في المشهد السياسي الوطني، حيث تُنتظر من القيادات الحزبية الحكمةُ والرزانةُ والقدرةُ على تأطير النقاش العمومي بما يخدم الوطن ويعزز ثقافة الدولة، يطلّ علينا أحد "الزعماء بالضرورة" بخطاباتٍ أقرب إلى الاستعراض منها إلى التحليل، وبقفزاتٍ لغويةٍ لا تسكنها الرؤية بقدر ما يسكنها الغرور، وكأنَّ السياسة عنده مجرّد مرآةٍ للأنا، لا مسؤوليةٌ تجاه المجتمع أو الدولة. لم يعد مستغربًا أن تتحول مداخلاته إلى مناسباتٍ للتباهي المَرضي بولاءاتٍ متشظية تتجاوز الحدود والهوية، حتى صار "الولاء العابر للوطن" عنوانًا لخطابه وسلوكه. فهو يفاخر بعلاقاته مع جماعاتٍ وتنظيماتٍ دينيةٍ خارجية، ويُظهر إعجابه بشيوخٍ ومراجعَ لا تمتّ بصلةٍ للوجدان المغربي ولا لمنطقه السياسي. وفي كل مرة، يثبت أنه أقرب إلى ثقافة "الشيخ والمريد" منه إلى منطق الزعامة السياسية الوطنية، وأنه لا يزال أسيرًا لفكر الجماعة الذي يُقدّم الولاء للمرشد على الانتماء للوطن. لقد بلغ هذا الانزياح ذروته حين تجرّأ على تفسير خطابٍ سياسيٍّ مغربيٍّ خالصٍ بمنطقٍ شخصيٍّ ضيق، فاعتقد أن كلمة الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، إدريس لشكر، خلال الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الثاني عشر لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، كانت موجهة إليه شخصيًا. والحقيقة أن الخطاب كان في جوهره تحية تضامنية لحزب الشعب الجمهوري التركي (Cumhuriyet Halk Partisi – CHP)، الحزب التاريخي الذي أسسه مصطفى كمال أتاتورك سنة 1923، والذي يُعدّ أحد رموز الحداثة والعقلانية في تركيا، والحليف الطبيعي للأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في العالم. في كلمته، قال إدريس لشكر بوضوح: «لا تفوتني الإشادة بنضال إخوتنا في حزب الشعب الجمهوري التركي الذي يواجه موجة قمعٍ غير مسبوقة من قبل حكومة أردوغان في محاولةٍ لكتم صوت المعارضة ووأد كل أملٍ في التغيير، ونعبر عن دعمنا الثابت لأعضاء الحزب ولقائده أوزغور أوزيل في نضالهم من أجل العدالة وسيادة القانون». هذا الموقف لم يكن تعبيرًا عن نزعةٍ خارجية، بل تجسيدًا لتقليدٍ أمميٍّ راسخ في الفكر الاشتراكي الديمقراطي، حيث تتقاطع قيم العدالة والحرية والتضامن بين الشعوب والأحزاب. غير أن من تربّى في ثقافة "البيعة العابرة للحدود" لا يمكن أن يفهم معنى التضامن الأممي، لأنه يرى السياسة من زاوية الطاعة لا من أفق المبدأ. لقد مثّل خطاب إدريس لشكر، في مؤتمر الحزب، لحظةً فكريةً فارقة في المشهد السياسي المغربي، لأنه أعاد الاعتبار للسياسة كقيمةٍ وطنيةٍ نبيلة لا كوسيلةٍ لتصفية الحسابات. كان خطابًا عميقًا في جوهره، واضحًا في لغته، صريحًا في مواقفه، أعاد التأكيد على أن الاتحاد الاشتراكي هو حزبٌ وطنيٌّ تقدميٌّ سليل الحركة الوطنية، يستمد شرعيته من التزامه بالثوابت الجامعة، لا من الولاءات العابرة ولا من التبعية للسلطة أو الخارج. لقد دعا لشكر إلى تجاوز البيروقراطية والريع والزبونية نحو دولةٍ اجتماعية قائمةٍ على العدالة التوزيعية والمواطنة الشريكة، محذرًا من تآكل الثقة السياسية بسبب تمركز القرار وتهميش الشباب والنخب الوسيطة. كما شدّد على أن الملكية الدستورية هي إطارٌ للإصلاح الديمقراطي، لا ذريعةٌ للعجز الحكومي، وأن الإصلاح السياسي والاجتماعي متلازمان في مشروعٍ وطنيٍّ متجددٍ يزاوج بين التقدمية والمسؤولية. هذا الخطاب كان استعادةً لهوية الاتحاد الاشتراكي كحزبٍ وطنيٍّ حداثيٍّ نقديٍّ يقاوم الابتذال السياسي، ويعيد تعريف اليسار المغربي بوصفه فكرًا وطنيًا لا يُختزل في الاصطفاف، بل يُمارَس كالتزامٍ أخلاقيٍّ تجاه الوطن والمجتمع. في المقابل، ظهر "الزعيم الضرورة" عاجزًا عن استيعاب هذه الدينامية الفكرية، فأسقطها على ذاته. توهّم أن الخطاب موجّه له، ونسي أن السياسة ليست مرآةً للنرجسية بل مِرآةٌ للوطن. فاندفع إلى تأويلٍ سطحيٍّ كشف عمق أزمته الفكرية، وأبان عن جهلٍ مؤسفٍ بالعلاقات الحزبية الأممية التي تُبنى على الاحترام المتبادل، لا على الولاء والانقياد. إنَّ من يخلط بين التضامن الأممي والانحياز الإيديولوجي، ومن يرى في كل تضامنٍ يساريٍّ تهديدًا لمرجعيته، لا يمكن إلا أن يكون أسيرًا لعقيدةٍ مغلقةٍ لا تؤمن بتعدد الأفكار ولا بحرية المواقف. ذلك أن الوطنية، في عمقها، ليست انغلاقًا ولا عداءً للآخر، بل قدرة على جعل المصلحة العليا للوطن معيارًا للانفتاح، لا ذريعة للتبعية. إنّ ما يُهدد الانسجام الوطني اليوم ليس صراع الأفكار ولا اختلاف البرامج، بل تسلّل أنماطٍ من الولاءات المزدوجة التي تُظهر الوطنية في الخطاب وتُخفي الارتهان في السلوك. فحين يصبح الولاء للأشخاص أو للجهات الخارجية معيارًا للانتماء السياسي، يُصاب العمل الحزبي في عمقه بالانفصام، وتتحول الممارسة السياسية إلى أداةٍ للتسويق الشخصي لا لخدمة الصالح العام. إن حماية القرار الوطني لا تتحقق بالشعارات، بل ببناء ثقافةٍ سياسيةٍ جديدة تُعيد تعريف الوطنية باعتبارها مسؤوليةً أخلاقيةً وجماعية، تُترجم بالالتزام الفعلي بمؤسسات الدولة، وبالإخلاص للثوابت الجامعة، وبالقدرة على تغليب المصلحة العليا للوطن على كل انتماءٍ ضيق. لقد أثبتت التجربة أن من يفقد البوصلة الفكرية يلوذ بالولاء الخارجي ليعوض خواءه الداخلي. ومن يهرب من نقد الذات يلجأ إلى صناعة الأعداء. لكنّ التاريخ لا يُنصف إلا من كان صادقًا مع وطنه، لا من غلّف عجزه بشعارات العابرين. فالوطن لا يُدار بالبيعة العابرة ولا بالمشاعر المجلوبة من الخارج، بل يُبنى على الإخلاص والصدق والالتزام بمشروعٍ جماعيٍّ يُعيد للسياسة معناها النبيل وللوطن كرامته الجامعة.