تجد المكانة البارزة التي يحتلها الاحتفال بعيد العرش٬ كحدث ذي حمولة وطنية قوية٬ سندها في الدلالة الرمزية التي تمثلها هذه الذكرى في الوعي الوطني، من خلال ترسيخ تمسك العرش والشعب بالقيم نفسها المؤسسة التي تتماهى فيها الأمة. ويدل السياق الذي جرى فيه مأسسة عيد العرش٬ في ظل ظروف تاريخية عصيبة كانت البلاد تواجه فيها محاولات السلطات الاستعمارية إضعاف مكونات هويتها٬ على القدرة التي ظلت ثابتة لدى الأمة على إفشال مناورات الأعداء٬ مثلما تشهد على ذلك الانتفاضة الوطنية لإسقاط الظهير البربري سنة 1930 أو ثورة الملك والشعب التي اندلعت إثر نفي جلالة المغفور له محمد الخامس والأسرة الملكية. ففي خضم الغليان الوطني الذي أعقب الظهير البربري، شقت فكرة الاحتفال بالذكرى السنوية لاعتلاء جلالة المغفور له محمد الخامس العرش طريقها لتخليد حدث رمزي كبير يعكس الالتحام ووحدة الوطن ومرجعية القيم الوطنية التي يجد فيها المغاربة أنفسهم. لقد كانت فكرة تخليد ذكرى اعتلاء الملك العرش إذن مبادرة نابعة من شباب وطنيين متحمسين٬ كانوا يقاومون الاستعمار الفرنسي، ويدافعون عن الوحدة الترابية والدينية للمغرب٬ حين احتفلوا بشكل غير رسمي بذكرى اعتلاء السلطان سيدي محمد بن يوسف العرش بتاريخ 18 نونبر 1933 كما يذكر بذلك مؤرخ المملكة عبد الحق المريني. وجرى تخليد هذه الذكرى في "جنان السبيل" بفاس وفي سلا وفي قيسارية السمارين بمراكش سنة 1933، أي بعد مرور ست سنوات على اعتلاء السلطان العرش، يوم 18 نونبر 1927. ولم تصبح هذه الذكرى رسمية إلا سنة 1934، تطبيقا لقرار وزاري أصدره محمد المقري (الوزير الأول في الحكومة المغربية)، ونشر في الجريدة الرسمية بتاريخ 2 نونبر 1934 تحت اسم "عيد التذكار"٬ كما يؤكد المريني. وفي فاس كانت هيئة تحرير صحيفة "لاكسيون دي بوبل" (عمل الشعب)٬ الصحيفة الوطنية الأولى التي كانت تصدر أسبوعيا باللغة الفرنسية٬ والتي أسسها في 4 غشت 1933 محمد حسن الوزاني٬ وكانت تندد بالممارسات التعسفية لسلطات الحماية، وتطالب بالحريات الديمقراطية والإصلاحات٬ بمثابة حاضن لفكرة عيد العرش. وهكذا وفي نونبر 1933، تشكلت "لجان لتنظيم حفل عيد العرش" بالرباطوفاس ومكناس وطنجة والدارالبيضاء ومراكش. عرفت مدينة سلا، في الوقت ذاته، حركة كبيرة أطلقتها نخب محلية لتخليد عيد العرش يوم 18 نونبر 1933. وأحدثت مجموعة من العلماء السلاويين٬ وعلى رأسهم القاضي محمد بن ادريس العلوي٬ "لجنة للأعياد" لتخلد بشكل غير رسمي ذكرى اعتلاء الملك العرش يوم 18 نونبر 1933. وكتب الوطني محمد حصار مقالا بهذا الخصوص في صحيفة "عمل الشعب"، تلاه مقال آخر لمراسل صحيفة "السعادة" بسلا محمد الغربي، ونشر في العدد 4051 في نونبر 1933 بعنوان "سلا تخلد ذكرى عيد العرش". وفي السنة الموالية ومع اقتراب هذه الذكرى المجيدة٬ دعت صحيفة "عمل الشعب" في عدد 4 ماي 1934 سكان مدينة فاس إلى الحضور بكثافة للترحيب بالسلطان يوم 10 ماي أثناء دخوله الرسمي إلى فاس٬ وهو ما استجاب له السكان الذين عبروا عن ابتهاجهم بمقدم السلطان، ورددوا هتافات "عاش الملك" و"عاش الإسلام". ولم يرق هذا الاستقبال الحماسي الإقامة العامة الفرنسية التي أعادت جلالة الملك إلى الرباط خلال اليوم نفسه. ونشرت صحيفة "عمل الشعب" صورتين إحداهما لجلالة الملك سيدي محمد والثانية للأمير مولاي الحسن مع عنوان كبير "عاش صاحب الجلالة سيدي محمد". وأعقب ذلك منع سلطات الاستعمار لهذه الصحيفة. ومع ذلك كان من نتائج هذا الحماس الوطني أن اضطرت الإقامة العامة الفرنسية إلى التكريس القانوني لما تمخض عن مبادرة تلقائية٬ وحددت يوم 18 نونبر 1934 كتاريخ للاحتفال رسميا بأول عيد للعرش. ومثلما ساهم شعار "الله٬ الوطن٬ الملك" في اندلاع الكفاح من أجل الحرية والتحرر من ربقة الاستعمار٬ فإن الشعار نفسه مايزال يلهم مسيرة المغرب نحو التقدم والتطور في عهد صاحب الجلالة الملك محمد السادس. وما فتئ عمق الروابط بين الملك والشعب يتجسد بوضوح في كل لحظة حاسمة من تاريخ المملكة على غرار ما شهده المغرب خلال المسيرة الخضراء. وهي المسيرة التي ماتزال تلهم عملية البناء تحت القيادة النيرة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس. وتجسد ذلك بالملموس بمناسبة التصويت بأغلبية ساحقة على الدستور الجديد سنة 2011، أول دستور في عهد جلالة الملك محمد السادس كما يذكر المريني. وحسب المريني٬ فإن الدلالات الرمزية الكبرى للاحتفال بعيد العرش في تاريخ المغرب الحديث تتجسد في تجديد البيعة المعهودة بين العرش والشعب وفي الاستمرارية التاريخية للنظام الملكي وفي الترابط بين القمة والقاعدة، من أجل بناء المغرب وإعلاء شأنه بين الأمم في كل المجالات. إن اعتلاء صاحب الجلالة الملك محمد السادس العرش، يوم 29 يوليوز 1999، إثر وفاة والده المنعم جلالة المغفور له الحسن الثاني يوم 23 يوليوز من السنة ذاتها٬ أصبح منذئذ يؤرخ لانبثاق عهد مشرق تميز بتحقيق إنجازات كبرى في مختلف الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية بفضل الرؤية المتبصرة لجلالة الملك، من خلال ضمان انخراط البلاد في مشروع مجتمعي حداثي يتبنى قيم الديمقراطية والتعددية وتجسيد الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وحقوق الإنسان، في انسجام تام مع مرجعيات الهوية المغربية، سعيا إلى النهوض بالمغرب إلى مستوى الأمم الراقية. وفي هذا السياق٬ يتميز عهد جلالة الملك محمد السادس بما تحقق من تقدم ينسجم مع تطورات العصر في ظل ما تجسد٬ على الصعيد الخارجي٬ من تعزيز لتنوع علاقات الشراكة مع البلدان الشقيقة والصديقة والتجمعات الإقليمية الوازنة، وتقوية دور المغرب في دعم القضايا العادلة للعالم العربي والإسلامي وعلى الصعيد الدولي. (و م ع)