تحمل المبادرة الجديدة لجلالة الملك محمد السادس٬ رئيس لجنة القدس٬ المتمثلة في توجيه رسائل إلى قادة الدول الخمس دائمة العضوية بمجلس الأمن وشخصيات عالمية، بشأن التطورات الخطيرة التي تشهدها مدينة القدسالمحتلة٬ جراء الممارسات التي تقوم بها سلطات الاحتلال الإسرائيلي في هذه المدينة المقدسة٬ (تحمل) في طياتها أكثر من دلالة ومغزى لعل أهمها تشبث المغرب بالشرعية الدولية والدفاع عن القضايا العادلة، وفي مقدمتها قضية القدس٬ التي تمثل أحد أهم عوامل الصراع في الشرق الأوسط. والواقع أن المغرب٬ ومنذ اغتصاب أرض فلسطين في نهاية أربعينيات القرن الماضي، وظهور ما أصبح يعرف بالقضية الفلسطينية وقضية القدس٬ انخرط في الدفاع عن هذه القضية العادلة٬ سواء على المستوى الشعبي أو الرسمي٬ ولم يبخل في التضحية من أجل العمل لعودة الحقوق المغتصبة إلى أهلها في فلسطين٬ لا بالدم ولا بالمال أو بالتحرك الدبلوماسي في المحافل الدولية والإقليمية وأروقة الأممالمتحدة. وتشهد على تضحيات المغرب من أجل القدسوفلسطين ومبادراته الخلاقة في هذا المجال٬ القمم العربية والإسلامية، وعشرات اللقاءات والمؤتمرات، التي احتضنتها أرضه منذ منتصف القرن الماضي وحتى الآن٬ والتي كانت كلها تصب في اتجاه الذود عن هذه القضية العادلة وجوهرها تحرير فلسطين ولإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف. ولعل القمة الإسلامية، التي بادر جلالة المغفور له الملك الحسن الثاني إلى جمعها في الرباط في سبتمبر ٬1969 على إثر إقدام الصهاينة على إحراق المسجد الأقصى٬ لخير دليل على تعلق المغاربة بقيادة ملوكهم بنصرة قضايا الحق والعدل٬ خاصة عندما يتعلق الأمر بالقدس الشريف٬ ثم تلتها في أكتوبر 1974، قمة الرباط العربية الشهيرة بقراراتها التاريخية٬ التي كرست الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية٬ الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. ومنذ أن قرر قادة الدول الإسلامية سنة 1975، إسناد رئاسة لجنة القدس إلى جلالة الملك الحسن الثاني٬ وواصل من بعده خلفه جلالة الملك محمد السادس تحمل الأمانة٬ ما فتئ المغرب يجعل الدفاع عن القدس الشريف ضمن أوكد أولوياته الوطنية. وفي هذا الإطار٬ ضاعف المغرب من مبادراته وتحركاته الدبلوماسية لمواجهة المخططات الإسرائيلية الرامية إلى تغيير الوضع القانوني للمدينة المقدسة وطمس معالمها التاريخية والروحية والبشرية. وتأتي رسائل جلالة الملك إلى قادة الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن لتؤكد أن المخطط الإسرائيلي في المدينة المقدسة من شأنه أن "يزيد من حدة التوتر في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة. بل قد يؤدي٬ كما جاء في الرسائل الملكية٬ إلى عواقب وخيمة، لا يمكن التكهن بنتائجها، في ظل الأوضاع العامة التي تعيشها المنطقة برمتها٬ مما سيفضي، لا محالة، إلى تقويض كل فرص السلام في المنطقة". ولم يقتصر التحرك المغربي على الجانب الدبلوماسي في المحافل الدولية والإقليمية على أهميته٬ بل استعمل كل الوسائل المادية واللوجيستية للوجود في قلب القدس الشريف والوقوف إلى جانب أبنائها المقدسيين لمساعدتهم والتخفيف من معاناتهم اليومية، جراء ممارسات سلطات الاحتلال. وتكفي في هذا المجال الإشارة إلى عشرات المشاريع التي مولها صندوق بيت مال القدس، الذي تشرف عليه لجنة القدس، ويموله المغرب بنسبة تتجاوز 80 في المائة٬ وكلها مشاريع ترمي إلى دعم صمود أهالي المدينة المقدس للاستمرار في التشبث بأرضهم. وشملت هذه المشاريع إنجاز وترميم المباني السكنية والمدارس والمرافق الحيوية التي يستفيد من خدماتها المختلفة أبناء القدس، وتمكنهم من البقاء في ديارهم، ومقاومة إغراءات سلطات الاحتلال، التي تهدف إلى ممارسة كل الضغوط عليهم لمغادرة القدس. وعلى الصعيد الشعبي٬ يتابع العالم كله٬ بكل تقدير٬ الزخم التضامني التلقائي الذي يعبر عنه الشعب المغربي بكل فئاته وعلى اختلاف مشاربه السياسية والفكرية٬ حيث يخرج في مسيرات ومظاهرات حاشدة، تعبيرا منه عن التضامن مع الشعب الفلسطيني وأهل القدس في محنتهم جراء ممارسات الاحتلال الإسرائيلي وسياسته الاستيطانية المقيتة. كما لا يغرب عن البال الدعم الإنساني والصحي المتواصل الذي قدمه المغرب بتعليمات من جلالة الملك لسكان قطاع غزة لدى تعرضهم للقصف الوحشي الإسرائيلي والحصار الجائر الذي ضربه حوله٬ كما استقبلت المؤسسات الصحية المغربية مئات الجرحى والمصابين الفلسطينيين لتلقي العلاج٬ ناهيك عن أفواج الأطفال القادمين من القدس٬ والذين يستضيفهم المغرب كل سنة في إطار المخيمات المدرسية الصيفية. إن المغرب٬ وهو يواصل اليوم تحركاته الدبلوماسية للدفاع عن القدس الشريف٬ من خلال الرسائل الملكية إلى قادة الدول الأعضاء في مجلس الأمن والجهات النافذة على الساحة الدولية٬ يدرك جيدا أن قضية القدس، كما جاء في هذه الرسائل تمثل "عنصرا جوهريا وحاسما في تفاعلات الصراع المرير بمنطقة الشرق الأوسط، صدرت بشأنها قرارات أممية، تؤكد ضرورة المحافظة على الطابع القانوني الخاص للقدس الشرقية، كأرض محتلة، وتعتبر كل الإجراءات التي من شأنها تغيير هويتها، والمساس بوضعيتها الحالية لاغية". ولم يقتصر جلالة الملك على مخاطبة قادة الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن٬ بل شملت رسائل جلالته، أيضا، كلا من الأمين العام للأمم المتحدة٬ بان كي مون باعتباره "المؤتمن على تنفيذ قرارات المنظمة الأممية والساهر على احترام الشرعية الدولية، وبصفته كذلك عضو في الرباعي الدولي"٬ بالإضافة إلى رئيس مجلس الاتحاد الأوروبي، هيرمان فان رويوي، بالنظر للدور الفاعل الذي يقوم به الاتحاد داخل الرباعي الدولي، فضلا عن البابا بنديكت السادس عشر، اعتبارا "لمكانته الروحية، واهتمامه المتواصل بالسلام عبر ربوع العالم، خاصة بمنطقة الشرق الأوسط، مهد الأديان، وبالنظر لحرصه على الحفاظ على المقدسات المسيحية الكاثوليكية بالقدس، والتعايش بين مختلف الأديان والمعتقدات". ولما كانت الممارسات الإسرائيلية تمس، أيضا، طمس المعالم التاريخية بالقدس٬ شملت الرسائل الملكية، أيضا، المديرة العامة لمنظمة اليونسكو، إرينا بوكوفا، "انطلاقا من الأهداف النبيلة التي تسعى منظمة اليونسكو إلى تحقيقها، المتمثلة في رعاية الموروث الإنساني، والحضاري العالمي، واعتبارا لقرارات منظمة اليونسكو ومجلسها التنفيذي ذات الصلة بصيانة التراث الثقافي لمدينة القدس وبالوضع التعليمي والسكاني والثقافي بها".(و م ع)