كما رأينا ذلك كلنا، وكأنه كابوس ليل طويل، بأيدينا المغلولة إلى الأعناق، أفواهنا المنسوجة بالصمت، وأرجلنا العاجزة عن الرحيل نحو العدم.. كنا ضعافَ الجناح كسربٍ من الطيور الجائعة، نحمل هزائم التاريخ بالمناقير والمخالب، نبني أعشاش عشبٍ لأفراخٍ زغب الحواصل بين أغصان أشجار المنفى، والصياد يردينا، الواحد تلو الآخر، برصاص الأمنيات القديمة، أكوام جثث تسّاقطُ على أديم هذه الأرض عارية من تراب المقبرة.. لا أحد سيتذكر أننا كنا هنا في هذه السماء الرحبة نطير، وأننا حفرنا الطريق للعابرين، وفتحنا الأبواب كلها.. وحين عبروا ودخلوا، ألقونا من النوافذ زمرا، وأغلقوا المعابر والمنافذ، أطلقوا الصياد في أثرنا.. تشتتنا في غياهب الغربة نبحث عن بقايا ريشنا بين أكوام الحجارة المنسية على قارعة برد الطرقات، نحاول أن نداري بما تبقى منها دموع الأمهات الجالسات على عتبات الأبواب الحزينة، ينتظرن أن تعبر الطيور أسرابا، يسهرن في غرف مشرعة على الريح، لعل طائر آخر يأتي به الليل ليملأ صباحهن بنداء الغريد.. لكن، وكما رأينا ذلك كلنا، مثل كابوس ليل طويل، كنا هنالك بأيدينا المغلولة إلى الأعناق، أفواهنا المنسوجة بالصمت، وأقدامنا العاجزة عن الرحيل نحو العدم، ننظر بعيون فارغة من الحياة كيف يطلق الصياد الرصاص على أسراب الطيور، وكيف تنفجر قلوبها الصغيرة، وتنزل مطرا من الدماء بين أحضان الأمهات القانتات الجالسات على عتبات المنازل، ينتظرن عودة الطيور إلى أعشاشها الصغيرة..