الأخير بأنه مذنب؟ وما زال يخوض غمار المحاكمات المزعجة وعمره 83 سنة ويدخن، وممن دافع عنهم أيضا خيو سامفان (Khieu Samphan) رئيس حكومة بول بوت الإجرامية السابقة في كمبوديا والمسؤولة عن مقتل 1.7 مليون نسمة في أربع سنوات من الحكم البربري، وقدمت الفضائيات حلقة عنه بعنوان المحامي المشاغب والأكثر إثارة في قضايا العدالة والإجرام. والسؤال هو: لماذا يفعل ما يفعله فيدافع عن مجرمين اجتمعت كل الكلمة على جريمتهم؟ ثم ما هي دوافع الرجل؟ ومن أين بدأت قصته؟ وكذلك علاقته بالثورة الجزائرية والاستعمار الفرنسي وكيف بدأت من قصة تفجيرات جميلة بوحيرد وإنقاذ عنقها من المشنقة كي تصبح صديقة عمره؟ وفضلا عن كل هذا، فهو شاهد القرن.. ويمكن، باختصار، أن نقول إن امرأتين كان لهما أكبر الأثر في حياته: أمه الفيتنامية وجميلة الجزائرية.. وهو من جديد يحكي عن أثر المرأة وبصماتها على كتاب التاريخ.. ولا أستبعد أن يدافع الرجل عن القذافي إن كتبت له النجاة واقتيد إلى محاكمة عادلة، وهو ما نأمله: ألا يقتل بل يحاكم، ولا يعدم بل ينال الحكم المؤبد ومعه نصف درزن من أولاده وصياصيه. في الواقع، استفدنا من القذافي فلسفة عميقة ذات ثلاثة محاور.. أن الطغيان لن يتمكن من روح الله المودعة في بذرته وفطرته فيثور ولو بعد حين. كما استفدنا من القذافي أن الإنسان حين يملك القوة يمضي في الطغيان إلى أبعد حد وأعظم شر. وهذه الميزة ليست خاصة بالقذافي، بل هي عند كل واحد منا حين يمنح القوة وليس ثمة من فرامل، وهو الأمر الذي نزلت من أجله سورة كاملة في القرآن أخذت اسم المؤمن الذي كان يكتم إيمانه ثم صرح بأفكاره حين رأى فرعون يهم بقتل موسى فقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟ أنظروا، مثلا، إلى كل طغاة الشرق الأوسط من صدام المصدوم المشنوق، وحافظ الأسد الذي حمل على عربة حربية ودفن في ضريح هائل في قرداحة، فالناس خوفا من المخابرات يحجون إلى قبره كل عام مرة أو مرتين، ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون. فإذا انفضوا من مراسيم التأليه، نظر بعضهم إلى بعض.. هل يراكم من أحد، ثم انصرفوا، صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون.. لقد ولد الأسد طفلا بريئا في قرداحة، كما أن صدام ولد طفلا بريئا في العوجة. ثم تحول كلاهما إلى غول شرس دموي بسبب الثقافة التي تسممه. وخطورة هذا التصور أن الوسط العربي فيه من السمية ما يحول كل واحد منا إلى غول شرس من هذا الحجم. إن الطاغية له أذرع كبيرة من الناس، ولو أمسك اثنان بالقذافي لقضيا عليه، فمن أين له كل هذه القوة؟ إنها من أذرع الطاعة، ولذا حرر القرآن المشكلة في كلمة بسيطة وهي أن الطغيان والطاغية ينتهي منه الناس برفض الطاعة وليس بالقتل، وهو الأمر الذي انجرفت إليه الثورة الليبية، ونجت منه الثورة التونسية والمصرية وأخيرا اليمنية الحكيمة. نقول، ما زالت اليمنية لم تخرج من الامتحان النهائي بانتصار الإرادة الإنسانية على الخوف والسيف والدم. هذا الجو بدأ في التغير الآن، وهو جو ثقافي وذابت ثلوج الخوف مع قدوم الربيع العربي، فانتفض الناس في درعا وحوران. ومن أغرب ما فيه أن أفكار السلم آتت كلها. وهي بذور ألقيناها في التربة العربية منذ أكثر من ثلاثين سنة، فنبتت على حين غفلة وإنكار من الفقهاء وحراس العقيدة الإسلامية أنها ضد الجهاد، حتى تبناها الشباب فنجحوا، وطبقها الإيرانيون ضد الشاه فنجحوا، قبل أن تضيع الثورة في بطن أناكوندا ملالي قم وقزوين، ويمكن للشباب في إيران أن يستخدموها من جديد فيتخلصوا من محاكم التفتيش الإيرانية، وطبقها الشباب في جورجيا وصربيا وأوكرانيا وقرقيزيا فنجحوا.. ثم طبقها التوانسة والمصريون فكانت معجزة.. ويدخل اليمنيون هذا المنعرج، وسوف نرى. وجاء الدور الآن على السوريين أن يتعلموا جيدا من الدرس اليمني والمصري والتونسي، ويحذروا من المنزلق الليبي مهما حاول الحرس الجمهوري جرهم إليه لسبب بسيط هو أن الشعوب تملك الإرادة والأنظمة تملك السلاح، فإذا دخلت الثورة حقل الألغام والسلاح انفجرت مزعا، وإذا طهرت جو الصراع وقادته بالأسلوب اللاعنفي فازت فوزا عظيما.. هكذا انزلق الليبيون في مستنقع الدم، وهنا الدرس الثالث المفيد من كتاب القذافي الأحمر، أن الثورات المسلحة لا تنجح في العادة في وجه الأنظمة الشمولية المسلحة، فاحتاجت إلى التدخل الخارجي كما رأينا في صواريخ توما هوك في ليلة 20 مارس 2011م.. التدخل المسلح والقتال المسلح يعني، بكلمة واحدة، دخول معترك الصراع بشروطه هو، أكثر من شروط الثوار. وهنا مخاطر تعضل ولادة الثورة كما يعرفها أطباء النسائية والقوابل في الولادات العسيرة.. وطالما تحدثنا عن المحامي المشاغب فرجيس، الذي سوف يتطلع إلى الدفاع عن القذافي وذراريه وصياصيه، فهو فصل هام للاطلاع على فلسفة الرجل. فلسفة محامي الشياطين أول ما يطالعنا عن الرجل جوابه وفلسفته حين سئل عن الشر والخير: هل تحب الشر؟ فكان جوابه: الطبيعة متوحشة وبدائية وصعب التكهن بارتكاساتها، وهي بربرية خالية من المعنى، والفرق بين الإنسان والحيوان هو في قدرة الإنسان على اتخاذه قرار أن يرتكب الشر، وهي ضريبة حريتنا نحن أولاد آدم.. وحين سئل: أهي رؤية كونية ساخرة؟ أجاب: بل هي الواقعية بعينها، فهكذا هي الطبيعة والحياة.. لقد دافع الرجل عن أعتى المجرمين من قتلة العصر، مما دفع الناس إلى أن يسموه محامي الشيطان، ولذا فهو مثير مرتين، أولا لفهم دوافع الرجل، كما أنه مثير لأنه يفتح الطريق لفلسفته الخاصة.. أنه هو بالذات بعلاقته بهؤلاء الأوغاد العتاة يعرف المزيد من الطبيعة البشرية. لذا، فهو يقول عن دفاعه عن المدعو كارلوس باربي، الضابط النازي السابق المشهور بجزار ليون لكثرة تفظيعه في الناس في أيام احتلال النازية لفرنسا، يقول: إنني أعتقد أن لكل واحد، مهما أجرم، الحق في أن يقدم إلى محكمة عادلة لتحكم ما تشاء. والرأي العام عنده سرعة في إطلاق الألقاب على الناس مثل الوحش والغول، ولكن في الحقيقة لا يوجد غول ولا شر مطلق. وهذا يفتح الطريق لفهم الخير والشر في الحياة، وهو مبدأ إبكتيتوس، الفيلسوف العبد الذي يرى الخير يعم الوجود، فليس من شر إلا لأنه أخذ المجرى غير الصحيح. يتبع...