عند قراءتنا لديوان ناقوس الرهبان لعبد العزيز الهاشيمي الموصمادي ناقوس الرهبان ندخل مباشرة إلى تلمس قدرة الشاعر الزجال على امتلاك أسرار الصنعة ،الصنعة في ابتكار قوالب فنية لكتابته، والصنعة في التحايل على اللغة وتحويلها من كلام عادي إلى لغة إبداع و انزياحات، والصنعة في خلق مهارة الدهشة وميكانيزمات شد المتلقي بنزع الحجاب الفاصل بين الذات والموضوع لتكون هذه المطولة، التي اختار لها أن تعلن عن نفسها، ديوانا- نصا يغري كمادة للتحليل والكشف عن رؤى نقدية تساهم في جعل القصيدة الزجلية تحضى بقيمتها النقدية في أفق استقامتها على أسس فنية متفق عليها، حفاظا على جمالية النص الزجلي و بنيته. البنية اللغوية للنص من خلال وقوفنا على تجربة الشاعر و على هذا المتن الشعري الذي اختار له الصديق عبد الحميد البجوقيي عنوان «ناقوس الرهبان»، وجدتني أمام أداء لغوي متداول تحكمه لغة الاستعمال اليومي و لغة إبداع أدبي شعري منتظم ومتزن . لغة يومية ذات خصوصية محلية - شمال المغرب- بانحرافاتها ولحنها استطاع عزيز أن يطوعها ويضعها في قالب أدخلها إلى خانة الإبداع ولغة إبداعية اخترقت العادي و المتداول في محاولة لترسيخ تقليد لغوي حقق من خلاله كل مظاهر الانسجام و التوازن الضامن لجدية النص الشعري و لجماليته. وهو في ربطه بين المعنى بلغة التداول و لغة الإبداع تمكن من الوصول إلى خلق توليفة لغوية أدخلت المتلقي إلى عوالم دلالية أسقطت لغة التلفظ داخل سلطة المعنى حيث خلخلة المفاهيم و البحث عن دلالات أخرى للمعاني . رمقاتو بنظرة وهب ليها روحو وطلب التسليم بلا زيادة بلا نقصان سقصاتو بعينا والرهبة بدات تغزيه بجيوش فتاكة ترعد لبدان تفشاف دخالو سرها المحجوب زوبار قلبو ضياق به المكان حضناتو الهيبة على سدر ناطق بطنين القلب فحال ناقوس الرهبان في هذا المقطع الذي يعتبر مفتاح هذا المتن الشعري تتبدى ذات عزيز العاشقة تنطق بكلام متداول: رمقاتو بنظرة وهب ليها روحو وطلب التسليم. لتتغير طريقة التواصل بلغة رومانسية خفيفة: سقصاتو بعينا بجيوش فتاكة والرهبة بدات تغزيه. ليصرح ببلاغة و بيان من ذاته العاشقة: سرها المحجوب زوبار قلبو ضياق به المكان حضناتو الهيبة على سدر ناطق بطنين القلب فحال ناقوس الرهبان. وهو بذلك يتجاوز لغة التلفظ ولغة الإبداع باحثا عن هندسة لمتنه الشعري من خلال بسطه وبسلاسة لصور لغوية تحيلنا إلى عناصر جمالية تؤلف و تشكل التعبير الشعري لهذا النص على المستوى الصوتي والفينولوجي والتركيبي و الصرفي والدلالي بانحرافاته التي تحكمها لغة التلفظ العامية و التي جعلت نصه يتحرر في لغة سائدة دلاليا تحيلنا إلى عوالم الشاعر الخاصة وإلى مرجعياته الثقافية والاجتماعية وتجربته الحياتية: جرى الوقت واد سايل يحارب ويقاتل يمحي سيرت الجورحة يمشي بلمهال يتمايل يشلل الحواشي يفلي الربيع عوّال يصحاح الخصايل. في هذا المقطع تتجلى بنية اللغة مألوفة مستوفية لقوانين التركيب اللغوي ولمكونات الجملة المفيدة حسب توصيفة ابن عقيل، لترتقي بمدلولاتها بتوظيف الشاعر تقنية التشخيص ضمن عملية إسباغ الصفات وإسناد الأفعال الإنسانية إلى ما هو غير إنساني فالوقت يجري ويحارب والنهر يسيل ليمحي الجرح بكل تأني وعناية، صيانة لانزلاق المعشوقة إلى عالم الخيانة وتصحيحا للقيم: يمشي بلمهال يتمايل يشلل الحواشي يفلي الربيع عوّال يصحاح الخصايل. إن عملية التشخيص بهذا المفهوم في مجال الصفة و الفعل جعل هذا المنحى الشعري يحفل بالذوات المتحركة داخل عالم مليء بالحركة والحيوية و الكلام وهنا تتبدى الصنعة في التحكم بالدلالات وإحداث التناظر الذي يميز الكلام الشعري عن غيره، مع إتاحة الحرية للكلام المألوف في استعمالات حققت للنص كذلك نوعا من الجدية و التجلي، ليتحول من طبيعته الإخبارية إلى شغل وظيفته التأثيرية، وتحول الكلام بهذا المعنى لا يتاح إلا لشاعر يملك تصورا ومرجعية فكرية مكنته من أن يكون منسجما في تعابيره، متمكنا من آليات الاختراق في استعمالاته اللغوية العادية، وامتلاكه للغة أدبية شعرية تجعل المتلقي لا يخلط بين الوظائف و يتجاوز الوظيفة الإخبارية إلى وظيفة التأثير والإثارة. البعد الجمالي للنص تتشكل جمالية نص ناقوس الرهبان من عناصر مختلفة تتحرك في اتجاه مسطح، لا تتقدم ولا تتأخر لأنها دوران حول النفس، تحكمها طبيعة الموضوعة التي يمارسها، والتي يمكن تحديدها في ثنائية المرأة والوطن، والمحكومة بتقلبات الذات المكلومة التي تضمد جرحها بالشعر في سعي لاقتناص الجمال بصنعة تنفتح على قراءة ثاقبة للواقع وتجربة حياتية سبرت غور المعاناة: قياسي فنى وقتو غاب فضباب القياسات ضبروه و ضيقو راحتو حكوا على الضبرا حتى تجرحات نزف دمها على كيتو الجورحة ماعادت نشفات. من هنا نسج عزيز أنساقا من العلاقات المتنوعة تتواشج مع العناصر الأخرى بشكل يجعل المحصول الدلالي مفهوما في بعده الإبداعي، و هذا ما تحقق من خلال حضور الذات المعبرة عن الرفض لواقع وطن نهشته أظافر الفساد في مقارنة غير متكافئة مع وطن الهجرة الذي احتضنه بحقده و عنصريته: بقلة القيمة الواقفة بلا شان واللي فلت من البحر بلاد الناس بهدلاتو لبساتو الغبينة سكنات وبنات قصورها جرى دمها فدخالو لبس تاج و حكماتو حسبنا القيمة ديالنا بلا شوار عطيناها لداتنا بلا قياس وزنها كحلنا العيون باش نعبرها الميزان مدري الحروف تسوسو ماسواو حتى بليون. بألم وحسرة يدخلنا الشاعر، بدون استئذان، إلى الضفة الأخرى، معبرا عن خيبة مستفزة نتيجة مفارقة بين واقع الوطن وواقع منفاه الاختياري: ولادها و بناتهم يخلقو فرحبة نقية حرتوها و زرعو جراو ماها بخيوط رهيفة لما تجود الصابا كلشي يلحقو النصيب حسابو مزمم ما يضع حد فالتخريفة و الحاكم حاكم حارس على متاع الناس ما يغفل حتى رمشة ما يعمل عين كفيفة. هذه المعاناة وهذا النقد الرافض لوضع وطنه يحيل الزجال مباشرة إلى خيانة معشوقته: تعشمت قلبها الباهت غير مولاه يتباها بيه حتى كان زمانو فايت عاد تمرضن فيه بقى فالزلا مخييت و طلع النهار عليه صباح خبارو بايت طلاع الفز و بقا فيه عصار الفساد حتى شرف عاد دخلاتوا الدوده و الفساد تسهال. ولتحقيق التناغم و التجانس بين هذه الثنائية المرأة / الوطن المتحكمة في النص عكس عزيز حركية عناصرها في صراع دلالي موجه للمتلقي من إحساس متشنج متوتر يتخذ مسارا تصاعديا معبرا عن ردود أفعال ذاته المكلومة التي تمسك بخيوط النص و تحافظ على بنيته اللغوية و الدلالية و الجمالية: بقا فيا لحال حتى شبت فالحروب عاد تباع طاخط الطوط بهدلني و طيح كواري تسعت لخلا ما بغى يهنيني خبار الدل شافلو لعورة من والا بقياس الزبل حتى شرف عاد دخلاتوا الدوده و الفساد تسهال. على سبيل الختم: إن هذه المطولة الرائعة تختزل الرفض المطلق للواقع، وهي انعكاس لوضع نفسي متأزم تولد عند عزيز تحكمه مفارقات و إحباطات لم يتسع لها صدره، ولم يتقبلها طموحه المثالي الطامع في وطن ينأى عن كل أنواع الفساد والظلم، ويتيح لأبنائه كل سبل العيش الكريم، ومعشوقة تلازمه و تشاركه روعة الحب والالتزام، وذات طيعة هادئة مطمئنة. لكن الوضع المتأزم الراكد لم يولد لدى الشاعر إلا الشعور بالغبن، ولم يساعده على تلمس الخلاص، بل تحول إلى موقف من هذا الواقع الذي وصل به إلى حد الانقطاع عنه وعدم قدرته على و ضع اليد على مواطن التأزم النفسي، والذي هو ليس رد فعل من وضع اجتماعي متهرئ، بل رفض للنموذج لا غير: خفف راك طولتي احشم شويا و خطيني عليك مرضك عاداني مالك صايك بيا على كل فاسد طنين لحروب عياني جعلتيني حجار لمقلاع صافي براكا هادشي يكفاني. إن «ناقوس الرهبان» بصمة ذات أدخلنا عبرها عزيز إلى تجليات المعنى في نصوص تمزج المتناقضات، في التقاط واع لليومي اجتاز به، بلغة التداول و لغة الشعر، كل القيود و السلط ليحط الرحال في حضرة سلطة الجمال. - اطلع الزجال الراحل عبد العزيز الهاشمي الموصمادي على هذه الورقة قبل وفاته بثلاثة أيام رحمه الله.