لا يمكن الحديث عن الأعمال التشكيلية للفنان عبد اللطيف بلعزيز دون الغوص في ذهن الرجل من خلال السؤال: من اين يستقي هذا الفنان رؤيته للجسد وللمنحنيات الخاصة بالجسد وللوجوه التي تشكل اعماله؟ يستوقفك دائما هذا السؤال وأنت في مقابلة شائكة مع لوحات تستعرض العري الباذخ الشائك والمختلف. ما يبعثك على السؤال هو أنك بحجم فضاحة الجسد المعروض أمامك بشكل باذخ فاضح، بقدر الغموض الذي يحجب عنك رؤية العري كما هو مشتهى، لذا فأنت امام رؤية جديدة للجسد لا تتوخى استعراضه كمادة تستهلك حين المشاهدة وإبانها، بل تتوخى وضع الجسد موضع إشكال متشابك من منطلقات وخلفيات معرفية فنية، يؤطرها الاطلاع الواسع على مدارس عالمية وتيارات فكرية متشابهة. تبقى المداخل متعددة لقراءة موضوعة الجسد في أعمال عبد اللطيف، وهي على كل حال مداخل تساهم في رفع الغموض عن أسلوب الرجل، إلا أنه من المفيد أن نقارب أعماله من باب فن آخر يتناول الجسد موضوعا له بامتياز. وفي اعتباري شخصيا لا يمكن الوقوف على معنى الجسد في أعمال بلعزيز دون طرق باب النحت الذي يبدو فيه الجسد دائما مادة الاشتغال المفضل. يقدم لنا تاريخ فن النحت وعلاقته بالجسد اشتباكات تقع على حافة الرؤى المعرفية المؤطرة لعصور معتبرة. فالجسد هذا يقدم عبر مراحل التاريخ من زوايا بصرية متعددة، ومن مقدمات جمالية مختلفة تحكم كل مرحلة من تاريخ البشرية. فكل عصر تربطه بالجسد نظرة تحتكم الى خلفيات أيديولوجية ومعرفية تؤثر في النظرة الجمالية التي تطبع تلك المرحلة، يحضر الجسد مطابقا في العصر اليوناني ويحضر لا متوازنا مختلا لصالح القوة في أجساد منحوتات عصر النهضة، عصر الانسان المطلق ومصدر الحقيقة الأوحد.ويأتي العصر الباروكي ليتجاوز الجسد معناه المباشر الى دلالات الرغبة واللذة والإحساس المتميز بالأنا المتفوق. لا تخفى علاقة عبد اللطيف بلعزيز بعالم النحت، فهو رجل يصقل بإحساس كبير ولا تخفى معرفته العميقة بالمدارس المختلفة في النحت ومعرفة أكاديمية معمقة في الرسم، ومن تمكنه من رؤية فلسفية معاصرة تناولت الجسد من خلال التشريح الحفرياتي المعاصر كما هو الشأن لدى فلاسفة الأركيولوجيا الحديثة، مما مكنه من ابتداع رؤية جديدة تتوازى فيها المعرفة الفنية والفلسفية وهو ما أعطى لعبد اللطيف بلعزيز سمة صاحب مدرسة أو صاحب طريقة إن شئت القول. رغم تعدد عوالم لوحات عبد اللطيف بلعزيز إلا أن هذا التعدد محكوم بموضوعات تستدعي سلفا حضور الجسد المترنح في وضعيات تناول مختلفة، يحضر فيها بلعزيز بكل ثقله حاملا معه همه الأساسي في خرق التوازن المطلوب وكسر التنسيق وترتيبات النسق العام المسبق لكل عمل فني، فلا يمكن فهم هذا المنحى من العمل دون المقارنة بالأعمال التي وظفت الجسد في عملية النحت ومدارسه النهضوية أعمال مايكل أنجلو وباتشيو باندينيللي وكذلك الفنانون الذين طوروا الأسلوب المجازي للقوطية كجورجو فازاري. يعتمد بلعزيز طراز الماقبل نهضوي لتثبيت وترجمة صور لآلهة قديمة كلوحته المسماة المليحات الثلاث. إنه يتمثل الأساطير الكبرى التي طبعت خياله بفعل نشأته على ضفاف نهر اللوكوس وهضبة ليكسوس محصلة حضارة العصر الهيلينستي، حيث تتجمع فيها فسيفساء الالهة ومسارح الرومان القديمة وأساطير مروية لصراع الآلهة. إن النحت الذي يمارسه بلعزيز في فضاء اللوحة لأجساد أبطال أعماله لا ينضبط لأصول المدارس الكلاسيكية. إنه عتبة دخول فقط، فحالما يبدأ العمل بالتشكل تبدأ المؤثرات المعاصرة تتسرب بشكل صامت وسري من خلال استعماله الضوء الذي يجعله اختيارا فنيا راجحا حين يصير منطقة نفاذ مسلط بشكل فني على المناطق محددة، يشتغل فيها الضوء بشكل عام على تبويب وترتيب هذه المناطق في لوحاته. إن الضوء عند بلعزيز في أجساد شخوص لوحاته يجمد الجسد من خلال جعله يحيل الى الامتلاء الشهي واللامتوازن، يمارس من خلالها استفزازا مزدوجا لعين الرائي، إذ يعول دائما، كما يحلو له أن يقول، على استفزاز المتلقي متعمدا استثارة رد الفعل المفاجئ، وتكسير أفق الانتظار لديه من خلال الألوان المضللة الذي تثيرها على حافة المنحنيات الفاصلة بين الجسد الموضوع الذي يجب أن يشاهد بفحص فني والجسد الممتلئ حد الإثارة. لا تختلف أعماله التشكيلية في مقاربته للجسد عن الأعمال المنحوتة لباتشيو باندينيللي. فمنحوتة»رمزية الموت» أو «ذكر عاري يتكئ على رجل واحدة» أو «ذكران عاريان» تجد لها على مستوى التماثل التمثلي للجسد نسخا مؤنثة لها لدى بلعزيز،إنه يلتقي مع تيار النحاتين الكبار ويتفوق عليهم بالمتاح له من المقدرات السحرية للألوان والأضواء بحيث تحضر المرأة في أعماله بإضافات لا تتوفر لدى النحات، فالمرأة تأتي وارفة فائضة عن الحد المطلوب، كل النساء لديه بجسد مملوء. فالممتلئ كوضع، كمقاربة للمرأة ساعده في التصوير المرافق لقناعاته الفنية المعتمدة على التضخيم اللامطابق مثل المنحوتات التي أشرت إليها، غير أن المنحوت يبقى مكتملا والمشكل المرسوم لدى بلعزيز يبقى خارج المصالحة، إذ يبقى مناقضا قابعا بين الممتلئ والفارغ، بين الثقافة والغريزة.. بين الواضح والخفي، بين الجلي والمبهم، بين القراءة المباشرة للوحة والتأويل المصاحب اللصيق بها في نفس الآن بسبب قبضه الفني على تلبسات ومصادفات وتورطات حقيقية لشخوصه المرسومة عبر الشبكيات الدقيقة الموغلة في الصفر والهامشية التي يعشقها بجنون عبد اللطيف بلعزيز. عنوانها العريض الأبرز ولكن الخاص بمدرسة بلعزيز، هو تلك المصالحة التي يستعملها في المزج في اللوحة الواحدة بين الألوان الفاقعة والرخوة التي تلعب دور المبتدأ والخبر في الجملة الإعرابية، وهو ما لا يتوفر لدى النحات الذي يستدعي سجلا تشريحيا تكنيكيا في النظر الى الإنسان كآلة كخارج، كمظهر خارجي صرف، بينما في عالم الأضواء والألوان يستطيع بلعزيز أن يخرج من هذا الاختزال المادي الخارجي للإنسان الى مستويات نفسية تناولتها بدقة في مقالة عن الوجوه التي يرسمها بإبهار وسحرية. أين يلتقي بلعزيز التشكيلي مع نحاتي فكر النهضة؟ كيد يلتقي الاثنان في الذهاب الى أقصى حد في تمجيد الجسد، ملتقيا في الجوهر من الفكرة مع نحاتي عصر النهضة على مستوى تيمة الاشتغال، لكن مرتدا عنهم وضاربا عرض الحائط كل الاعتبارات السكولائية الصارمة للقياس والانعكاس والتناسق والتنسيق والنسق، فالأمر عادي من رجل عاش في أوروبا إبان مرحلة شكلت دروة النقد الجارح للبنيوية بعد الاحداث الطلابية في باريس خلال عقد كامل من سبعينيات القرن الماضي.