لم ألتق به منذ التسعينات، ذاك الفتى الخمري المتحمس لقضايا الوطن، ورغم هبوب الزمن لم تتغير ملامح عبد الحق، نفس طريقة الحديث والحركات ، خفت الطموح السياسي، لكن حب الوطن ظل قائما. حين علمت بخبر وفاته حملت ذاكرتي إلى بداية السبعينات وزمن جيل بصم المشهدين الحزبي والطلابي، قصة عبد الحق الغزالي هي قصة عدد من شباب أحياء الرباط ومدن أخرى المتحمس للتغيير، والذي التحق بالاتحاد الوطني للقوات الشعبية بعد تبعات محاكمة مراكش في صيف 1971. كانت تعقد ندوات في مقري الاتحاد الوطني بيعقوب المنصور العلوي والسفلي، خاصة لتنظيم الشبيبة الاتحادية، و كان من بين من أشرف على إعادة الحياة له شاب اسمه الكاديلي، صاحب دراجة نارية فستقية من نوع « فيسبا», تعدد الندوات واللقاءات في مقري الحزب سمحت بتعارف أعضاء الشبيبة في جو التكوين والنقاش الصاخب والحلم بتغيير النظام. في هذا السياق عرفت عدد من شباب يعقوب المنصور من بينهم عبد الحق الغزالي ومحمد الساسي والجندالي والمخلوفي وآخرين هربت أسماؤهم من ذاكرتي، تلاميذ استوت بالكاد شعيرات على وجوهم، جله يتابع دراسته في الثانوي، لكن دينامية القطاع الطلابي في إطار الاتحاد الوطني لطلبة المغرب حملتنا إلى عالم التجمعات والنقاشات في ردهات الحي الجامعي أكدال وكليتي الحقوق والآداب التي لا تنتهي إلا لتبدأ. في إحدى الندوات التكوينية بحي يعقوب المنصور وبحضور أعضاء الشبيبة في الرباط، قدم أحمد لحليمي، الغارق في جلابة صوف سوداء محاضرة حول الجدلية و المادية التاريخية، كنا مبهورين بطريقة الحليمي في تفسير التاريخ والأشياء بالتناقضات وأثر ذلك على الصراع الطبقي وووو. إلى جانب شباب يعقوب المنصور برزت أسماء أخرى من اليوسفية والتقدم والحي الإداري، منهم إدريس لشكر، الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي الآن، والعتابي وحامي رشيد والمرحوم عبد الله السعرب الذي غادرنا منذ سنة ونيف إلى دار البقاء ومحمد بنداود والسباعي الذي التحف عباءة التصوف البودشيشي، إضافة إلى شباب من العكاري وسلا. ورغم تخصيص الحزب شقة بعمارة بشارع تمارة ( شارع الحسن الثاني)، كانت الأنشطة التكوينية تتم في فرعي يعقوب المنصور . في دجنبر 1972 عقدت ندوة لتكوين الأطر في المقر المحاذي للجوطية ، حضرها شباب الرباط وفي مقدمتهم عدد كبير من المنتمين ليعقوب المنصور، من بينهم الغزالي والجندالي والساسي والأخوان حسن وعمر بنعياش، وحسن السرغيني وآخرون، ندوة أطرها محمد اليازغي وعمر بنجلون ومحمد لخصاصي، حضرها ما يزيد على مائتي شباب من الثانوي وجامعة محمد الخامس، و تمحور النقاش فيها حول الحركة الطلابية وانسحاب الاتحاد من قيادة التحاد الوطني لطلبة المغرب في مؤتمره الخامس عشر( غشت 1972) والموقف من تيار الجبهة ( اليسار الماركسي اللنيني) ، وقدم عمر بن جلون عرضا حول الاشتراكية العلمية، في حين تمحورت مداخلة محمد اليازغي حول الوضع السياسي في سياق عرف أحداثا مصيرية كمحاكمة مراكش في صيف 1971، ومحاولتي الانقلاب العسكري في يوليوز 1971 وغشت 1972. في هذا الجو السياسي نشأ عبد الحق الغزالي الذي لفت الانتباه بطريقة حديثه تفرض الانتباه والاستماع إليه، يستعين أثناء الكلام بيديه كمن يريد الامساك بك ليس فكرا بل أيضا جسديا ، يحذق في مخاطبه، ويستعمل كثيرا « طيب الإخوان»، كانت طريقته ذكية في تركيب النقاش الذي سبق، لنقل الأفكار نحو مستوى ثان، ولذلك كان الجميع ينتظر « تدخل» الغزالي لفك العقدة. كان الاتحاد حينها مدرسة كبيرة للتعلم والتثقف واكتساب مهارات النقاش والإقناع، زمن طغت فيه قيم الأخلاق النضالية، حتى في العلاقات العاطفية. مدرسة تكوين مستمرة بصمت الكثير من حيث طريقة الحديث و الجدل والتحليل والتركيب ونكران الذات.، وحتى أولئك الذين قرروا ترك قطار الاتحاد في زمن الالتواءات، احتفظوا بخطاب الاتحاد، إنها هوية صعب على كثيرين التخلص منها، لسبب بسيط هو أن الزمن الخالق هو الهوية. عبد الحق الغزالي الذي فتح عينيه داخل عائلة اتحادية في حي التصق اسمه كثيرا بالمهدي بن بركة ، برز في الواجهتين التلاميذية/الطلابية والحزبية، كان القطاع التلاميذي جزء لا يتجزأ من القطاع الطلابي الاتحادي الذي كان يعد للمؤتمر الخامس عشر للاتحاد الوطني لطلبة المغرب، وتبعاته التي انتهت بمنعه في يناير 1973، والاجتماعات لتقييم ما فات وتحديد « استراتيجية»، المعركة المقبلة. ورغم قرار منع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية من النشاط السياسي الصادر في أبريل 1973، لم يتوقف الشباب الاتحادي عن أنشطته « السرية» ، ثم جاء الإعداد للمؤتمر الاستثنائي الذي انعقد في يناير 1975، والذي أشعل نقاشا إديولوجيا في جلسات لا تنتهي حول « مشروع الاختيار الإديولوجي »، ليليه مباشرة الإعداد للمجلس الوطني للشبيبة الاتحادية في دجنبر 1975، وكان مناسبة لعشرات الاجتماعات والتجمعات الصاخبة حول المسطرة وجدول الأعمال، لكن التجمعات الطلابية في سنتي 1976 1977خاصة في مدرج ابن خلدون في كلية الآداب كانت مناسبة لإبراز مهارات الخطابة ، وكان عبد الحق الغزالي يجذب الانتباه في مداخلاته التي تنحو إلى « التبريد»، وشكل الغزالي مع الجندالي ثنائيا مؤثرا في الأحداث بكلية الحقوق، إلى جانب عدد من الشباب كالساسي، الطالب في كلية الحقوق لكنه استوطن كثيرا كلية الآداب، و بناني وسعد الركراكي الذي كان يجد في النقاش السياسي والفلسفي في مدرجي وردهات كلية الآداب دفئا يحتمي به من برودة كلية الطب، ولشكر « الآخر» القادم من الدارالبيضاء إلى جانب المرحوم زيدان ومساعد واهلال وسيمو ومبشور واللوزي وحيدة، ثم مجموعة مصطفى المتوكل الوافد من تارودانت ، دون أن ننسى مجموعات أخرى من مختلف مناطق المغرب. شباب تجند أيضا في التشهير بالمحاكمة السياسية التي جرت في يناير بالدارالبيضاء لمناضلين من البيضاء، وديعة الطاهر ولحسن القرني وسعد الله صالح، وعضوي المكتب الوطني للشبيبة الاتحادية إدريس لشكر والهاشمي فجري. انتهت المرحلة الجامعية بالرباط لجيلنا وبدأت معركة حزبية داخلية دارت رحاها في المؤتمر الثالث للحزب المنعقد بالدارالبيضاء في دجنبر 1978، ودخل المغرب سياقا سياسيا جديدا مع المسلسل الديمقراطي، واندلع نقاش داخلي حول علاقة الحزب بالملكية والاشتراكية العلمية والاشتراكية الديمقراطية، وآثار تأسيس الكنفدرالية الديمقراطية للشغل وإضراب فبراير 1979، وتعددت قرارات الطرد خاصة من الشبيبة الاتحادية ، واكتملت هذه الحلقة بأحداث ماي 1983، وانشقاق جزء من الحركة الاتحادية، خاصة في الرباط وبني ملال تحت اسم الاتحاد الاشتراكي ، اللجنة الإدارية، الذي سيتحول سنوات من بعد إلى حزب الطليعة. بعد عودتي إلى المغرب في بداية الثمانينات التقيت بعبد الحق الغزالي، وكان الموقف حرجا تجاه عدد ممن نبتوا كما نبتنا، وضحكنا كثيرا حول التصنيفات والأسماء والمسميات، هل أنت بوعبيدي أم بصراوي؟ ثوري أم إصلاحي مخزني؟ وفهمت حينها هدف الاستنطاقات المطولة في مكتب 24 بالدائرة الأمنية المركزية بساحة بيتري، حيث أن «الأمن» كان يريد حينها معرفة هل تم اختراق الشبيبة الاتحادية من لدن « جماعة البصري» أو « الجبهاويين». ناقشت مع الغزالي قناعة الجدل التنظيمي التي ولدت مع الاتحاد و ما زالت مستمرة، وقلنا :هذا هو الاتحاد. تذكرنا معا فكرة وقف عندها كثيرا عمر بن جلون في ذلك الملتقى التأطيري بيعقوب المنصور في نهاية 1972، فكرة تتمحور حول التناقضات التي يعج بها الاتحاد، كان عمر يقول: «إن البنيات التي لا تحمل تناقضات هي بنيات ميتة، ونفتخر أننا لسنا بنية ميتة». كان ذلك ردا على خطاب اليسار الماركسي اللينيني ومناضلي حزب التحرر والاشتراكية ( التقدم والاشتراكية)، بأن الاتحاد يحمل تناقضات ستنتهي بتفجيره ونهايته، والإشارة آنذاك إلى الصراع بين الجناح النقابي والسياسي، وبين المنتصرين للعمل المسلح أو للعمل السياسي المشروع. هذا هو السياق الذي فتح فيه عبد الحق الغزالي عينيه، حضور متميز في الواجهة الطلابية والسياسية، اندمج في الأحداث وأعطى كجيله الكثير. أخال عبد الحق الغزالي، وهو يودع عائلته وأصدقائه، يحدق فيهم واحدا واحدا ويعلن قضاء الله، ليقول للجميع: « طيب آن الرحيل» ليغمد عينيه إلى الأبد ممسكا إلى آخر نفس بنظرات زوجته وبنتيه وعائلته، و أكيد أن عائلتك الصغيرة، الغزالي وباينة، وإخوانك في البيت الاتحادي وهم يوارونك آخر حبات الثرى، القوا عليك نظرة وداع و ذرفوا دمعة حزن.