كيف يمكن للفاعلين والشركات الصغيرة والمتوسطة والمقاولات المتوسطة الصناعية حماية أنفسها من عدم استقرار أسواق المواد الأولية؟ سؤال شكل منطلقا لفعاليات ندوة مجموعة "لوماتان" حول موضوع "ارتفاع أسعار المواد الأولية: أية إمكانيات لتغطية المستوردين؟". وقاد النقاش خلال هذا اللقاء إلى توضيح الآليات الممنوحة من طرف الأبناك لتأمين واردات الفاعلين عبر منتوجات مالية مخصص لهذا العرض، وكشف هذا الموعد أن عددا من المقاولات الصناعية الكبيرة هي التي تستفيد من هذه المشتقات المالية، ودعا المتدخلون المقاولات الصغيرة والمتوسطة والمقاولات المتوسطة الصناعية اللجوء إليها خاصة في ظل الظرفية الراهنة والإكراهات التي يفرضها الوضع الجيو سياسي وتداعياته اقتصاديا، وهو المنحى الذي توجه إليه محمد الهيتمي، الرئيس المدير العام لمجموعة لوماتان قائلا "هناك حلول للتعامل مع تقلب أسعار المدخلات، فهي تأتي في شكل ما يسمى بالمنتجات المالية "التحوط" أو "التغطية" التي يقدمها النظام البنكي منذ سنوات وكذلك من قبل المكاتب المتخصصة"، وأضاف "يتم استخدام هذه الحلول بشكل جيد من قبل بعض المجموعات الصناعية الكبيرة، لكنها تظل غير معروفة لعدد كبير من الفاعلين". وأفاد أن أسعر المواد الأولية شهدت منذ خريف 2020، تقلبات نتجت عنها ارتفاعات همت المعادن، والمواد الغذائية، والمنتجات البترولية، والأخشاب ومشتقاتها وغيرها من المواد الأساسية، مبرزا أن كل الأسواق تقريبا تأثرت بهذه الارتدادات الناجمة عن عوامل متداخلة تعود في أغلبها إلى التغيرات المناخية، وتقلص العرض وارتفاع الطلب بفعل بداية التعافي الاقتصادي العالمي، والمضاربات، واستحواذ الصين على معدلات مهمة من هذه المواد، إضافة إلى الأزمة الروسية الأوكرانية. واستشهد الهيتمي في كلمته الافتتاحية لندوة لوماتان المنظمة حول موضوع "ارتفاع أسعار المواد الأولية: أية إمكانيات لتغطية المستوردين؟" بالانعكاسات التي تكبدتها أسعار الورق الذي تعتمده المجموعة في الطباعة خاصة طباعة الكتاب المدرسي، مشيرا إلى أن سعر الطن انتقل في غضون أقل من سنة من 630 أورو إلى 1380 أورو، ولم يغفل الحديث عن تعثر التوصل بالطلبيات وما ينجمه عنه من إكراهات أخرى، وقال الهيتمي إن سعر إنتاج الكتاب المدرسي المحدد سعره من قبل الدولة يعتبر مرتفعا بنسبة كبيرة مقارنة مع ثمن بيعه. وتابع موضحا أن الأسوأ هو أنه لا أحد قادر على التنبؤ بنهاية هذه الوضع أمام هيمنة عدم اليقين، التي عادت إلى الواجهة من جديد بعد الأزمة الصحية ومخلفاتها الاقتصادية. وتطرق الهيتمي في ذات الكلمة إلى الحلول التي ناقشها هذه الندوة، مؤكدا توفر حلول مالية مقدمة منذ سنوات من قبل المنظومة البنكية المغربية، لكن تساءل عن مدى استفادة المقاولات الصغيرة والمتوسطة منها خاصة في ظل الظرفية الحالية؟. واستطرد محمد الهيتمي قائلا "إذا كانت الأزمة قد أرخت ظلالها على المستهلك، فإن التأثير على الصناعيين المستوردين لا يقل أهمية، فهؤلاء بالكاد بدأوا في تخطي تداعيات الأزمة الصحية وما ترتب عنها من توقف متكرر للإنتاج، غير أنهم ومرة أخرى يجدون أنفسهم في مواجهة شح المواد الأولية وندرتها. وحتى في حالة توفرها، يكون سعرها مرتفعا وغالبا لا يتمكنون من إمكانية عكس الزيادة بشكل كامل على زبنائهم. وضع معقد يهدد استمرارية مجالات كثيرة من النسيج الاقتصادي". وأضاف أن وطأة "ثلاثية" ارتفاع الأسعار، وندرة وعدم توفر المواد، والافتقار إلى الرؤية وعدم اليقين، تتطلب التحفيز على اعتماد ميكانيزمات التغطية ضمانا لتفادي تضرر العديد من الفاعلين من الساحة الاقتصادية. وأعلن محمد الهيتمي أن مجموعة لوماتان وارتباطا بهذا الموضوع وما تفرضه الأوضاع التي يعيش المغرب والعالم على إيقاعها، ستعقد 5 ندوات حول السيادة الغذائية والطاقية ومجالات أخرى بعد شهر رمضان الأبرك. محمد فخر الدين، المدير العام المساعد المكلف ببنك التمويل والاستثمار بمجموعة القرض الفلاحي للمغرب قال في مداخلته خلال هذا اللقاء أن قراءة في تقلبات أسعار المواد الأولية تعتبر أمرا استراتيجيا بالنظر إلى التوترات المتواصلة التي تعرفها هذه الأسعار وندرة هذه المواد. وأكد أن عولمة الاقتصاد والمبادلات أدت إلى ظهور أسواق جديدة تؤطرها رؤوس أموال تنشط في هذه المجالات، وهو ما تنجم عنه حسب المتحدث مضاربات واضحة مع ظهور وسطاء جدد، وقال "أضحت هذه الأسواق تفرض منطقها وقواعدها بخصوص التموين والتخزين، ولكن كما رأينا ففي عقد التسعينيات ورغم الاضطرابات التي عرفها لم تكن هناك مثل هذه الارتدادات". وأشار محمد فخر الدين إلى أن السياسة النقدية المعتمدة من قبل المغرب تعتبر مواتية للوضع الحالي، وقال "هناك أولويات وعلينا تمويل السوق، بالرغم من عدم اليقين وتأثر القرارات المتخذة بوضعية الأسواق"، وأضاف أن الظروف الحالية ترجح استمرارية استقرار معدل الفائدة الرئيسي الذي حدده البنك المركزي في 1.5 في المائة. وبخصوص منتوجات التغطية ضد ارتفاعات الأسعار دوليا موضوع الندوة، أكد أنها ملائمة لكل أنواع الواردات، وأشار إلى أن الأبناك تقوم بمهمتها على الوجه الأكمل، موضحا أنها منحت ألف مليار من القروض. وأوضح المتحدث أن تبسيط شرح هذه المنتوجات يحتاج إلى بيداغوجية محددة لفائدة المقاولات المعنية لتفسير كيفيات التعامل معها. هشام بولرباح، المدير العام ل HARRIS FINACIAL اعتبر من جانبه أن الأزمة الأوكرانية الروسية لا تمثل سوى القطرة التي أفاضت الكأس، مشيرا إلى أن ارتفاعات أسعار المواد الأولية انطلق منذ أكتوبر 2020، حيث أكد أنه منذ ذلك التاريخ إلى الآن ارتفعت مثلا أسعار الحبوب بنسبة 98 في المائة، 18 في المائة منها منذ شهر، أما أسعار الدرة فقفزت بنسبة 106 في المائة، 7 في المائة منها منذ شهر، في حين زيوت الصوجا فارتفعت ب 115 في المائة، 18 في المائة منها منذ شهر، وبالنسبة لهذه الأخيرة ذكر بولرباح أن أسباب تطور أثمنتها يعود إلى سياسة "الحمائية" التي تنهجها بلدان مثل أندونيسيا وغيرها من الجهات المنتجة لهذه المادة. وقال إن هناك عدة عوامل أججت هذه الارتفاعات من قبيل الطلب الصيني على المنتوجات الفلاحية والطاقية بعد كوفيد 19، وتأثر العديد من القطاعات الفلاحية سواء بالجفاف أو كثرة التساقطات. وتحدث بولرباح عن التدابير المتخذة لمواجهة تقلبات سعر الصرف لفائدة المستوردين المغاربة، وقال إن هناك تسهيلات وتدابير إجرائية مهمة يمكن للمقاولات الاطلاع عليها واعتمادها. واعتبر أن المغرب وبفضل النوابض التي يقوم بتفعيلها للحيلولة دون ارتفاع التضخم، تمكن ويتمكن من عدم عكس الارتفاعات الحاصلة عالميا على المستهلك، وأشار كذلك إلى نضج آليات التغطية التي تمنحها الأبناك منذ سنة 2004، وذكر بأن مكتب الصرف يواكب الفاعلين الاقتصاديين لدعم تنافسيتهم على غرار ما يجري عبر العالم. إدريس بنشيخ، الكاتب العام لمكتب الصرف تطرق بدوره لوقع ارتفاع أسعار المواد الأولية على المغرب، موضحا أن فاتورة المواد الطاقية المستوردة خلال سنة 2021 بلغت 75 مليار درهم، أما المواد الغذائية فوصلت فاتورتها إلى 60 مليار درهم. وأضاف أن هذه الأرقام أثرت على الميزان التجاري للمغرب، كما استعرض الفرق بين أزمة 2008 العالمية والأزمة الحالية المتشعبة العوامل. وأشار في هذا الصدد إلى أن آليات أو منتوجات التغطية "التحوط" تعتمد كثيرا من قبل المقاولات الكبرى، داعيا المقاولات الصغيرة والمتوسطة إلى الاستفادة منها بدورها، وأن ما يلزمها هو التوجه لأبناكها للاطلاع على كيفية الولوج إليها. وحول إمكانية حصول الفاعلين الاقتصاديين على منتجات تغطية الواردات دوليا، أفاد بنشيخ أن هذه الآليات مدرجة بالبورصات العالمية، ولكنه أكد أن هذا الأمر مشروط بالمرور من خلال بنك مغربي، من أجل مراقبة استعمال العملة الصعبة. وأضاف بنشيخ أن هناك إمكانيات لاعتماد منتوجات التغطية بالعملة المغربية، لصالح المقاولات التي تنشط في المغرب، مفسرا ذلك بأن المقاولات النقلية يمكنها تغطية سنة مثلا من حاجياتها من الوقود في حدود 25 في المائة لمدة سنتين ضد تقلبات الأسواق العالمية للطاقة، ونفس الشيء بالنسبة لقطاعات تربية الدواجن والأبقار التي توظف مدخلات الدرة وغيرها في علف الماشية. وقال إن المواد التي يتم اقتناؤها محليا وتحدد أسعارها عالميا تسمح باللجوء إلى هذه الآليات في إطار ثقافة تدبير الأخطار التي تطفو على السطح دون سابق إنذار. إبراهيم آيت سالم مسؤول TRADING GRADERCO دعا خلال هذا اللقاء إلى أهمية تأمين الواردات من الحبوب وتكوين المخزون الاستراتيجي من هذه المواد في ظل سياق دولي غير واضح المعالم، حيث تحدث عن اعتماد آليات التغطية للحصول الكميات المطلوبة، غير أنه أفاد أن موسم حصاد الحبوب سيكون خلال يونيو ويوليوز بأوكرانيا وروسيا، وأن الوصول إليه غير واضح بالنظر إلى الأوضاع بتلك المنطقة. وذكر بأنه مباشرة بعد اندلاع الأزمة الروسية الأوكرانية، توجه الأوروبيون إلى أسواق أمريكا اللاتينية، وهو ما قام به المستوردون المغاربة لكن بتكاليف مرتفعة بمعدل تراوح بين 10 و20 في المائة. وقال آيت سالم أن سعر الطن من القمح قفز من 250 دولار إلى 450 دولار، وأن اقتناء الحاجيات من هذه المادة يحتاج ويتطلب الحفاظ على سعر الفائدة الرئيسي 1.5 في المائة. مؤطر معدل الفائدة الرئيسي يثير الجدل بين المتدخلين أثار موضوع الحفاظ على معدل سعر الفائدة الرئيسي في حدود 1.5 في المائة أو رفعه أكثر من ذلك، تضاربا في آراء المشاركين في هذه الندوة، حيث شدد نبيل عادل، خبير اقتصادي وباحث الشؤون الجيو سياسية والجيو اقتصادية على أن امتصاص حدة التضخم حتى لا تتجاوز نسبة 3.3 في المائة التي بلغها إلى حدود نهاية فبراير، تقتضي ترجيح كفة رفع البنك المركزي لهذا المعدل. وعلل نبيل عادل هذه الفرضية بكون تدني معدل الفائدة الرئيسي حاليا بالمغرب يعتبر عاملا أساسيا في التحفيز إلى اللجوء إلى القروض أكثر فأكثر لاقتناء المزيد من السلع والخدمات رغم ارتفاع أسعارها، وبالتالي استيراد المزيد من التضخم، واعتبر أن معدل 1.5 في المائة يشكل أرضية خصبة لتأجيج هذا الوضع الذي سيستلزم الكثير من الوقت للخروج منه. كما تساءل الخبير عن التوقعات المتعلقة بمعدل التضخم برسم 2023، داعيا إلى ضرورة مناقشتها وإعادة النظر في ذلك. وعكس ذلك، أكد هشام أورابح، المدير العام ل HARIS FINANCIAL أن هناك ميكانيزمات للحيلولة دون امتداد ارتفاعات معدل التضخم، موضحا أن هناك ضوابط معتمدة للتحكم في ارتفاع الأسعار، دون إغفاله للمنتجات المالية للتغطية أو "التحوط" التي تسير في ذات الاتجاه، باعتبارها عاملا يقلص من ارتفاع الأسعار محليا، وقال إن هذه الآليات متوفرة منذ 2004. أما محمد فخر الدين، المدير العام المساعد المكلف ببنك التمويل والاستثمار فأبرز أن السياسة النقدية تعتبر مواتية وتأخذ بعين الاعتبار الأولويات المطروحة، وقال "نحن بحاجة لاستقرار معدل الفائدة الرئيسي، ولابد من الإشارة كذلك إلى أن لنا احتاطي مريح من العملة الصعبة". ويشار إلى أن بنك المغرب سجل أن التضخم ما يزال يواصل نموه السريع الذي بدأ سنة 2021، متأثرا بالضغوط الخارجية المصدر والمرتبطة بالارتفاع الحاد في أسعار المنتجات الطاقية والغذائية وتزايد التضخم لدى أبرز الشركاء الاقتصاديين. وأضاف المصدر ذاته أنه يتوقع أن يرتفع مكونه الأساسي من 1.7 في المائة إلى 4.7 في المائة قبل أن يتباطأ إلى 2.6 في المائة.