المغرب يعزز دوره القيادي عالميا في مكافحة الإرهاب بفضل خبرة وكفاءة أجهزته الأمنية والاستخباراتية    هزة ارضية تضرب نواحي إقليم الحسيمة    ارتفاع رقم معاملات السلطة المينائية طنجة المتوسط بنسبة 11 في المائة عند متم شتنبر    إيداع "أبناء المليارديرات" السجن ومتابعتهم بتهم الإغتصاب والإحتجاز والضرب والجرح واستهلاك المخدرات    بلومبرغ: زيارة الرئيس الصيني للمغرب تعكس رغبة بكين في تعزيز التعاون المشترك مع الرباط ضمن مبادرة "الحزام والطريق"    لقجع وبوريطة يؤكدان "التزام" وزارتهما بتنزيل تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية بالمالية والخارجية    أشبال الأطلس يختتمون تصفيات "الكان" برباعية في شباك ليبيا    مؤامرات نظام تبون وشنقريحة... الشعب الجزائري الخاسر الأكبر    الرباط.. إطلاق معرض للإبداعات الفنية لموظفات وموظفي الشرطة    بوريطة: الجهود مستمرة لمواجهة ظاهرة السمسرة في مواعيد التأشيرات الأوروبية    اللقب الإفريقي يفلت من نساء الجيش    منتخب المغرب للغولف يتوج بعجمان    ‬النصيري يهز الشباك مع "فنربخشة"    الجمارك تجتمع بمهنيي النقل الدولي لمناقشة حركة التصدير والاستيراد وتحسين ظروف العمل بميناء بني انصار    عبد الله بوصوف.. النظام الجزائري من معركة كسر العظام الى معركة كسر الأقلام    نهضة بركان يتجاوز حسنية أكادير 2-1 ويوسع الفارق عن أقرب الملاحقين    عمليات تتيح فصل توائم في المغرب    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    بعد قرار توقيف نتنياهو وغالانت.. بوريل: ليس بوسع حكومات أوروبا التعامل بانتقائية مع أوامر المحكمة الجنائية الدولية    أنشيلوتي يفقد أعصابه بسبب سؤال عن الصحة العقلية لكيليان مبابي ويمتدح إبراهيم دياز    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة        المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة الجاحظ ويحافظ على حصته من التونة الحمراء    التفاصيل الكاملة حول شروط المغرب لإعادة علاقاته مع إيران    الأخضر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    كرة القدم النسوية.. توجيه الدعوة ل 27 لاعبة استعدادا لوديتي بوتسوانا ومالي    اغتصاب جماعي واحتجاز محامية فرنسية.. يثير الجدل في المغرب    الحسيمة تستعد لإطلاق أول وحدة لتحويل القنب الهندي القانوني    هتك عرض فتاة قاصر يجر عشرينيا للاعتقال نواحي الناظور        قمة "Sumit Showcase Morocco" لتشجيع الاستثمار وتسريع وتيرة نمو القطاع السياحي    انتخاب لطيفة الجبابدي نائبة لرئيسة شبكة نساء إفريقيات من أجل العدالة الانتقالية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    نمو صادرات الصناعة التقليدية المغربية    اعتقال الكاتب بوعلام صنصال من طرف النظام العسكري الجزائري.. لا مكان لحرية التعبير في العالم الآخر    بعد متابعة واعتقال بعض رواد التفاهة في مواقع التواصل الاجتماعي.. ترحيب كبير بهذه الخطوة (فيديو)    محمد خيي يتوج بجائزة أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    المعرض الدولي للبناء بالجديدة.. دعوة إلى التوفيق بين الاستدامة البيئية والمتطلبات الاقتصادية في إنتاج مواد البناء    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    مثير.. نائبة رئيس الفلبين تهدد علنا بقتل الرئيس وزوجته    ترامب يعين سكوت بيسنت وزيرا للخزانة في إدارته المقبلة    فعالية فكرية بطنجة تسلط الضوء على كتاب يرصد مسارات الملكية بالمغرب        19 قتيلا في غارات وعمليات قصف إسرائيلية فجر السبت على قطاع غزة    "السردية التاريخية الوطنية" توضع على طاولة تشريح أكاديميّين مغاربة    بعد سنوات من الحزن .. فرقة "لينكن بارك" تعود إلى الساحة بألبوم جديد    "كوب29" يمدد جلسات المفاوضات    ضربة عنيفة في ضاحية بيروت الجنوبية    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جاك ديريدا: إرثه، بعد عشر سنوات من وفاته!
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 06 - 03 - 2015


بقلم: جون بيرنبوم
قبل عشر سنوات،رحل عنا فيلسوف "التفكيك".،سنحاول، من خلال هذه المقالة، البحث في الإرث الذهني، لمفكر يرتاب من الورثة.
جاك ديريدا،مسكون أكثر بهاجس البقاء، من الموت.قلقه ذاك،هيمن عليه كليا، سواء في تجربته اليومية، وكذا نصوصه الفلسفية،يقول بهذا الخصوص :((مختلف المفاهيم التي ساعدتني على الاشتغال،لاسيما مفهومي الأثر والطيف،كانا مرتبطان،ب"البقاء الأصلي''،باعتباره بعدا بنيويا)).
سنة 2004،حين اكتشف إصابته بداء السرطان،ستنشر له جريدة "لوموند"،حوارا أخيرا لمنظر التفكيك الشهير،بحيث منحه طابع وصية.ديريدا الذي كان يبلغ 74عاما،أدرك جيدا أن بقاءه أضحى مسألة وقت،فبدأ أكثر انشغالا، بإرثه الفكري :((أترك هنا،قطعة ورق،ثم أذهب كي أموت :يستحيل الخروج من هذه البنية،إنها الصيغة الثابتة لحياتي.خلال كل مرة،أسمح معها برحيل شيء ما،فإني أحيا موتي داخل الكتابة.اختبار في حده الأقصى:إننا ننزع الملكية،دون أن نعلم إلى من انتهى الشيء الذي تركناه،من سيرثه؟كيف سيتحقق ذلك؟بل، هل سيكون له ورثة؟)).
عشر سنوات مرت على رحيل جاك ديريدا،وبالضبط يوم9 أكتوبر2004 .حدث، يطرح ثانية التساؤل بكيفية عاجلة، وبالتالي فهو الذي نسف لبنة وراء لبنة، يقينيات الفلسفة، ثم ألهم بكتاباته المحللين النفسانيين والقانونيين والمهندسين والسينمائيين- نستحضر فقط فيلم ''DeconstructingHarry ''لصاحبه وودي ألن-هو ''اليهودي الجزائري الصغير''المجسد للفكر في عيون العالم قاطبة. ديريدا، المثير الذي حظي داخل أمريكا بوضع لايعيشه أصلا سوى نجوم السينما،هو الذي خصصت له جريدة "لوموند"، ملفا خاصا تضمن عشرات الصفحات،لحظة موته،مما شكل واقعة استثنائية. ديريدا، الذي يبدو حاليا، أنه اهتدى ثانية، إلى وضع التطهير.
بالنسبة لأغلب الفلاسفة الذين استفسرناهم، لم يعد ديريدا يستشهد به، بذات الزخم، كما كان على قيد الحياة.أيضا، هو أقل مقروئية، قياسا لوجوه أخرى يرتبط بها اسمه بكيفية فورية، ولنبدأ ب "دولوز" و"فوكو" :((حينما تشغل مكانة مهمة جدا كما الحال مع جاك، فبالضرورة ستعيش انحدارا بعد ذلك.الوضع ذاته،عاينته لدى سارتر،حينما كنت طالبا))،يتذكر "جون لوك نانسي" أحد أقرب أقربائه.ثم يضيف، "ماتيو ?بوت- بونيفيل"، البالغ من العمر 35 سنة، لحظة وفاة الفيلسوف:((يعتبر هذا المفعول للتطهير، كلاسيكيا. حين وفاة فوكو أيضا ، انتظرنا عشر سنوات، كي نتمكن من إعادة الاستشهاد به،لأن مختلف القضايا التي ألهبها،تم التخفيف منها بعدم مناقشتها.لكن ديريدا، أحدث بغضا نادرا من نوعه، لاسيما في فرنسا،فلم يظفر قط بمنصب جامعي.زيادة على ذلك،الكوليج الدولي للفلسفة الذي أسسه ديريدا سنة 1983،كي يسائل هوامش المؤسسة الفلسفية، بجعلها منفتحة على التدريس الثانوي وكذا الأجنبي ،ثم الحقول غير الفلسفية. بالتالي، الكوليج الذي جسد كل شيء، غير كونه مدرسة مكرسة لفكر ديريدا،يمثل اليوم موضوع تهديدات جسيمة من لدن وزارة البحث )).
إضافة، إلى هذا الجانب،الناتج على''ردة فعل''،تقوم مبررات ثانية،تفسر التراجع النسبي لديريدا، من المشهد الفلسفي الفرنسي والدولي.لنبدأ،بصلته الخاصة بسؤال التركة،فأن ترث تعني بالضرورة،المحافظة لكنه كذلك خيانة،يستطرد صاحب "الوفاء الخائن"، محذرا باستمرار تلاميذته، من أفخاخ النقل وكذا الاقتراض :((ديريدا قارئ كبير للأدب وكذا فرويد ولاكان،هكذا منح إمكانية إعادة قراءة جميع نصوص الفكر،خارج رطانة المدارس)) ،تشرح "إليزابيت رودينسكو''،مؤرخة التحليل النفسي.
لهذا السبب لايمكن أن يوجد،شيء ما بمثابة "ديريديين"،اللهم إلا إذا أخذنا في الحسبان من يكتفون بترتيل لغة الأستاذ. ذاك، النثر العجيب، الذي ستتفاعل معه هامسا كأنك تخرج الصوت من بطنك،منذ الدقائق الأولى لمصادفته :((أعشق كثيرا المحاكاة الساخرة،لذلك أخبرت ذات يوم جاك،بأني أتطلع فعلا إلى كتابة عمل يحاكي سخرية الفلاسفة،تؤكد شهادة جون "لوك نانسي"،فأجابني على الفور :"ليس أنا، إذن؟"،كما لو يشعر،كونه أحد أكثرهم سخرية)).
للأسف تلك الكتابة الجذابة،بصيغها المعروفة بسهولة مع تعابيره الرمزية،توشك أن تختزل عمله بعد رحيله، إلى مجرد اجترار كلامي ،وكذا تلامذته إلى ثرثارين.يقول "بيتر زيندي"،الذي سبق له الالتقاء بديريدا سنة1995،لحظة إنهائه لأطروحته : ((تتصف وضعية ديريدا داخل فرنسا، بكونها إشكالية.يستحسن تجاهله باحترام،لكن الأسوأ هو أن نمارس حياله تقليدا إيمائيا خالصا،ففكر ديريدا هو فكر الواقعة، التي تأنف من تحمل التكرار،بالتالي تمثل أيضا انتقاداته، أفضل من يرثه)).
ضمن هؤلاء،"كاترين مالابو''،التي كانت قريبة من ديريدا،قبل أخذها مسافة منه.بالنسبة إليها،فزيادة على الضغينة التي شكل الفيلسوف موضوعا لها،أو كذا علاقته بالإرث،سيمثل منذئذ،مفهوم "التفكيك " نفسه شاشة لإشعاعه، تقول : (( التفكيك،هو أن تسائل ، كل مايطرح نفسه باعتباره بداهة.لكن، مناحيه ينبغي أن تتغير.عند ديريدا، انصب كل شيء حول الكتابة والنص والكتاب.... اليوم،يتأتى الانقلاب من جهة أخرى،من قابلية التشكل، بمعنى هو أثر ،غير مقيد، لكنه شكل متحرك كما في الدماغ أو نظارات غوغل.إذا لم يستحوذ التفكيك على كل هذا،سيغدو فكرا بدون مستقبل)).
السير على هدى ديريدا،من أجل تعبيد طريقه الخاصة،وخلخلة معجمه كي نستحضراللغة ثانية معه، سيكون ذلك ربما أفضل وسيلة لاستعادته في نهاية المطاف :((يعتبر ديريدا، مرجعية لامناص منها،غير أن الأفراد لايدركون كثيرا عن ماذا يتكلمون، حينما يستشهدون به- يشير جاكوب روغوزنسكي- في كتاب صادر عن ديريدا بمناسبة حلول هذه الذكرى العاشرة-عندما يستكشف رولان بارت، ملاحظات تلامذته حوله،فقد أثاره رؤية رأسه وقد أضحى صغيرا، مثل الرأس المقطوع عند قبائل هنود جيفاروس jivaros،هذا يلائم بشكل خاص ديريدا،لأننا ما إن نختصر فكره حتى نعمل على تحويره،فلا توجد لديه كلمة سيدة،التي بوسعنا أن ننقلها بسهولة.وضع يجعله مكروها،من لدن المؤسسات وكذا حراس التفسير)).
ليس هناك كلمة سيدة ،لكن كتابة مرهفة،ترفض أن تجزم ،تتحسس باستمرار وتبدي تصدعاتها وشكوكها.سنجد لديه،بدل حيز مكان خط سوي،مسلكا متحمسا لكنه متعرجا،ترصعه منعطفات متوقدة،وكذا مماطلات خصبة.هكذا يطرح،الفعل النقدي عند ديريدا،سؤالا حول سؤال،منتهيا بشكل عام ،بطرح السؤال حول السؤال ذاته .مجازفا، بالانتقال إلى متشكك،والظهور بصورة مفصول ، عن سياق فترة تاريخية عاشت تحت ضغط تلهفها لليقينيات.
يقول باتريس مانجلي، المنتمي إلى طليعة الفلسفة الفرنسية:((بقدر ماهناك خط مستقيم، متخلص من العقد،توجد اليوم ميتافيزيقا جديدة متحررة من العقد، ترفض مركزة النقد،ومتوخية إعادة الارتباط، بأشكال للإثبات،نحيل مثلا على ''برونو لاتور'' أو ''آلان باديو'' .لذلك، جسد ديريدا بشكل من الأشكال،وجها مميزا بالنسبة لشباب يتطلعون كي يقولوا الحقيقة وفق صيغة الراديكالية السياسية.لقد علمنا ديريدا أن نتأمل، ونتمهل،فخلق للشاب المرتاب بل والمعقد كذلك،أفقا فلسفيا،كان رائعا جدا.لكن اليوم،يرغب كثير من الشباب، في الفعل)).
بالتأكيد،لعمل ديريدا قوة سياسية أصيلة،لأنه يلغم كل الانتماءات ويتوخى شروط عدالة مستقبلية،مثلما يشهد على ذلك،حضور الفيلسوف إلى جانب نضالات المهاجرين الذين لا يملكون أوراق الإقامة، أو رحيله إلى زنزانة نيلسون مانديلا.مع هذا، وقياسا إلى فوكو ودولوز بل وسارتر،تبدو نصوص ديريدا، أقل تحريضا على النحو المباشر :(( لقد كتب ديريدا وسط عالم،يقف حيال يقينيات كبرى،سواء ماركسية أو كاثوليكية. في عالم ساخر،مثل عالمنا،يبدو أقل جدوى. إن ديريدا، مثل فاضح لأوهام السحر، يحتاج إلى اعتقاد الحشد،حتى يكون لتفسيره صدى.حاليا،الحشود ليس لها الوقت، كي تعتقد بسحر ما))يلاحظ،"تيموتي سوكري"،وهو أستاذ شاب بجامعة مانشستير.لكن بشكل مفارق، فهذا المحو لديريدا النجم، والوسيم والجذاب والمعشوق، مكنه كي يصير في النهاية كلاسيكيا، ضمن صمت المختبرات والمكتبات.
مؤخرا،نظمت في صالة مسرح المدرسة العليا بباريس،شارع أولمUlm،المتواجدة في الطابق السفلي،ندوة كبرى،تمحورت حول ديريدا.غمرت قاعة العرض،إضاءة خفيفة،مسرح بالنسبة لهذا الكاتب المسرحي،وشبه عتمة لصاحب تنظيرات ماهو خفي :هذا المرة،كان ديريدا متواجدا بين أفراد أهله ،باعتباره أحد تلامذة تلك المدرسة،التي انقطع عنها منذ مدة طويلة :((في شارع أولم،هناك فريق يسمى :"اقرأ ديريدا واشتغل عليه ''،حيث يتلاقى باحثون في مرحلة الدكتوراه من مختلف بقاع العالم))تشير شهادة ل ''مارك كريبون'' ،المشرف على قسم الفلسفة، في المدرسة العليا للأساتذة.
رغم أن ديريدا،مازال بعد يثير كثيرا من العدوانية، فقد ولج قائمة كوكبة الكلاسيكيين،ونقرأه آنيا مثل سارتر أو ميرلوبونتي.لقد ناقشت أطروحتان في السوربون،تمحورت حوله،حدث لم يكن واردا قبل عشر سنوات !هذه القراءات الثاقبة،التي تتلخص من المحاكاة، تهم ليس فقط نصوصه الإتيقية المتعلقة بالوعد والمسؤولية والصفح والعدالة أو الإعدام،لكن كذلك ما نعته "جون لوك نانسي" ب"أسس التفكيك"،مثلا كتاباته حول هوسرل والفينومينولوجيا، ثم ما أسميه ب"نخبوية التناول'':كتب ديريدا، باستفاضة عن أنطوان أرتو، وجان جينيه، وبول سيلان،وولتر بنيامين،وكارل شميت...،فما إن يتجه اهتمامك نحو واحد من هؤلاء،حتى تعثر على ديريدا مع كل لحظة وأخرى.
أرتو وجينيت وسيلان...،كثيرة هي الأسماء التي تذكر بمصاحبة ديريدا للشعراء والكتاب،ورفضه المعلن دائما بخصوص الفصل بين الأدب والفلسفة،مما كلفه ثمنا غاليا،لأنه في الوقت الحالي أيضا،يسخر منه مغتابيه الأكثر غيرة،بدءا بكبار ممثلي الفلسفة التحليلية،مادام ديريدا يظل ببساطة في نظرهم، مجرد مدرس للبلاغة.لكن، ذلك، مكنه أيضا من التوطد داخل مؤسسات أكاديمية،رفضت استضافته.
أما بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية،فلم يمارس فقط تأثيرا جليا على أقسام الأدب المقارن،بل ساهم في أن يشكل هناك نماذج للتدريس،بحيث مثلت نصوصه غالبا،مرجعية، كما يقر بالحقيقة "دينيس هوليير"،أستاذ بجامعة نيويورك :((لقد غير ديريدا مجرى الحياة داخل هذا الفضاء الرهباني،كما الحال مع وضع الجامعات الأمريكية.بالنسبة إليه،لايتأتى الارتباط فقط من الموسوعية،حتى ولو عجز عن التفكه بآلاف النكت، التي كان يدلي بها خلال كل واحدة، من زياراته، إلى الحرم الجامعي.حتما توجد جماعات الرفض،لاسيما في الدراسات الأدبية التقليدية،التي تستكين إلى الموسوعية دون مجازفة مفهومية.كذلك،احتاج الطلبة أكثر،إلى إرساء مع ديريدا، حول أسئلة راهنة مرتبطة بالنسوية،ثم مابعد الكولونيالية،غير أنه صار كلاسيكيا.في المداخلة التي خصصتها للسيرة الذاتية،فمختلف الأسئلة التي طرحها الطلبة، انصبت عليه،والكثير منهم قرأوا مرارا مقاطع عن روسو، وردت في كتابه عن الغراماتولوجيا)).
ديريدا،الأقل شهرة فيما وراء المحيط الأطلسي،قياسا بمكانته في الماضي، ثم الأقل إثارة من الناحية السياسية كما الحال مع فوكو أو دولوز،مع ذلك فهو يستفيد من هالة جديدة،تتعلق بالكاتب الموروث ،والدليل على ذلك،المشروع الهائل للمطبوعات الجامعية بشيكاغو،التي قررت ترجمة مجموع محاضراته إلى الانجليزية،تقول المؤرخة جيزيل سابيرو :((هو مشروع بدون نظير، أتى على إصدار دراسة مثيرة للاهتمام حول ترجمة العلوم الإنسانية. فريق، يضم مختلف المختصين، سيجتمع كل سنة كي يناقش الترجمة.سعي مدهش،حينما نعلم انحسار الترجمات من اللغة الفرنسية،وضعف الوسائل.فضلا عن ذلك،فمابين 2002و2012،لاحظنا بأن دور النشر الفرنسية الأولى، الأكثر ترجمة داخل الولايات المتحدة الأمريكية،هي دار النشر العريقة "le seuil "،أما الثانية فهي دار نشر صغيرة تسمى "غاليلي"،المكلفة بنشر أعمال ديريدا !)).
مثل باقي المفكرين،الذين نصنفهم تحت تسمية "النظرية الفرنسية'' French theory ،(دولوز، فوكو، بودريار، ليوتار) ،سيعود ديريدا فيلسوف التعرج إلى منزل الأهل،بعد تجوال طويل ،في أمريكا :((تقريبا مثل هيدغر،العائد إلى ألمانيا عن طريق فرنسا،سيرجع ديريدا إلى فرنسا عبر أمريكا)) ،تشير ضاحكة الفيلسوفة باربارة كاسان.
كذلك،انتقل ديريدا كثيرا بين تركيا والبرازيل والهند واليابان،بلدان عديدة،تضم كثيرا من تلامذته، المدركين لوجوده أم لا :((كما تكلم ديريدا أحيانا عن مناصرين سريين للماركسية ،فكذلك يوجد اليوم مناصرين سريين لديريدا،بحيث يوظفون هذا المفهوم أو ذاك،دون إدراكهم،بأنها تنتسب إليه))يلاحظ كازاوا ماسودا،أستاذ في جامعة طوكيو.
سافر ديريدا كثيرا،وعاد مختلفا وبنجومية أقل،وبشخصية تراجع زخم قوتها،قياسا للسابق.الفلاسفة الشباب،الذين استحوذوا على نصوصه، لم يعرفوه في الغالب، بالتالي يشعرون بحرية أكثر نحوه :((ديريدا المتعب، والصامت،والمكتئب على الدوام، هو ديريدا الصفح والعدالة.نتشوق إلى ديريدا المنتعل لأحذية سوقاء، مع إثارة ، ديريدا الروك أندرول. على النقيض من الفلسفة الواقعية الجديدة الحالية،التي تفكر في إمكانية صنع التساوي ،بين الواقع والتأمل،سيعلمنا ديريدا أن التفكير مجازفة،بحيث لاندري قط أين المنتهى بين الفكر والواقع.مثلا الاشتغال ثانية، مع ديريدا عن مفهوم الحيوان،يعني الشروع، بالعيش وسط عالم، لا يمكننا في إطاره أبدا، تمثل اللحم بذات الطريقة.ليس هناك لحم، بل، جسد مغتال))،الحديث لباتريس مانيغليي.
مسار ديريدا ،باعتباره وفاء غير وفي،المؤمن بأن أفضل طريقة لاحترام إرث،تكمن في العمل على إفرازه كي ننقذه،ثم تحويله حتى نجعله ينطلق ثانية بشكل أفضل :((ليس أن نختاره(لأن ما يميز الإرث،أننا لانختاره أبدا،بل هو الذي يختارنا ويصطفينا بحدة)،بل اختياره،كي نبقيه حيا... . ينبغي التفكير في الحياة،انطلاقا من الإرث،وليس العكس))،يؤكد الفيلسوف في حواره مع إليزابيث رودينسكو.
وراثة جاك ديريدا،بعد عشر سنوات من وفاته،يعني أن ننصفه. الجواب سيكون، بإخراجه من المِطْهر وعرضه أمام كل كل الرياح.أولا،تبيان أن التفكيك، الكلمة التي أعلن ديريدا بنفسه منذ زمان عن استهلاكها،وبعيدا عن كونها مسارا سالبا وعدميا،تمثل بالأحرى فعلا للإثبات وفلسفة للحياة.يؤكد صديقه جون لوك نانسي،قائلا :((الوجه الأكثر اختفاء لجاك،هو ما يصنع راهنيته،إنه تأكيد حقيقي.فيما وراء سلبية ظاهرة،يقول ديريدا الآن، نعم. إنه حاضر،مثل الذي ينفلت،لكن له بالضبط مكانا، من خلال انفلاته. إنه حضور شخص، والالتقاء والمجيء)).
نعم،يعود ديريدا،لقد انبعث ثانية منذ مدة،لكن وداعا للمِطْهر،ثم مرحبا بالتحويل.
هامش:
*للاطلاع على النص الأصلي يمكن الرجوع إلى :
Cahier du monde ; numéro 21695 ;octobre ;2014.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.