كتاب «صدام الأصوليات» للمفكر البريطاني المعاصر ذي الأصل الباكستاني طارق علي، هو عبارة عن رحلة تاريخية تحليلية مادية تنقلنا إلى أعماق العلاقة بين الشرق والغرب، وتتوقف عند أسباب نشأة الإمبراطوريات الحديثة واستراتيجياتها الإيديولوجية والاقتصادية. ينظر صاحبه في وجود الديانات السماوية ودورها في تعبئة الناس، وفي ظهور الطوائف والأصوليات والجهاد والحملات الصليبية، ينظر في الوهابية والأندلس والاستشراق والإمبراطوريات الغربية قبل أن يتطرق للإمبراطورية الأمريكية والثورة الشيوعية و«الحرب الباردة» والحداثة والكيان الصهيوني ونكبة الفلسطينيين و«العدوان الثلاثي» والثورة الإيرانية وحروب الخليج وأحداث 11 شتنبر 2001. التذت الإمبريالية الأوروبية المتلهفة بمشاهدة إمبراطورية عثمانية في طريق الانحطاط، وتدَافعَت بريطانيا وألمانياوروسيا بالمناكب حول الغنائم. أمّا فرنسا فكانت قد أخذت الجزائر من العثمانيين في 1830م، بينما استغلت اليونان الاضمحلال القائم لتستقل بنفسها. كانت روسيا تطمع في البلقان، وبريطانيا، التي كانت قد استولت على مصر، بعثت بعملائها ليجوبوا صحارى شبه الجزيرة العربية بحثاً عن حلفاء آخرين. في أوروبا الغربية نفسها، كان ذلك السلام المتعثر الذي ساد منذ الحروب النابوليونيّة على وشك الانهيار. والسبب في ذلك هو خصومة الإمبرياليات فيما بينها. اندلعت الحرب بسبب اغتيال في سراييفو، لكنْ وراء الاغتيال كان يقف النزاع بين النمسا وروسيا من أجل البلقان. شدّت ألمانيا أزْرَ النمسا بينما آزرت بريطانيا وفرنساروسيا. كان في إمكان السلطان العثماني أن يلتزم الحياد، إلا أنه قرر الانضمام إلى التحالف النمساوي الألماني. وإذا استعدنا الأحداث، تبيَّنَ أنّ اختياره كان غبياً، ولكنْ في حينه رأى فيه البابُ العالي سبيلا سوياً لإحياء الإمبراطورية. الإمبراطوريات لا تحب الاعتقاد بأنّ انهيارها قد يكون نهائياً. لا العثمانيون ولا الهُوهَنزُلرنيّون (أسرة ألمانية حاكمة انتسب إليها ملوك بروسيا بين 1701 و1918م وأباطرة ألمانيا بين 1871م و1918م) كانوا يعتبرون الولاياتالمتحدةالأمريكية قوة عالمية. كما لم يتوقعوا هم ولا غيرهم الانهيارَ المفاجئ لنظام التسار في روسيا والانتصار الموالي لِلِينينْ والبولشيفيين. هذا الحدث الأخير كان له دور كبير في إقناع الولاياتالمتحدةالأمريكية بالدخول في الحرب العالمية الأولى. ولمّا كانت ألمانيا تعتبَر القوة الأوروبية الوحيدة القادرة على تهديد مصالح الولاياتالمتحدةالأمريكية، أيّدت هذه الأخيرة بريطانيا وفرنسا، ولوْ أنّ ذلك لم يتأتّ إلا بعد حين. حسمت الهزيمة في صراع 1914-1918م الأمور بالنسبة للإمبراطورية النّمْسَنْغاريّة والخلافة الإسطنبولية. فبعد أن تصادَمتا مراراً عبر القرون، اتحدتا في الأخير لمحاربة عدو مشترك، لتسقطان معاً في نهاية الأمر. وقد وُزعت الأراضي التي كانت خاضعة لسيطرتهما خلال «مؤتمر المنتصرين» الذي انعقدَ في فرساي عام 1919م، ووعدت إمبريالية الرئيس الأمريكي وُودرو ولسُونْ الليبرالية بمنح حق تقرير المصير لجميع الدول. وقد أدى هذا، مقروناً بدعوات البولشيفيين إلى التمرد في المستعمَرات، إلى دخول الشعوب المضطهدَة في التاريخ الدولي. فقد نجح متحدِثٌ غير معروف من الهند الصينية يُدعى هُوشِي مِنْه في أن يُطالب باستقلال بلاده في اجتماع فرسايْ، بينما استعملت بريطانيا الفيتو لمنع حضور مندوبين يمثلون الحكومة المصرية. هذا الرفض سيؤدي إلى قيام انتفاضة شعبية. أُخمِدتِ الانتفاضة، لكن مُتزعِّمَها سعد زغلول (1850-1927م) أسَّس حزبَ «الوفد»، الذي يُعدّ أول حزب وطني عربي حقيقي في العالم العربي. اتفق الرجال المؤتمرون في فرسايْ على أنْ تمنَح الدول العربية التي كانت في السابق تحت الحكم العثماني استقلالاً شكلياً، ولكن تحت وصاية أو «انتداب» دُول إمبريالية، كما هو الشأن اليوم في البوسنة وكوسوفو وأفغانستان. وقد حضرت «عصبة الأمم» للتأكد من أن المنتصِرين يضمن بعضهم لبعض غنيمته من الحرب. وبانهيار ألمانيا والنمسا وروسيا، بقيت هناك إمبرياليتان سليمتان، لم يشملهما التقسيم. وكانت الإثنتان قد توصلتا إلى اتفاق يجعل من الحدود «الوطنية» للبلدان بنوداً للمقايضة. هكذا «انتدِبت» بريطانيا لتحْكمَ العراق وفلسطين وتُراقب مصر، بينما مُنحت سوريا ولبنان لفرنسا كجائزة ترضية. وبهذا كسبت بريطانيا قطعة كبيرة من المشرق، بينما احتفظت فرنسا بالمغارب (المغرب العربي)، مع ضمّها لسوريا. لقد أدّى انهيار الخلافة والإمبراطورية بشكل مباشر إلى انفجار الحركات الوطنية. قامت الثورة في العراق وسوريا وتعرّضت لقمع القوات الإمبريالية، غير أنها نجحت، مع ذلك، في جعل كل أرجاء العالم العربي تجيش بالاستياء. لقد تبينَ لشعوب الدول الخاضعة للهيمنة الأجنبية بأنّ ما حصلت عليه بلدانهم هو استقلال زائفٌ مقارنة مع دول حديثة النشأة مثل يوغوسلافيا وبلغاريا ورومانيا وتشيكوسلوفاكيا. ثم كانت هناك الثورة الروسية، التي قلبت الدنيا رأساً على عقب وأعلنت قيام «الأممية الشيوعية»، التي تكرس جهودها لثورة عالمية. وقد وصلت أصداء شعاراتها الراديكالية المناهضة للإمبريالية الموجَّهة إلى «فلاحي بلاد الرافدين وسوريا والعربية السعودية وإيران» إلى المثقفين في القاهرة وبغداد ودمشق كما في كابول ودلهي وجاكارتا. هل سيتأتى لها أو ستستطيع يوماً ما أن تستحوذ على فِكر أولئك الذين تتوجه إليهم، أيْ الجماهير المسلمة والكادحة في الشرق؟ كانت بريطانيا وفرنسا واثقتين تماماً من نفسهما فمضتا قدُماً كما لو أنه لم يحدث في أوروبا ما يستحق الاعتبار حقاً. فهما لم تقدّرا الصعودَ الفعلي للولايات المتحدةالأمريكية ولا الثورة الروسية حق تقديرهما. وسبق ذلك أنه في 1917م وعد «إعلان بلفور» بأن «تؤيد» الإمبراطورية البريطانية إقامة «موطن قومي يهودي» في فلسطين، شريطة ألا ينال ذلك من حقوق السكان الآخرين. وقد استعمل البريطانيون هذا كذريعة ليضمّوا فلسطين إلى نطاق حكمهم. اقتطِعت دُويلة ما وراء نهر الأردن من فلسطينالشرقية ومُنحت استقلالا إسمياً، بينما ظل الباقي من فلسطين تحت الحكم المباشر للبريطانيين حتى يسهلوا قيام «موطن قومي يهودي». وبهذا تكون المنظمات الصهيونية في أوروبا قد حققت انتصاراً باهراً. ولم يمض وقت طويل حتى بدأت هجرة اليهود تتقاطر على فلسطين. اختلف البريطانيون والفرنسيون حول بُنى أشباه المُستعمَرات التي بيدهم. رفضت الإمبريالية الجمهورية التسامح مع وجود الأمير فيصل في سوريا وطلبت منه مغادرة دمشق. البريطانيون جعلوه ملِكاً على العراق. أمّا أخُوه عبد الله فأعطِي له عرش في ما وراء نهر الأردن. كِلاهُما كان ابن الشّريف الحُسين، خادم الحرَميْن الشّريفيْن، وزعيم قبيلة بني هاشم وسليل النبي محمد. أعلن الحُسين نفسه ملِكاً على الحِجاز، ظناً منه بأنّ البريطانِيّين سيَقبلون بالأمر الواقع. لم يكن حاكماً كفؤاً، وبعدَ سنواتٍ معدودةٍ، حوّل البريطانيّون دعمهم إلى زبون يفوقه ثقة وقساوة، وهو الأمير عبد العزيز بن سعود من نجْد، الذي كان سَلفه قد أمضى الميثاق معَ ابن عبد الوهاب قبل ذلك بقرنين تقريباً. لم يكن ابنُ سعود في حاجةٍ إلى أيّ واعظ. لقد تبدلت الأحوال. العثمانيون الملعونون كانوا قد رحلوا إلى الأبد، والإنجليز هم الذين بدؤوا يَأخذون مكانهم. انتبه ابن سعود إلى هذا الأمر منذ أمدٍ بعيد. وكان يرشده خلال هذه المدة مريده الكبير، المستعرب والعميل البريطاني فِيلبي، الذي شجّعه على اتباع قدوة النبي محمد وتوحيد قبائل شبه الجزيرة العربية المتباينة.