أبرز الباحثون المشاركون في أشغال الملتقى الجهوي الأول حول الواحات، المنعقد السبت والأحد الماضيين، ببلدية آسا الزاك، أن واحات جنوب المغرب شكلت مجالا ملائما للاستقرار البشري منذ تاريخ قديم، من خلال النقوش الصخرية الموجودة بها، التي تكشف أن أولى التجمعات البشرية تعود إلى فترات ما قبل التاريخ. كما لعبت الواحات دورا حيويا في مجال التبادل والإنتاج عبر مختلف العصور، إذ أنشأت على طول محاور واحات تافيلات ودرعة وواحات الأقاليم الجنوبية شبكة من الطرق التجارية، تطورت بشكل كبير خلال العصر الوسيط والحديث، ولعبت دورا كبيرا في نقل الإسلام إلى السودان الغربي وربطت المغرب بعمقه الإفريقي، لتشكل عبر قرون عصب الحياة الاقتصادية عامة والتجارية بالخصوص. وبحكم موقعها، ساهمت هذه المناطق في إغناء الهوية الثقافية والإثنية للمجتمع المغربي، بتلاقحه مع التيارات الحضارية الإفريقية والمؤثرات المتوسطية والأورو أسيوية. وشدد المهتمون المشاركون في هذا اللقاء، الذي اختير له شعار "الواحات نموذج للتنمية المستدامة بمناطق المغرب الصحراوي-حالة واحة آسا-"، على أهمية تمركز مناطق الواحات المغربية في تخوم الصحراء وعلى الهوامش الجنوبية لسلسلة جبال الأطلس، المتميزة بغناها البيئي، المتجسد في أهمية الأنواع النباتية والحيوانية، التي تنفرد بها هذه المجالات، ما يجعل منها مجالا للتنوع البيولوجي، خاصة على مستوى المحميات والمواقع ذات الأهمية الإيكولوجية والبيولوجية المتميزة بتعددها الجغرافي، التي تقدر بأزيد من 7 ملايين هكتار بين واحات وادي درعة وتافيلات وصولا إلى فكيك، مشكلة المجال الحيوي للواحات، وحواجز طبيعية، تخفف من تقدم الصحراء شمالا نحو العالم المتوسطي والأوروبي. ولا تمثل واحات المغرب الصحراوي كنزا للتنوع الحيوي والجغرافي فقط، حسب الباحثين، بل تمثل أيضا حضارة عريقة، وأسلوب حياة راق حافظ على استمراريته وفق تدبير مجتمعي، إذ من أهم أسباب عدم اندثار هذه الواحات واستمرارها في مقاومة عوامل التصحر، تمسك السكان بواحاتهم، اعتمادا على ترسانة من التقنيات والمهارات المختلفة والمتنوعة المتوارثة. فعلى سبيل المثال، يعد تدبير الماء أو تخصيب الأرض أو نظم الاستغلال الزراعي خاضعا لضوابط دقيقة تعود إلى قرون، تضمن ما ينطبق عليه اليوم "التنمية المستدامة"، ما يضمن الإنتاج الفلاحي الأساسي واستغلالا عقلانيا للموارد الطبيعية مع الحفاظ على التنوع البيولوجي والتوازنات الإيكولوجية. وتعتمد الواحات بجنوب المغرب بنشاطها الاقتصادي على فلاحة متنوعة لإنتاج الحبوب والأشجار المثمرة والزراعة العلفية، وتربية الماشية، وتقاس أهميتها بحجم إنتاج التمور، الذي يرتفع في السنوات العادية إلى حدود 90 ألف طن، تنضاف إلى ذلك بعض الزراعات التكميلية والمنتجات الخاصة، من قبيل الحناء والورود وبعض النباتات العطرية والطبية. وتواجه التنمية المستدامة في الواحات، حسب المشاركين في الملتقى، إكراهات عدة، من بينها التأثيرات المناخية وعوامل التعرية، وتوالي سنوات الجفاف، وانتشار مرض البيوض، وامتداد النسيج الحضري، وتوسع العمران وارتفاع ملوحة المياه والتربة، فضلا عن أشكال أخرى من أنواع التصحر، ما يستوجب المحافظة على النظام الواحي، الذي صار ضرورة إيكولوجية ملحة، بالنظر للخصوصية البيئية ودورها في التخفيف من حدة التصحر، وهي ضرورة اقتصادية واجتماعية، لأنها مجال حيوي لفئات عريضة من الشعب المغربي. كما سجل الباحثون الأهمية الثقافة لهذه المجالات، باعتبارها خزانا لتاريخ المغرب وذاكرة وطنية له ومجالا للتنوع الثقافي والإثني والهوياتي، وتعكس الهوية والثقافة المغربيتين في مختلف مشاربها العربية الإسلامية والأمازيغية والحسانية والإفريقية واليهودية، ومن ثمة، فإن تثمين الواحات يقتضي مقاربة شمولية تنبني على الاستدامة لضمان توازن بين الأبعاد الاقتصادية والبيئية والاجتماعية والثقافية. تجدر الإشارة إلى أن أشغال الملتقى، المنظم من طرف مركز الشباب الصحراوي للإبداع الاجتماعي، بتنسيق مع كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة بن زهر بأكادير، وبشراكة مع عمالة آسا ووكالة الجنوب، اختتمت عشية الأحد الماضي، بتكريم باحثين وأساتذة جامعيين، وكذا مراسل "المغربية" بتزنيت، لمساهماته في تغطية جميع الأنشطة والمبادرات، التي من شأنها إبراز قيمة الواحات في المغرب وضرورة الحفاظ عليها وتثمينها.