مما لا شك فيه أن اللغة العربية تمر من أزمة حقيقية، تكاد تكون أزمة وجود من حيث استعمالها وتداولها بين العامة والخاصة. فهي شبه مغيبة في التعاملات الإدارية، وهي كذلك محتقرة لدى العديد من المثقفين أو بالأحرى لدى أشباه المثقفين الذين أصبحت لديهم قناعة بأن التحدث باللغة العربية هو رديف للتخلف، وأن استعمال لغة أجنبية في الخطاب وفي الأحاديث اليومية يعبر عن مدى انتماء الشخص إلى العصر وإلى الحداثة. والأدهى من هذا هو أن اللغة الأجنبية (الفرنسية تحديدا بالنسبة إلى المغرب) هي اللغة الرسمية في المعاملات التجارية وفي داخل الأسواق الممتازة والمساحات الكبرى بين المستخدمين والزبائن، وبين المستخدمين مع بعضهم، حتى أصبحنا نسمع النداءات المنبعثة من البوق داخل السوق الممتاز والموجهة إلى المستخدمين، والذين كلهم من اليد العاملة المغربية، تقال حصريا باللغة الفرنسية! فكيف يعقل أن تطلب مستخدمة، عبر مكبر الصوت داخل سوق ممتاز بالمغرب، (une femme de ménage est demandée au rayon) هل من المطلوب من عاملة النظافة معرفة اللغة الفرنسية لكي تشتغل في مجال التنظيف؟ يقول فهمي هويدي بعد زيارته للمغرب في الآونة الأخيرة: «في كل مكان ذهبت إليه، كنت أرجو ممن ألتقي بهم أن يحدثوني باللغة العربية. حدث ذلك في الفندق والمطعم والسوق والتاكسي، وصولا إلى شرطة المرور، والحمالين الذين يتزاحمون في المطار. ولم يكن ذلك جديدا عليّ لأن فرنسة اللسان المغاربي كانت أهم إنجاز حققه الاحتلال الذي سحب عساكره وترك لغته لكي تبقي الاحتلال وتكرسه». فعلا، كيف لنا أن نفسر لأنفسنا، قبل غيرنا، معنى أن تلقى خطب في مناسبات وطنية -كعيد الاستقلال- بالفرنسية، لغة المستعمر.. إذا كان لا بد من التذكير بذلك! كيف لنا أن نستسيغ هذا الأمر واللغة هي مكون أساس للهوية، وهي التي تصنع للشخص العالم الذي يعيش فيه ويتفاعل معه؟ إننا عندما نشاهد آباء وأمهات في الشارع وفي البيت يتحدثون مع أبنائهم بالفرنسية، يلوكونها بين أفواههم ويجاهدون أيما جهاد لإخراج الحروف على شاكلة أصحاب اللغة، يصبح التساؤل: (من نحن؟) و(من نكون)؟ سؤال يشي بأن هناك حتما أزمة هوية نمر منها؟ هذا على الرغم من الغنى والثراء الذي تحظى به العربية كلغة، كثقافة، كتمثُّلات، وكوعاء حضاري. من ناحية أخرى، تعاني اللغة العربية، على مستوى «قصورها البنيوي، من مشكلة إنتاج المعرفة وتوليدها وترويجها على مستوى بني جلدتها، كما على المستوى العالمي»، كما يرى الباحث المغربي يحيى اليحياوي. هذا القصور يتحمل وزره بالأساس المسؤولون عن إنتاج المعرفة، من جامعيين وباحثين، ومثقفين بشكل عام، فتقاعس هؤلاء عن الكتابة، في الصحافة مثلا وفي ميادين مختلفة، باللغة العربية واقتصارهم على لغة أجنبية، يولد في المجتمع شريحتين من القراء. فالقارئ للصحافة المحلية المكتوبة بالفرنسية ينمي ثقافة مهمة في مختلف ميادين المعرفة، والتقنية منها على الخصوص، من طب وهندسة وإعلاميات، إلى غير ذلك من المجالات التي تسهل فيها على أهل الاختصاص الكتابة بالفرنسية، لأنهم درسوها كذلك. في حين نجد القارئ للصحافة المكتوبة بالعربية لا ينمي هذا النوع من الثقافة إلا لماما! السبب أنه ببساطة لا يجد هذه المادة المعرفية في ما يطالعه من جرائد ومجلات وكتب... وهذا راجع إلى كون الكاتب المختص في مجال علمي أو تقني ما لا يكلف نفسه عناء تبسيط وتقديم هذه المعرفة باللغة العربية! لا يفوتنا هنا أن ننوه ببعض المقالات التي نصادفها هنا وهناك، تيسر وتبسط بعض المفاهيم في مجال الطب والمعلوميات والأنترنيت، وهي مكتوبة بالعربية، لكنها مع الأسف تبقى قليلة بالمقارنة مع ما يكتب بالفرنسية. سُئِل أحمد تيمور عن قيمة التعلم باللغة الأم فأجاب: «إذا علّمت شخصا بلغته فقد نقلت العلم إلى تلك اللغة، أمّا إذا علّمته بلغة أخرى فإنّك لم تفعل شيئا سوى أن نقلت ذلك الشخص إليه)، وقال حافظ إبراهيم في رائعته اللغة العربية تتحدث عن نفسها: ووسعت كتاب الله لفظا وغاية وما ضقت عن آيٍ به وعظات فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة وتنسيق أسماءٍ لمخترعات إننا لا يمكن أن نتوق إلى تنمية شاملة في مجتمعاتنا ما دام العلم والتقنية لم يصبحا ثقافة.. ثقافة من المفروض أن تكون بلغتنا العربية.. هذا هو الرهان الحقيقي. نبيل بنعمرو - أستاذ باحث في الإعلاميات