أحببت أن أشارك في هذه الندوة* بمداخلة حول مكون أساسي من مكونات الرواية المغاربية المكتوبة باللغة الفرنسية، وبالتخصيص الكتابة الروائية عند أحد أعلامها البارزين، الكاتب التونسي عبد الوهاب مؤدب، صاحب رواية «الطلسم» Talismano من النافل التأكيد على الإشكاليات اللغوية والأدبية والثقافية، وعلى الملابسات التاريخية التي أحاطت بظهور هذه الرواية المغاربية، فضلا عن الجدل الذي لم يخفت إلى حدود الآن، والذي دار حول انتمائها المزدوج إلى المجال الثقافي الفرنكفوني، أو إلى المجال الثقافي المغاربي. لقد انشغلت أدبيات بأتمها، وطيلة العقود الأخيرة من القرن العشرين (الستينيات وما تلاها) بالأسئلة الخصبة التي ولدها هذا الأدب، بفضل موقعه البيني بين اللغات، وبين الثقافات والمتخيلات (الفرنسية، والعربية والدارجة). ويكفي بهذا الخصوص الإشارة إلى الخصوبة المفاهيمية التي أنتجتها أسئلة هذا الأدب، وقضاياه الجمالية والفكرية، من قبيل، التثاقف ، المثاقفة ، مابين اللسان ، اللسان المثنى، النقد المزدوج.. وقد ذهبت بعض الدراسات المختصة إلى أن هذا الأدب لا يكتب اللغة الفرنسية بشكلها المتداول، بل يكتب « فرنسيته الخاصة»، أي يكتب لغة فرنسية منتزعة من اللغة الفرنسية االمعتمدة، ومجتزأة من مجال تداولها العام. وبوسعنا أن نشير بهذا الخصوص إلى الموقف المأثور للكاتب الجزائري الكبير كاتب ياسين، وإلى حديثه عن اللغة الفرنسية باعتبارها لغة «غنيمة»، تنال بالصراع والعراك والاحتراب الحاد. ما يعني أن الكتابة الروائية المغاربية باللغة الفرنسية، قد سعت في كثير من نماذجها، إلى استحداث لغة داخل لغة، أو انتزاع لغتها من داخل اللغة الفرنسية المعتمدة. والحاصل أن هذه اللغة المنتزعة قد تبلورت، بتعبير جيل دلوز، لغة أقلية une langue minoritaire، مقابل لغة أغلبية une langue majoritaire ، وهي في السياق الذي يعنينا، لغة الآخر، المستعمر سابقا، والمهيمن راهنا. ولعل من أهم مميزات هذه اللغة الأقلية، أنها تكتب لغتها الأم (العربية، الدارجة..) عبر اللغة الفرنسية، مما أفضى في الكثير من النماذج الإبداعية لهذا الأدب (محمد خير الدين، كاتب ياسين، الخطيبي..)، إلى تأزيم اللغة الفرنسية، وتغريبها عن ذاتها، وبصمها بالمغايرة والاختلاف الناتجين عن «ترحيلها» نحو أفق لغوي وثقافي لم يسبق أن درجت عليه أو نمت فيه. غير أن الأدب المغاربي المكتوب بالفرنسية لم يقم علاقة الاختلاف والمغايرة باللغة الفرنسية وبمتخيلها الثقافي والأدبي فحسب، بل أقامها أيضا مع اللغة الأم ومع متخيلها الثقافي ومأثورها التراثي والديني. وهو ما يفسر انطباع الكثير من الروايات المغاربية بالنقد الحاد، وصلت درجة التجديف أحيانا، للمنظومات الاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية للبلدان المغاربية (نشير على سبيل التمثيل إلى رشيد بوجدرة صاحب رواية «التطليق»، وإدريس الشرايبي، صاحب رواية « الماضي البسيط»)، وتفكيكه لها بغاية التخلص من وطأتها الرازحة على الأفراد والجماعات. ويعد المفهوم المثمر الذي بلوره الأديب والمفكر المغربي، عبد الكبير الخطيبي، مفهوم «النقد المزدوج»، مؤشرا دالا على هذا النزوع المضاعف الذي طبع بعض النتاجات الأدبية المغاربية التي انكتبت في حيز الانفصال عن الذات والآخر، أي انكتبت في الفاصل الذي يبعدها عن التطابق والتماهي سواء مع ذاتها، أو مع الآخر. وقد أضفى الخطيبي على مفهوم النقد المزدوج، عمقا أدبيا وفلسفيا، اقترن لديه بتحرير الذات من أوزار الميتافريقا وأثقال التيولوجيا (ميتافزيقا التقنية واللاهوت)، وإطلاق الفعالية التي تصلها بعمق بقوى الخلق والإبداع. وتعد كتابات الكاتب التونسي عبد الوهاب مؤدب، ضمن هذا السياق، تكثيفا فريدا لمجمل هذه الإشكاليات، إذ يعد مؤدب أحد أبرز الكتاب والمثقفين الذين صاغوا هذه الإشكاليات من منظور إبداعي من خلال روايته « الطلسم»، وروايته « فانتازيا»، ومن منظور فكري وفلسفي من خلال كتاباته الفكرية حول وضعية الإسلام في العالم المعاصر. وقد مثلت رواية « الطلسم» حين صدورها نهاية السبعينيات، ثم بعد صدورها في نسخة ثانية في 1987، حدثا إبداعيا فارقا، وتم استقبالها، سواء من طرف المحتفين بها، أو من طرف النافرين منها، باعتبارها كتابة جديدة، تتميز حد القطيعة عن الأدب المغاربي السابق عليها، بتفتيقها لإبدالات جديدة أمام الإبداع الروائي المغاربي. ويمكن أن نسوق في هذا الإطار موقف الباحث الفرنسي Jean Déjeux الذي ظل يعتبر مرجعا في الدراسات الروائية المغاربية المكتوبة باللغة الفرنسية، لدلالته في هذا السياق، وهو الموقف الذي سبق أن عرض له الباحث المغربي عبد اللطيف العلمي في دراسته المعنونة ب « من أجل شعرية الإبهام، نموذج «الطلسم» لمؤدب». لقد اعتبر ديجو رواية «الطلسم» حدثا إبداعيا، ونقطة تحول في الإبداع المغاربي، لكنه اعتبر الغموض الذي اكتنف كتابتها صادا ونابذا للقارئ (العارف وليس فقط العادي)، مثبطا عزمه على ولوج عوالمها الغريبة: «لا شك أن رواية الطلسم تشكل في متن الأدب المغاربي المكتوب باللغة الفرنسية منعطفا، بمعنى أننا أمام الحد القصي للبحث والاشتغال على الكتابة. إنها محاولة مثيرة للاهتمام. إلا أنه ينبغي القول أنها تهم جمهورا محدودا من القراء. يصاب القارئ الأجنبي إذن بالحيرة والارتباك، وعن قصد، في لعبة الاختلاف ذات البريق الخادع. أكتب بالفرنسية، لكني لا أريد أن أمنح الفرنسيين سلطة علي.» وقد اعتبر الباحث عبد اللطيف العلمي أن مأخذ ديجو لا يمكن تسويغه جماليا، لأن الغموض ليس سمة تستأثر بها رواية الطلسم دون غيرها، بل يعتبر سمة جمالية ميزت الأدب الحداثي في شتى تعبيراته العالمية، في الأدب الأوربي الحديث مثلا قبل الأدب الروائي المغاربي، بل واعتمدته المؤسسات النقدية الأدبية باعتباره منحى مشروعا في الكتابة، له تاريخه المثبت ورموزه المأثورة (جويس، ملارميه...). لذا، فإن السبب العميق وراء نفور ديجو من روايه مؤدب، رغم إقراره بكونها شكلت نقطة تحول في الأدب المغاربي، يكمن بالأحرى، في طبيعة العلاقة التي أقامتها روايته مع اللغة الفرنسية، كما يكمن في المتخيل المختلف الذي أخصبت به الرواية هذه اللغة. لقد نتج موقف ديجو من إدراكه أن « الطلسم» مكتوبة بلغة فرنسية مظفورة بمتخيل مختلف، هي غير الفرنسية التي ألف القراءة بها. أما مؤدب فقد أعاد لجان ديجو، لغة فرنسية لم يتمكن من التعرف عليها، فأضحى غريبا في لسانه. وبودنا هنا أن نقف عند بعض الخصائص الجمالية التي جعلت هذه الرواية رواية مثيرة للجدل، رواية طلسم، حيرت قارئها، الفرنسي والمغاربي على السواء. لا تقترن الكتابة في «الطلسم» بجماليات التمثل والاحتمال، فهي لم تقصد تمثيل واقع قائم أو محتمل، وفق طرائق الانعكاس والتماثل والتناسب. إنها تقترن بجماليات أخرى، يمكن نعتها بجماليات الانفصال والترحل والتيه. فالذات المتلفظة في الرواية (بضمير المتكلم)، وهي في الآن ذاته، ذات الحكاية وذات الكتابة، لا تكف عن التنقل بين الفضاءات والأمكنة، واقعية ومتخيلة، تاريخية وأسطورية، فيما تتداعى، وعلى نحو متشابك ومتقاطع، إدراكاتها وإحساساتها الشعورية واللاشعورية، وتأملاتها وانجذاباتها الحسية والإيروتيكة، وفق الإيقاع المتتالي والسريع، لهذه التنقلات، ووفق وقعها المختلف والمتنوع على ذات التلفظ. وقد نتج عن ذلك، تساوق وثيق ومتلازم، بين فعل التلفظ ونتاجه الملفوظ، بين فعل الكتابة ونتاجه المكتوب، بين حركة التنقل وحركة الكتابة. كما انطبعت الجملة الروائية، تبعا لذلك بإيقاع دينامي، جعلها تتخلص تركيبيا من المكونات النحوية التي تتثقل حركيتها، وانطلاقها الجامح. فهي جملة غير مكتملة من الناحية التركيبة، تستند في بنائها التركيبي على: A+Infinitif ( أن + الفعل) : « أن أغادر الساحل الفردوسي بعد الاستحمام، أن أسير رغم القيظ ... أن أحاذي الإقامة الإدارية، أن أتجاوز مدرسة البنات، أن أطرق الباب الموصد لدار الثقافة، أن أجد نفسي أليف الزقاق الوحيد الضاج بالحركة في هذه الساعة، حوانيت مفتوحة ... أن أدخل مقهى يغط في النوم ... أن أطلب نارجيلة ...» ص 12 كما تتنامى الجملة الروائية بصهر ملفوظات متنافرة، سردية، وصفية، حلمية، شعرية، تأملية..الخ داخل دفق تلفظي ممتد، من دون أن تعير اهتماما لمستلزمات الاتساق والانسجام بين الملفوظات والسياقات النصية. وللإشارة، فقد لا حظ عبد الكبير الخطيبي في لفتة ذكية لعلاقة اسم المؤلف « عبد الوهاب مؤدب» بالرواية، إلى أن تواتر حرف A، فيها، أتى للاستعاضة عن التغيير الذي لحق اسم المؤلف بنقله من العربية إلى الفرنسية، نقلا أفقده حرف العين الذي لا يوجد له قرين في اللغة الفرنسية، والتي تضع مكانه حرف A. بالتالي يكون تواتر هذا الحرف الأخير، إشارة مواربة إلى البتر والحذف الذي طال الاسم بانتقاله من لغة إلى أخرى. بل إن الرواية لم تقتصر على ذلك، إذ جعلت من العين- كما يذهب إلى ذلك « علاء الدين بن عبد الله» في دراسته المعنونة ب « تأويل الحرف وتشظي ضمير المتكلم في رواية الطلسم لمؤدب» البؤرة الأساسية للإدراك والتخييل، إذ تتنامى الرواية من خلال المشاهد المرئية، كما تتنامى أيضا من خلال الإدراكات اللامرئية، والتي تدركها « عين ثالثة»، هي عين اللامرئي المخترقة للحجب. ويمكن أن نعتبر ذلك مثالا دالا على ظاهرة اللسان المثنى التي تميز الكتابة المغاربية بالفرنسية، بجعل اللغة الفرنسية تنطوي على الحرف العربي الذي يعيد تشكيلها من الداخل، ويخضعها لسيرورة تدلالية أجنبية، تجذبها خارج اكتفائها السميولوجي. ويكتسي التيه في رواية مؤدب دلالات متعددة ومتباينة. فهو يعني بداية أن الكتابة فيها ليست متجذرة في مكان أو في زمن بعينه، إنها متحللة من الانتماء الحصري لأمكنة محددة، ولأزمنة متعرف عليها. فالذات في الرواية جوابة، لا تكف عن التنقل بين بلدان ومدن مختلفة (مدن مغربية، تونسية، فرنسية، إيطالية، مصرية، تركية، اليونان..الخ)، و هي في حركتها تلك، تنفذ إلى طبقات زمنية غائرة، وإلى تعبيرات ثقافية ورمزية عتيقة وبدائية، سحرية وهرمسية ، معرجة على الأبعاد الديونيزوسية و على طقوسها الأورجية واحتفالاتها الراقصة البهيجة. من ثمة، يكتسي التيه في الرواية دلالات أخرى، هي دلالات اقترانه بالمتخيل العتيق limaginaire antique، واستعادة رمزياته البدائية. إن عين ذات التلفظ وإدراكاتها المرئية وغير المرئية لا تكف عن التقاط العتيق، والتفاعل مع مظاهره الجسدية والرمزية. والحال أن العتيق يقيم برسوخ في المتخيل الشعبي الذي لايزال يحتفظ بآثاره العميقة وعلاماته الغائرة، لم تفلح الدوكسا الدينية، ولا إيديولوجيات الدولة الوطنية في القضاء عليها قضاء تاما. وقد نحت رواية الطلسم إلى إعادة الوهج لهذه الحياة الأولى، من خلال استقراء آثارها ونفض أرتال الأتربة عن علاماتها، وإعادة تأويلها والتفكير فيها، كي تكشف عن الكينونات البدائية المطمورة فيها والمحتجبة داخلها. بل إنها عمدت في فصليها الأول والثاني إلى تخييل وضعية فريدة، استعاد عبرها شعب المدينة -مدينة تونس-زمام مدينتهم، بعد أن أجلوا عنها السلط القائمة، وحرروها مؤقتا من سيطرة الحكام وهيمنة الفقهاء، ليحيوا صلتهم بالممارسات العتيقة، البدائية والوثنية، ولينغمروا في شعائر ديونيزوسية وأورجية مرحة وبهيجة، بلغت ذروتها في صنع وثن فيل وتتويجه قي قلب جامع الزيتونة، بطقوس الاحتفال الذبائحي. وفضلا عن المتخيل العتيق، عبأت الذات أثناء تجوابها وترحلها، المتخيل الصوفي، عند ابن عربي، والسهروردي والحلاج، معيدة تأويله وقراءته خارج مداره اللاهوتي وأفقه الميتافزيقي. ولقد أخصب المتخيل الصوفي العلامة النصية، أو الدال النصي، بسمات الانفلات والترحل، حيث بدا دالا منجذبا إلى القصي واللانهائي مقرونين بالفناء والغياب والموت. إذ لا يعني الفناء أو الموت في هذا السياق سوى إفراط في التجربة ومضي بها إلى أقصى تخومها، حيث لا يفضل شيء سوى الصمت والبياض: « أفنى لأني رأيت ورأيت حتى الإشباع، أدنو مجازفا من الشمس، حسدي يتبدد، فراشة أورفية أحرقها اللهب الجاذب: جسدي بكل خلاياه استنفذ التجربة، أفرغها ليولد ربما آخر..» ص 58 لقد أشرنا سابقا إلى أن الترحل قاد الذات إلى عبور فضاءات وأمكنة متعددة موصولة بمجالات دلالية ورمزية متباينة، عتيقة أوحديثة: فرعونية، يونانية، رومانية، أوربية حديثة، عربية، أمازيغية، إسلامية..الخ؛. ما جعل الكتابة في الرواية مبصومة بدينامية الترحل، تلك الدينامية التي تجعل الكتابة عند مؤدب تنفلت من الانتماءات الحصرية والهويات الأجناسية والثقافية المغلقة. ولعل ذلك ما يدفع بنا إلى القول إن رواية الطلسم أضحت بصنيعها الإبداعي الفريد تضيق عن لباسها الأدبي المغاربي المكتوب بالفرنسية، برفضها إعادة إنتاج المعالم التي قد تربطها بصورة نمطية وثابتة بهذا الأدب، فهي تخرق بديناميتها الإبداعية أقانيم الانتماء، بشتى أصنافه، وتنغمر في أسئلة عابرة للحدود، تجعل الأدب المغاربي أدبا مساهما بجدارة في إغناء وإثراء المتخيل الأدبي الكوني. قدمت هذه المداخلة في الندوة التي نظمتها في وقت سابق كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمكناس في موضوع «الثقافة المغاربية بين الخصوصية والكونية».