باب برونزي عتيق . وغياهبُ ِرداهٍ معْتمةٍ تفضي إلى ساحة شبه دائرية ، مغروسة في جنباتها أشجار التين الأخضر. وعلى اليمين ساحة متربة تطل على أخاديدَ غويرة ، حفرت مجراها مياهٌ عدمة . على اليسار ارتفع منسوب جدار فصل كبير ، ينتهي بأسلاك شائكة مشحوذة كالأسياخ ، وقاتمة كَلَيلٍ بهيم . في الأُفق يسرِّح الجدار عروقه الدائحة ، ماخرا عُبابَ السَّراب . يعكس في خُيَلاء وكبرياء ظلال بيوت واطئة مهزومة ، يعلوها صدأ التراب و الأحجار. أَسْعَدُ … ذَلك الكائن الحكَّاء المعلق بالجدار ، ينزلق مثل غيمة على صفحاته الإسمنتية الباردة . يرسم بالفحم ويعبر … يفتح جسده للهواء والشمس والعبارة . يأخذ إزميلا … ويخط به رسائلَ مشفرةً ومرموزة ، على أحجار كلسية بيضاء مرصَّعة على الجدار. يحمل معه أخبارَ المهمشين و المنبوذين و المغفلين والتعساء . يستدعي الصبية إلى جلساته المقامية ، ويفتح لهم تحت الجدار سقَّاية الحكي . المقامة الأولى : يرسم أسعدُ على الجدار الإسمنتي البارد امرأة تسكن التاريخ ، بفستان الساتان المنفوش ، بفتحة لينة ورحيمة على نهدين رطبين ، يتقافز عليهما النَّمَشُ . خط ممرها القديم ، وهي تجر وراءها أذيال ثوبها الأبيض … هي عروسٌ في مقامة الجدار أو جدار في مقامة العروس … صمت طويل ، كهذا يا حَضَرات، لن تقطعه هذه المرأة دون معيَّة القَدَر . يبحث في عيون الصبية عن بريق السؤال . لماذا المرأة يا أسعدُ ؟ أطلق شعره المشعَّث حيرة و تحسرا على زمن سرمدي رحيم ، بعدما نفض عن وجهه وسائر أثوابه درن الحكاية و الغبار الأثري. وقال : لولا هذه المرأة لاغتام الوجود في عيونكم ، و ما برق سنا القمر في وجودكم . أخذ أسعدُ يغير ملابسها على الجدار بألوان الطيف الباردة ؛ لتظهر للصبية في حُلَّة جديدة . لاحظوا إنها تحتفي بكم … يا حَضَرات . فأنتم نُجيماتها القطبية ، التي تضيء سماءها السابعة . قفز أحدُ الصبية و قال : إنها ، الآن، تشبه أمي تماما . كركرت الصِّبية ، حتى انتشر ضوء النهار في أفواههم الصغيرة . فما كاد ينهي الصبيُّ كلامه ، حتى اغْتام وجهه الفضي حزنا وضيما . وقال : أستتركها، يا أسعدُ، منذورة للأسر وبرودة الجدار؟ المقامة الثانية : وسط تعلق الصِّبية القوي بسحر الحكي والعبارة ، لم ينتظروا حتى موعد العرض الجديد تحت الجدار، بل دلفوا سُرادِق أسعد دون استئذان . وفي حماسة الأبطال الشجعان كسَّروا حاجز الخوف الصفيق ، وأطلوا على عالم أسعدِ الغرابة ؛ صور قديمة للموتى يعودون ، أسفار صفراءُ فاقع لونها، تسر الصبية وتستهويهم . وفي ركن قصي من الخيمة جماجمُ وهياكلُ لطيور الحوم بأعناقها الطويلة المحنطة ، نافشة ريشها الذهبي . أخذهم صوت أسعد الرخيم على حين غِرَّة … فانتشلهم من الحيرة كالصاعقة . قبل هذا الجدار…كنت أحلق في العنان، كطائر الحوم ، وأنفش ريشي في دفء الشمس، والرذاذ الخفيض القادم من على صفحات مياه النهر البارد . كالعروق يخترقني ويخترق البلاد . قبل هذا الجدار…كنت أذوب مثل سحابة صيف بين أحجار الوادي وبساتينه ، تترقرق بي مياهه الرقراقة وشجي وراويرها الغنَّاءة ، تسكن أفضية تتوارى خلف الأفق القصي. قبل هذا الجدار…كنت ، كطائر الحوم ، أشرئب بعنقي من عل على غابات الصنوبر والسنديان والدُّلْب . تتماوج في حبور ، وهي شابكة أغصانها الدائحة ، كالصبية التي تخاف المطر. قبل هذا الجدار …كنت أستحم في النهر . أعود أدراجي ، وثيابي مبللة ، ترسم حدود خطوي البليل بين أشجار الرمان والتين والزيتون وطول الزيزفون . اِهبط أيها الموت … اِهبط أيها الموت ؛ لتحرر طائر الحوم من أسري وأسر هذا الجدار. المقامة الثالثة : لستُ همذانيا ولا حريريا . أنا جئتكم من الكتب الصفراءِ الباليات . تحكي أقواما تركوا متاعهم و رحلوا في سديم الغبار الأصفر. يسكنون قفر الفلاة في قلب العطش الوقَّاد … ويذوبون زرافات تحت هذا الجدار . سأهيئ راحلتي ؛ سأضع عليها السرج و ألجمها بلجام ذهبي حتى لا تثور علي وعلى طائر الحوم . أترك خيمتي منذورة للوحدة و الريح ، يلاعبها يرشق أطرافها و ينفخ فيها من روحه . بعد اليوم ، أيها الجدار ، لن أخط عليك بإزميلي شيئا . ظننت أنِّك مهزوم في عقر فولاذك الطَّنَّان … في عقر قلبك الذي يضخ العناد . هزمتك بالحكي و العبارة … ونازلت سهامك الطائشة . ونازلتك بالمنايا التي لا تطيش سهامها . سأرحل عنك وفي وجه الصبية سأنفث السم النقيع. تعلمتُ منكَ الصمودَ … تعلمتُ منكَ الحكي … تعلمتُ منكَ الرحيلَ . أكسبتني ، أيها الجدار، معانقة الغزل ومغازلة النساء ، تعلمت منك النسيب والتشبب . أقتفي أثر الأجساد المبرورة في عمق النهر ؛ فيرتفع منسوب الشهقات الحارة من جسد وراء الأغصان الدَّائحة كالخمائل ، يبحث عن شهقته الأخيرة . وَصَلْتَنِي بالحُجُب … وأسرتني ، حَبْحَبْتُ العلقم في عمقك كجُبٍ ليس له قرار . تسافر بك الغيمات تلو الغيمات ، فيرتفع نهارك عاليا ، أيها الجدار ، وتحجب عني وعن طائر الحوم سنا القمر . سيكركرون في وجهك … وسيرحلون عنك وجلين من خطوك ، الذي لا يبرح غياهب التيه. اِهبط أيُّها الموت … اِهبط أيُّها القدر .