الزمامرة والوداد للانفراد بالمركز الثاني و"الكوديم" أمام الفتح للابتعاد عن المراكز الأخيرة    بووانو: حضور وفد "اسرائيلي" ل"الأممية الاشتراكية" بالمغرب "قلة حياء" واستفزاز غير مقبول    النقابة المستقلة للأطباء تمدد الاحتجاج    اعتقال بزناز قام بدهس أربعة أشخاص        بمناسبة رأس السنة الأمازيغية.. جمهور العاصمة على موعد مع ليلة إيقاعات الأطلس المتوسط    الإيليزيه: الحكومة الفرنسية الجديدة ستُعلن مساء اليوم الإثنين    فيديو "مريضة على نعش" يثير الاستياء في مواقع التواصل الاجتماعي    الكرملين يكشف حقيقة طلب أسماء الأسد الطلاق ومغادرة روسيا    المغرب-الاتحاد الأوروبي.. مرحلة مفصلية لشراكة استراتيجية مرجعية    غضب في الجارة الجنوبية بعد توغل الجيش الجزائري داخل الأراضي الموريتانية    نادي قضاة المغرب…تعزيز استقلال القضاء ودعم النجاعة القضائية        بنما تطالب دونالد ترامب بالاحترام    الجزائريون يبحثون عن متنفس في أنحاء الغرب التونسي        محمد صلاح: لا يوجد أي جديد بشأن مُستقبلي    تعيين مدرب نيجيري لتدريب الدفاع الحسني الجديدي لكرة الطائرة    نيسان تراهن على توحيد الجهود مع هوندا وميتسوبيشي    سوس ماسة… اختيار 35 مشروعًا صغيرًا ومتوسطًا لدعم مشاريع ذكية    توقعات أحوال الطقس اليوم الإثنين    النفط يرتفع مدعوما بآمال تيسير السياسة النقدية الأمريكية    أسعار اللحوم الحمراء تحلق في السماء!    "سونيك ذي هيدجهوغ 3" يتصدر ترتيب شباك التذاكر    تواشجات المدرسة.. الكتابة.. الأسرة/ الأب    أبرز توصيات المشاركين في المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة بطنجة    شكاية ضد منتحل صفة يفرض إتاوات على تجار سوق الجملة بالبيضاء    الحلم الأوروبي يدفع شبابا للمخاطرة بحياتهم..    تولي إيلون ماسك لمنصب سياسي يُثير شُبهة تضارب المصالح بالولايات المتحدة الأمريكية    تنظيم كأس العالم 2030 رافعة قوية نحو المجد المغربي.. بقلم / / عبده حقي    حقي بالقانون.. شنو هي جريمة الاتجار بالبشر؟ أنواعها والعقوبات المترتبة عنها؟ (فيديو)    تصنيف التنافسية المستدامة يضع المغرب على رأس دول المغرب العربي    إعلامية فرنسية تتعرض لتنمر الجزائريين بسبب ارتدائها القفطان المغربي    إدريس الروخ يكتب: الممثل والوضع الاعتباري    السلطات تمنع تنقل جماهير الجيش الملكي إلى تطوان    شركة Apple تضيف المغرب إلى خدمة "Look Around" في تطبيق آبل مابس.. نحو تحسين السياحة والتنقل    من يحمي ادريس الراضي من محاكمته؟    معهد "بروميثيوس" يدعو مندوبية التخطيط إلى تحديث البيانات المتعلقة بتنفيذ أهداف التنمية المستدامة على على منصتها    كيوسك الإثنين | إسبانيا تثمن عاليا جهود الملك محمد السادس من أجل الاستقرار    أنشيلوتي يشيد بأداء مبابي ضد إشبيلية:"أحيانًا أكون على حق وفترة تكيف مبابي مع ريال قد انتهت"    حكيم زياش يثير الجدل قبل الميركاتو.. الوجهة بين الخليج وأوروبا    اختتام أشغال الدورة ال10 العادية للجنة الفنية المعنية بالعدالة والشؤون القانونية واعتماد تقريرها من قبل وزراء العدل في الاتحاد الإفريقي    شركات الطيران ليست مستعدة للاستغناء عن "الكيروسين"        الموساد يعلق على "خداع حزب الله"    مواجهة نوبات الهلع .. استراتيجية الإلهاء ترافق الاستشفاء    إنقاذ مواطن فرنسي علق بحافة مقلع مهجور نواحي أكادير    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سباحة في عالم حسن برطال الكتابة بماءالذهب

القصة القصيرة جدا فنّ لايزال في طور التشكل وبناء التقاليد والتجريب برغم نضوج التجربة وبروز ملامحها الجوهرية ، وبروز نقادها وكتابها وتجاربهم الكبيرة التي شكلت نفيرا جماعيا ساحرا تبارى فيه مبدعون خلاقون لرسم لوحة زاهية ورائعة لفن ساحر ملك القلوب والعقول في أطواره الجنينية ، واحتل مكانة مميزة في خارطة الإبداع الكتابي. لهذا السبب تشكل عملية دراسة تجارب مبدعي هذا الفن وتحليلها والتأمل فيها عميقا من كل جوانبها، شرطا لازما لتطور هذا الفن واستخلاص رحيقه وتقاليده ، وقوانين تطوره التي تتميز بالمرونة وعدم الجمود وإن كانت هذه المرونة لم تبلغ أبدا حد عدم وجود ملامح مميزة وشروط جوهرية. وتعتبر تجربة الكاتب المغربي حسن برطال فصلا مهما من فصول هذا الإبداع الكتابي المميز، لذلك تشكل مهمة مقاربتها نقديا ومحاورتها مهمة واجبة وضرورية جدا من عدة زوايا
حسن برطال من مواليد 1958 بالدار البيضاء. اصدر عدة مجموعات قصصية قصيرة جدا
)أبراج) منشورات وزارة الثقافة 2006( قوس قزح) منشورات انفو برانت فاس 2009(صورة على نسق جى بي جي ) منشورات وزارةالثقافة 2010 ( سمفونية الببغاء)منشورات دار الوطن للطباعة والنشر الرباط 2012.وهوحاصل على عدة جوائز أدبية.يتميز حسن برطال ببصمة خاصة في كتابة القصة القصيرة جدا تبدو واضحة في نصوصه كلها، حيث يجتمع فيها ثلاث سمات أساسية( التكثيف/ الروح الساخرة/ صدمة الخاتمة)، فكتابات برطال لاتجد فيها مطلقا ميلا للاستطراد أو التفاصيل أو التكرار أو التأنق في المفردة، فالنص عنده مثل القذيفة تمضى مباشرة نحو الهدف دون أدنى تلكؤ أو تنطع، وحسن برطال ليس مفتونا باللغة، بل يتعامل مع اللغة كعجينة طرية يشكلها لتصل فكرته بأقل عدد ممكن من الكلمات وبأكبر قدر ممكن من الوضوح وبتركيز عال على المضمون. وتبدو السخرية القاسم المشترك الذى تجده في جميع نصوصه ولاتغيب تلك الروح مطلقا، والمثير للدهشة أنها روح ساخرة لا أثر للصنعة أو التكلف فيها وترد في النص في سياقه العادي دون اقحام لها عليه من خارجه.أما صدمة الخاتمة المتوهجة فهي صنعة يتقنها برطال بشكل مدهش يذكرنا بحبكة النهايات في القصص البوليسي المشهور الذى يعتمد على النهاية التي تنتهى عندها كل خيوط الحكاية البوليسية، ثم تنهار العقد المحكمة واحدة تلو الأخرى وتخرج الحقيقة من الظلام الى النور، كما تخرج الحمامة من قبعة الساحر.
في قصته (عقدة) المنشورة على غلاف مجموعته القصصية (مغرب الشمس) يقدم القاص حسن برطال مزيجا من التشويق الذى هو سمة القصص البوليسي والسخرية التي سمة خاصة ببعض الكتابات الصحفية المتخصصة في ذلك النوع من الأدب الساخر، فتكون النتيجة هذه اللوحة:
(تنسل إليه ليلا..تدير رأسه ناحيها..تطبق عليه بشفتيها..وشيئا فشيئا يخفى السائل لونه، طعمه ورائحته. وفي الصباح يكتشف الزوج(أحمر الشفاه) على الصنبور فيحفر بئرا ويلغى اشتراكه مع المكتب الوطني للماء الصالح للشرب../ الزوجة لسبب ما ربما يكون فيه اشارة للبرود الجنسي للزوج أدمنت الشرب من الصنبور مباشرة دون وسيط، وحين لاحظ الزوج ذلك قام بإلغاء اشتراكه في شركة المياه وحفر بئرا لتكون مصدرا للماء حتى لاتلامس شفاه زوجته الصنبور مرة أخرى. سلوك الزوج يعكس غيرته الشديدة التي تبلغ درجة الهوس المرضى وتسلطه على تفاصيل الحياة وهو تسلط لاتستقيم معه شراكة عادلة. تبدو قضية النص التييعالجها الكاتب ببراعة أكبر من الإطار الصغير الذى رسمه العنوان (عقدة) أفقا للنص، فالنص يتجاوز العقدة ومفهومها الى ما هو أوسع وأشمل، لذلك يبدو العنوان مأزقا لهذا النص البديع.العنوان دائما هو اشكالية في القصة القصيرة جدا، فالعنوان عند بعض كتاب القصة القصيرة جدا شارح للنص وهذا لايجوز، وعند البعض هو اطار لنص غير قابل بطبيعته للتأطير، فالقصة القصيرة جدا تولد وتتوهج بمعان جديدة مع كل قراءة جديدة للنص، والعوامل التي تتحكم في تلك القراءات عوامل تتجاوز الذات المبدعة التي كتبتها وتتجاوز الأطر التي رسمها الكاتب في خياله للنص، لذلك ينبغي أن يتجنب كاتب القصة القصيرة جدا مأزق العنوان بعدم الوقوع في شراك العنوان التقريري الشارح للنص وكذلك تفادى العنوان الإطار الذى يصنع زنزانة صغيرة لعصفوره الجميل الطليق.
قصته(برج الرقابة) نموذج آخر لمأزق التأطير للعنوان والعنوان الشارح للمغزى:
(في الصباح قرأ الجريدة. وفى المساء كان متهما بالتكتم عن مجموعة من الجرائم../) نتجاوز عن استخدام (عن) في مقام ( على).فالصحيح القول (التكتم على). وندلف الى المغزى وبنية النص. ففي هذا النص البديع يصور الكاتب معنى عميقا لا تدركه العين المجردة القارئة للكلمات القلائل بمعانيها الظاهرة، بل يستلزم الأمر خيالا خصيبا يبحر فيما هو كامن بين السطور، فالصحافة تمارس النشر المباح وغير المباح والقارئ الحصيف مثله مثل جهات الرقابة المقيدة للحرية الصحفية يبحث بحسه المرهف عن الحقائق المخبوءة بين السطور فيدرك بوعيه حجم ما يجري بالوطن من جرائم لا تكشف عنها الصحف الرسمية إلا رمزا وبغير قصد، ولكن وعي القارئ الحصيف يجعله يقع في دائرة الرقابة التي تراقب الوعي وتسد منافذه بقدر ما تستطيع، لذلك يجد نفسه متهما بالتكتم على جرائم لم يرتكبها، وكان الأولى محاكمة مرتكبيها وليس المتهم بالتستر عليها، المفارقة في النص كامنة فيأن الوعي حين تسلل الى القارئ وأدرك الجرائم الخفية بات هو المتهم مكافأة له وعقابا له على وعيه بما يجرى. وهكذا يصور القاص أزمة الحرية بشكل كاريكاتيري ساخر. لذلك يبدو العنوان شارحا للنص ومؤطرا له في الوقت نفسه.
في قصته (الجريدة الرسمية)يقول(بيتنا بغرفة واحدة ومع ذلك لانعرف أين يخفي والدي جرائده..ولما قصصت عليه حلمي وتكلمت عن(إعادة تصوير الجرائم) و(تفكيك العصابات) عاقبني على استعمال وسادته والنوم في سريره.) هنا يمارس الكاتب مكرا طفوليا على القارئ للنص مثلما مارسه على والده، فهو يسطو على صحف أبيه فيقرأها باهتمام بالغ ويحفظها تقريبا وحين تفضحه زلة لسانه أمام أبيه ينكر قراءته للصحف خاصة أبيه، لكن الأب يعاقبه بمنعه من النوم على سريره ووسادته حيث يخبئ صحفه. العنوان هنا يفلت من الإشكالية بصورتيها فلاهو شارح للمغزى ولاهو مؤطر للنص، وفيه إشارة خفية لكون الصحف خاصة بمؤسسة الأبوة بكلمة (الرسمية) فالرسمية تعنى المخصصة للبعض هنا، والمغزى البعيد للنص هو أنه لايوجد سبب منطقي يجعل الآباء يمنعون الابناء من القراءة للصحف بحجة أنها مخصصة لهم، فالمعرفة ليست قاصرة على فئة من الناس، والصحيح هو أن تكون القراءة متاحة للجميع وأن يكافئه الأب على اهتمامه بالقراءة وليس أن يخفى عنه أدواتها ممثلة في الصحف فيضطره للكذب واختلاسها. الأب حين مارس القمع على الإبن حجب عنه المعرفة ودفعه الى الكذب والسرقة وإنكار الحقائق. النص تجسيد بديع لأزمة من أزمات المجتمعات العربية.
في قصته( العدد رقم(0) يقدم الكاتب نصا مخادعا آخر تحت عنوان غامض فيقول(صنعتُ طيارة من جريدة ورقية..ولما فشلتُفي السفر عبر العالم أدركتُ أنها(محلية) لا أقل ولا أكثر../
في النص سخرية عميقة من بعض المناهج والعقول التي تدير عالمنا العربي، فهيلا تريد الاعتراف أبدا بأنها هي مكمن الداء ولاتملك الدواء، فتمارس مكابرة غبية مثل مكابرة الراوي الذى صنع طيارة من ورق وانتظر أن تحمله طيارة الورق تلك الى العالم، وهو انتظار ساذج وغبى، وحين لم يتحقق مراده من صنع طائرة الورق، لم يعترف بأنه كان ساذجا وأن اعتقاده بقدرتها على الطيران اعتقاد خاطئ، بل أرجع عدم قدرتها على الطيران الى كونها مصنوعة من ورق صحيفة محلية.بمعنى أنها لو كانت مصنوعة من ورق صحيفة أجنبية لحققت مراده وحلقت به. هنا سخرية مزدوجة من منهج الراوي الساذج الذى لم يعد للتحليق عدته وماكان له أن يظن أنه ممكن بطيارة من ورق، والسخرية أيضا من افتتانه بالأجنبي، فحتى لو كانت الطيارة مصنوعة بورق صحف أجنبية فهي تبقى طائرة من ورق لن تقوى على السفر عبر البلدان مثل الطائرات العادية. العنوان هنا (العدد رقم صفر) فيه سخرية من منهج الراوي لأن ما صنعه يبقي صفرا لا يساوي قيمة الورق الذى صنع به. العنوان هنا محكم وجيد كونه يلمح الى المغزى ولا يصرح به. وفى نفس الوقت يحرض العنوان على التأمل لإدراك مغزاه ولايؤطر النص ويحد من أفقه.
في قصته (واقية ورقية) يستخدم برطال السخرية للإيحاء بالمغزى البعيد للنص فيقول( قال ليولدي: رأسي يبرد خلال فصل الصيف كلما غطيته بصفحة من صفحات الجرائد…
– ربما ليس فيها شيء من الأحداث (الساخنة) ياولدى../
فهو هنا يمارس سخرية مزدوجة من خلال هذا الحوار بين الأب والأبن وهما يرمزان للأزمنة الثلاث (الحاضر والماضي والمستقبل) فهو يشير الى ركود الواقع وعدم وجود فكر جديد أو حراك اجتماعي كبير وبالتالي افتقدت الصحف قدرتها على حماية العقول التي يرمز لها بالرأس، وفى نفس الوقت هناك سخرية من كون الصحف التي مهمتها حماية العقول وتنويرها بدخولها عبر ما هو مكتوب فيها قد عجزت عن أداء ذلك الدور وصارت تستخدم فقط كشيء مثل المظلة لا تقي من الهجير، وحتى في هذه المهمة عجزت الصحف عن أن تكون عند حسن الظن بها فجلبت البرد في الصيف لمن استغاثوا بها من الحر، المعنى البعيد أن الصحف باتت عديمة القيمة في هذا الزمن اللاهث. العنوان(واقية ورقية) ينضح بالسخرية فالصحف أدوات التنوير باتت مجرد واقي ورقي من الحر وهو عاجز عن اداء هذا الدور أيضا. ولا أدرى لم قفز الى ذهني ( الواقي الذكرى) واستخدامه للوقاية لأغراض أخرى عند قراءة العنوان، ترى هل كان استخدام كلمة (واقية) مقصودا؟ مجرد سؤال. الإجابة عليه هي قراءة تنفتح على قراءات جديدة .
وفى نص آخر بعنوان(الصفحة الأخيرة) يمارس حسن برطال شقاوته المعهودة ولكن ليكتب هذه المرة نصا غارقا في الشجن( تبللت الجريدة وطمس (السائل الأسود) معالم البياض..لم أستطع قراءة (الحروف) ولكنني تذكرت (حروف الوجه العزيز حينما كان يختلط ( الكحل) بالدمع في عين أمي../
هذا نص باذخ وفريد، فالسائل الأسود طمس حروف الجريدة مثلما فعل الموت بحروف وجه الأم الغائبة، استدعت اللحظة الراهنة لحظة أخرى من الماضي مماثلة لها، تلك اللحظة حين اختلط الكحل بالدمع في وجه الأم الراحلة، إنه تناص بديع بين لحظتين، العلاقة بينهما شعور مرهف بالفقد أيقظه انطماس الحروف في جريدة مبللة بالعرق. أما العنوان(الصفحة الأخيرة) فهو عنوان فريد زاوج بين المشترك بين اللحظتين، فموت الحروف وموت الأم كلاهما يمثل نهاية العالم بشكل ما، كلاهما صفحة أخيرة متجددة لا تنتهي بالموت، بل تتجدد دوما. فالصحيفة نهر عطاء تتجدد صفحاته دوما، وكذلك الأم هي نهر عطاء يتجدد دوما. اعتقد أن العنوان هنا نموذجي.
في قصته (رئيسة التحرير) تصوير ساخر لموقف غير موضوعي من نص إبداعي، موقف انبنى على الرأي الشخصي في الكاتب وليس على الرأي الموضوعيفي النص ( وصلتها قصة عشقه فمزقتها… كلما كتب بخط اليد يظل حبرا على ورق../) النص هنا يبدو فاقدا لأداة الربط بين جزيئيه لكنه واضح، فرئيسة التحرير سببت رفضها للنص على كون كاتبه كتب قصة العشق بخط يده، ولكن مشاعره بعيدة عما صوره بحروفه، هنا محاكمة للكاتب وليس للنص، ويظهر النفس الشخصي في كون رئيسة التحرير مزقت النص ولم تكتف برفض نشره فقط، فهي بذلك حكمت عليه بالإعدام لأسباب شخصية بحتة تتضح من خلال تعليقها الذي يشكل تبريرا لجريمة حجب النص وتمزيقه. العنوان(رئيسة التحرير) عنوان جيد فيه تذكير لرئيسة التحرير ومن تم القارئ بواجبات وظيفتها، وبالتالي في العنوان ايحاء بالمغزى وليس صياحا به وتقرير له.هي لم تتصرف كرئيسة تحرير، بل تصرفت كأنثى مجروحة ، وهنا يكمن المغزى الخفي كونها استغلت موقعها كرئيسة تحرير لتكريس مواقفها الشخصية وتصفية حساباتها ولم تتصرف بالموضوعية التي توجبها عليه الوظيفة
وفى قصته (صفحات من غبار) يمارس حسن برطال لعبة الأحجية المفضلة لديه وهى مزج السخرية والغموض سويا لإنتاج معرفة جديدة بالنص وموضوعه النص:( (الحساسية) الجديدة التي بحث عنها طويلا، انتقلت من الملحق الثقافي الى( أنفه) ..إنه يشم ولايقرأ../) العنوان هنا محكم الصياغة وموظف بوعي دقيق للإيحاء بالمغزى، فالنص يصور حالة انتقال مثقف من موقع المثقف الى موقع المخبر ملتحقا بالسلطة ونهائياً، فالرجل كلف بالإشراف على ملحق ثقافي بصحيفة ما، ومع ذلك التكليف بدل الرجل جلده وبات يمارس دور المخبر الرقيب على النصوص مثل الكلب البوليسي يعتمد على حاسة الشم للنصوص المشبوهة غير المرغوب فيها سلطوياً، وهكذا أصبح الرجل لايقرأ بل يمارس عملية الشم ، لقد مات المثقف فيه وتحول الرجل الى أداة من أدوات السلطة تلغى عقلها و تمارس نشاطا من أجل تكريس السلطة فقط. كلمة (الحساسية) الموضوعة بين الأقواس عمدا هنا فيها إشارة دقيقة ساخرة لهذا التحول من مفكر يستخدم عقله وعينيه في القراءة والتفكير إلى رجل يمارس عملية شم فقط،يغيب العقل وتحضر الغريزة، والعقل هو مناط تمييز الإنسان عن الحيوان، فبات الرجل حيوانا،يشم ولايقرأ، وباتت صفحاته صفحات من الغبار المثير للحساسية، هو نص جميل وعنوان أجمل.
في نص بعنوان (تغطية إعلامية) نجد أنفسنا حائرين، فالنص تقريري ويبدو كقول مأثور وليس قصة قصيرةجدا( ذلك الذى يتوارى خلف الجريدة يوما بكامله، رجل خائف أو خجول.) فالتقرير هناواضح والحكاية غائبة في هذا النص على جماله وعمق ونضج فكرته. العنوان به سخرية واضحة وهو عنوان مراوغ وجيد ولكن النص لايساعد العنوان كونه جاء نصا خالياً من الحكاية وحافلاً بالتقرير بلا مفارقة ظاهرة ومغزى مخبوء، فالمعنى الظاهر هو ذاته المقصود.
وفى قصته (أعداد غير صحيحة) يصور جانبا ساخرا من جوانب حياة مثقف(رغم زياراتها (اليومية) و(الأسبوعية) (والشهرية) كان يشعر بالوحدة…هي ليست صديقة جميلة كما كنت أعتقد، بل صحف ومجلات ليس إلا../
فالرجل مداوم على قراءة الصحف في عزلته المجيدة ولكنه يشعر مع ذلك بالوحدة، فالصحف لا يمكن أن تملأ مكان البشر في حياته، العنوان يبدو بعيدا عن المغزى، والسخرية هي تقنية يستخدمها القاص ويوظفها للإيحاء بالمغزى فقط وليست هدفا بحد ذاتها عنده وهذا هو المنهج الصحيح لاستخدام السخرية في القصة القصيرة جدا. ولا يفوتنا التوقف عند استخدام القاص للأقواس(علامة التنصيص) بشكل متكرر في أكثر من نص للإيحاء بما يريد من معان كامنة في ظلال النص. فهذه تقنية جيدة.
فى قصة أخرى هي(بلطنجية) يقارب القاص حسن برطالاليومي من خلال نص يفيض سخرية
(تمت السيطرة على المتظاهرين في أقل من دقيقة واحدة..العالم يتساءل.. الناطق الرسمي يقول: لم نصب العيون (بقنابل) مسيلة للدموع بل (طنجية) أصابت البطون../
يتلاعب الكاتب بالعنوان عمدا فيجمع بين كلمة(بل) التي تفيد الاستدراك بمعنى لكن، وكلمة (طنجية) وهى تعنى أكلة مراكشية معروفة. وعندما تجمع الكلمتان (بلطنجية) يبدو المعنى أقرب لكلمة بلطجية. أسلوب المبالغات الذى تستخدمه السلطة حين تدعى السيطرة على المتظاهرين في أقل من دقيقة ، وحين تدعى أنها لم تستخدم الغاز المسيل للدموع بل منحت المتظاهرين وجبة شهية، هذا الأسلوب يدعو للرثاء ويجعل السلطة واجهزة اعلامها موضعا للسخرية والتندر. النص يوحى بمغزاه كوننا أمام سلطة غاشمة مستبدة لاتحترم عقول الناس وتظل تكذب وتتحرى الكذب حتى تذوب وتغيب شمسها.
وفى قصته البديعة (الريح) استخدام مبهر للعنوان للإيحاء بالمغزى، فالقصة التي تصور حال من يطلب المستحيل تنطوي على مفارقة خالدة(كان يبحث عن امرأة لا تبتسم في وجه رجل يعاكسها..تزمجرتصده..يبحثويبحث..فلم يجد سوى( الريح).) المغزى هنا ، أنه يبحث عن امرأة مستحيلة لاوجود لها الا في مخيلته.ولكنني امتدادا لرؤية الكاتب أخشي ان تهز الريح أذيالها وتسكن وتبتسم عند سماع كلمة غزل لطيفة وهى في عنفوان غضبها.
وفى نص بديع آخر بعنوان (الغريب) يصور حال المهاجرين الى الغرب بشكل ساخر( لم يحقق حلمه…لم يكذبوا عليه حينما قالوا : ليس في لندن سوى ( الضباب)../
ذهب الرجل تاركا وطنه خلف ظهره ليحقق حلما يبدو أنه لا يملك ادوات تحقيقه فعاد بخفي حنين مدركاً ربما لأول مرة ان من قالوا له أن لندن ليس فيها شيئا سوى الضباب قد صدقوا، فلم يجن منها سوى الضباب. وهكذا تأتى الخاتمة متوهجة باستخدام كلمة الضباب بين القوسين للإيحاء بالمضمون، وهو أسلوب متكرر عند الكاتب.
في قصته (الهدهد) تناص بديع مع القرآن الكريم لايخلو من السخرية التي تشكل مرتكزاً ثابتاً في نصوصه فيقول:
(خرج من مصباح علاء الدين ..قال شبيك لبيك ..سآتيك بعرش بلقيس قبل أن تقومي من مقامك …قالت: بل (قيس) ..أنا ليلى ياسيدى../)السخرية هنا فى كونها راغبة عن عرش بلقيس وتريد قيس بن الملوح. هي لم تندهش لظهور المارد ولم ترتبك وكانت تعرف هدفها جيدا. وخلف هذا الموقف والسخرية مغزى عميق. فقط بدا العنوان بعيدا عن المغزى وعن النص
وفى قصته (شركة مجهولة الإسم) يقدم فانتازيا ساخرة تقول(الرجل الذى يبحث من زمان عن( رفات) جد أبيه..وصله اليوم كيس من تراب كتب عليه:_هذا نصيبك من الفوسفاط../) الفوسفاط المقصود به بالطبع الفوسفات
هكذا بات الجد (القيمة المعنوية) الكبيرة التي يحن إليها البطل مجرد( قيمة مادية) (تراب)، عاد الى أصله، وبعث به الى الحفيد عل الحفيد يفهم أنه صائر الى تراب يوماً ماً. هو نص مثير للأسئلة ، وهو نفسه وليد تأمل عميق في الكون، وهو معطون في سخرية تعبر عن موقف كامن خلفها، الموقف رؤية كونية شاملة ينطلق منها الكاتب في مغامراته اللغوية المتتابعة، فهو لايكلولايمل من رؤية الأشياء من جانبها الآخر الذى لايراه الآخرون.
وفى نص آخر عنوانه مكتوب عمدا بلغة أجنبية (cvنتوقع نصا يتعلق بسيرة شخص، فإذا بالكاتب يكتب( تحت العنوان هذا النص:
( طلبتُ يدها لتجرني وأجرها لكن بدعائها
تجرك (الكلاب) إن شاء الله.-
أدركت أنها مجرد (قطب متجمد) وأنا (عربة) ثلج../)
النص يفاجئ القارئ بتوجهه نحو سرد سيرة مختصرة لعلاقة ماتت في المهد صبية، فهو تقدم إليها ليتقاسما الحياة ويكابداها سويا، لكنه صدم بلهجتها المتعالية ورفضها القاطع له، فأدرك حينئذ أنها خاوية من المشاعر الدافئة وتحاكى في برودها قطبا متجمدا، تصوير رد الفعل من جانب الراوي تصوير بديع. النص دعوة للنظر في منهجين : منهج يقوم على المشاعر الإنسانية الصافية الدافئة القائمة على حسن الظن والطموح والإيمان بالقدرة على بناء حياة وأسرة، ومنهج آخر قائم على اعتبارات أخرى قوامها التعالي وتقديم القيم المادية على المشاعر الإنسانية.كتابة العنوان باللغة الأجنبية مقصود ليشير الى حالة الاغتراب الذى تعيشه الأنثى البطلة في النص.بذلك نجح الكاتب في توظيف العنوان لخدمة المغزى.
في قصته الرائعة (خط الرمل) يصور حسن برطال ببراعة وبساطة ظاهرة الدجل والشعوذة واستخدام الدجالين لها لتحقيق مآرب دنيئةلا علاقة لها بما يدعونه من صلاح وقدرات خاصة، العنوان موحى بالمغزى فجملة خط الرمل جملة مراوغة قد تشير الى (الرمل) بمعناه الذى يشير الى اعمال الدجل والتنجيم، وقد تشير الى (الرمال) والخط قد يكون الخطوط فيالأيدي أو في الرمل ، وقد يكون المقصود المنهج والطريقة ، أما النص نفسه فقد جاء محكما(جمع (الجن) و(الإنس )في كلمة واحدة وكتب (الجنس)).
جسد امرأة عار يٌصرع قرأ في كف الفقيه( الجن/ س)))
هكذا يصور النص استغلال الفقيه الدجال للمريضات الباحثات عن علاج عنده استغلالاً جنسياً بشعاً بدعوى انه يعالج المس الشيطاني والحقيقة أن(مسه) هو لأجساد الضحايا هو المس الشيطاني الذى تحركه غرائز منفلتة.لن يفوت القارئ متابعة الاستخدام الذكي للكلمات والتلاعب بالحروف للإيحاء بتلاعب الفقيه المزعوم بالعقول/ نلاحظ استخدام كلمة (المس) فهي كلمة حمالة أوجه وقابلة لينضوي تحت رايتها أكثر من معنى بريء وغير بريء، ونلاحظ استخدام حرف السين بإضافته لكلمة (الجن) فيحور المعنى ليصبح (الجنس) وبذلك تمارس الكلمة التي ختم بها النص عملية فضح الفقيه الدجال بذات سلاحه أي التلاعب بالكلمات. وبذلك يتماهى النص في بناءه الفني مع مضمونه ومايصوره.
فى قصة أخرى يمارس برطال شقاوته على القارئ حين يجعل عنوان النص (الزوجة الثانية) فتتهيأ الأذهان لزوجة من لحم ودم ونزداد قناعة حين يبدأ النص بكلمة (عاشرتها) ولكنه يفاجئ القارئ في الخاتمة مفاجأة لاتخطر على البال فى متن النص:
(عاشرتها طويلا..كانت تعد خطواتي و(الدراهم )ولما أثقلت كاهلي بهذا (العداد) غيرت سيارة الأجرة الصغيرة هذه بوسيلة نقل عمومية.)
هكذا نعرف أن الزوجة الثانية هي وسيلة النقل الجديدة التي حلت محل الوسيلة الأولى. هنا تتحقق النهاية الصادمة والقفلة المحكمة ولكن يبقي السؤال بشأن المفارقة قائما( هل يحمل هذا النص مفارقة؟ هل هناك معزى ظاهر غير مقصود وهو يخفى مغزى آخر خفى هو المقصود؟) في تقديري ان النص خلا من المفارقة، حيث جاءت النهاية بشرح للمغزى نفى ما تبادر الى الذهن من خلال عتبة النص، وبذلك الشرح لم يعد هناك معنى خفى. هل ترى يختلف الحال لو كانت نهاية النص خالية من التصريح بان المقصودة هي سيارة الأجرة ؟ مثلا هكذا( عاشرتها طويلا، كانت تعد خطواتي و(الدراهم) ولما أثقلت كاهلي بهذا العداد هجرتها الى غير رجعة../) هنا المفارقة موجودة والمعنى الخفي غير مصرح به. تبقى هذه محاولة أولية للإبحار في نصوص هذا المبدع والكشف عن الجواهر المخبوءة فيها وتقريب هذه النصوص الى القراء والمهتمين عبر الكشف عن شروط وآليات انتاجها ومنهجية مبدعها في حدود معارفنا النقدية التي لاتزال تتلمس طرقاً وعرة وشائكة في بحور ومجاهل وغابات هذا الفن الوليد البديع فن القصة القصيرة جدا. ولنا عودة في جزء ثان الى نصوص أخرى لهذا المبدع بإذن الله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.