ما المقصود بالملك العام؟ ما هي تجليات احتلاله ؟ ما أسباب انتشار ظاهرة احتلال الملك العام ؟ كيف يتم تدبير الملك العام؟ ما هي نتائج هذا الاحتلال ؟ وما هي السبل الكفيلة بحمايته؟ خلص الباحث في علم الاجتماع بجامعة محمد الأول كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة، الدكتور ادريس مقبوب في مداخلة تحت عنوان « تحديات تدبير ظاهرة احتلال الملك العام بالحواضر » إلى أن احتلال الملك العام كظاهرة باثولوجية تنخر المدن المغربية ليست وليدة اليوم ، بل لها جذور تاريخية وموضوعية ساهمت في انتشارها. مؤكدا أنها الحقيقة الموضوعية التي تحتاج إلى التفكير في كيفية التعامل معها. لذلك، فعوض نهج مقاربة أمنية لتدبير الملك العام وتحريره من محتليه، يقترح الدكتور إدريس مقبوب المقاربة الاجتماعية والتشاركية التي يعتبرها من الآليات الناجعة في التقليص منها والتخفيف من حدتها، لأن الأمر برأيه يتعلق بحرفة تمتهنها فئة اجتماعية محرومة من أبسط شروط العيش والحياة. في معرض إجابته عن الأسئلة المطروحة ، اعتبر أن السلطات المحلية ملزمة بالخروج عن صمتها والتدخل عاجلا لتدبير الملك العام وتحريره ، واستعرض أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب بوجدة في ورقة قدمها خلال الملتقى الثقافي في دورته 25 المنعقد بصفرو نهاية أبريل المنصرم تحت شعار « المٍلْك العام البلدي: هاجس التثمين وإكراهات التدبير » ، تحديات تدبير ظاهرة احتلال الملك العام بالحواضر» مشددا على ضرورة التقيد بالقوانين وتطبيقها وتنفيذها خاصة بالنسبة لأرباب المقاهي. ودعا مقبوب إلى تجاوز المقاربة السياسوية الضيقة للظاهرة، وتخطي المقاربة الأمنية في التعامل مع الظاهرة باعتماد المقاربة التشاركية وإقحام ممثلي تجار القطاع المهيكل وغير المهيكل والمجتمع المدني والحقوقي في تدبير الملك العام، مشددا على أهمية تنظيم أيام تحسيسية حول أهمية معمار وعمران المدينة وخطورة الظاهرة عليها مع تبني المقاربة الاجتماعية والتفكير في حلول للباعة المتجولين والفراشة بمعيتهم. مقبوب الذي اعتبر ظاهرة احتلال الملك العام من الظواهر المزعجة والمقلقة للمجال الحضري، اتهم لوبيات العقار التي ارتفعت أرقام معاملاتها بشكل صاروخي حيث بات الفضاء الأخضر واليابس يتعرض على نحو مزعج لاختراق مستمر ومتواصل مستمر دونما حماية ، وهو ما يفضي حتما إلى إفراغ المدن من جمالها الطبيعي وتعويضها بالبنايات والعمران. وتساءل عن الهدف وراء محو الرموز الفنية والجمالية للمدينة المغربية التي كانت تحيط بها في الزمن الماضي البساتين والحقول ، وأصبحت اليوم مسيجة بالمباني والعمارات. لكن هذه الخيبة المريرة لن تقف عند هذا الحد، بل ستمتد بتقزز لتمارس أبشع تسلط على حقوق المواطن في التجول في الشوارع والحدائق العمومية، بالقوة والتحايل على القانون وتواطؤ السلطات المحلية إلى المستوى الذي أصبح يطغى عليه نوع من العبثية والفوضى، حيث غدا المواطن محروما من ولوج هذه الفضاءات لا لشيء ، إلا لأنه لا يحس براحته ، ولا يشعر بالأمان، الشيء الذي يجعله يفكر في الابتعاد عنها. وما الباعة الجائلون والفراشة والترامي على الملك العام (احتلال الشوارع والأرصفة وواجهات المؤسسات الدينية والتربوية...) يضيف المحاضر « سوى صور معبرة وواقعية عن هذه الظاهرة». وفي سياق عرضه أثار المتدخل قضايا تهم تجليات احتلال الملك العام وتوقف عند أشكالها وصورها من جهة، كما أثار ايضا إشكالية تدبير المجال ما دام السطو على الملك العام في حد ذاته هو غطاء على الكيفية التي يدبر بها المجال في المدار الحضري. وأوضح أن الآراء والمواقف حول هذه الظاهرة تبقى متباينة ومتراوحة بين رفضها وقبولها بحسب الاستفادة منها من عدمها. فهناك من يؤيدها بإنكار صفة الاحتلال لهذا الملك العام ، وهناك من يعارضها بدعوى أن ذلك إخلال بالقانون وسلب لحقوق المواطن في التصرف في هذا المشترك بالشكل الذي لا يسيء للآخر. ومن خلال هذه الصور نستنتج أن ثنائية القوة والقانون ، أي أن الصراع على المجال قائم بين الذي يمتلكه بالقوة ، وبين الذي يعمل على تحريره بقوة القانون ، فأيهما سيخدم الآخر لتدبير المجال؟ أو، بالأحرى، لامتلاكه؟ فإذا كان القانون عبارة عن ضوابط وثوابت ومبادئ وقواعد لتحقيق العدالة الاجتماعية، فلماذا يغيب في تدبير أزمة المجال وفي استرداد الملك العام؟ وبخصوص الآليات التي تشتغل بها الظاهرة ، قارب المحاضر احتلال الملك العام من خلال التطرق للآليات، والعوامل المتحكمة في انتشارها، وتوقف عند تمثلات الفاعلين السياسيين والمنتخبين منها، ومحاربتهم للظاهرة بشكل مناسباتي وبعد تدخلات براغماتية. ليخلص مؤقتا إلى أن ظاهرة احتلال الملك العام بقدر ما هي ظاهرة مرضية ، فقد صارت، أيضا، ظاهرة طبيعية ومألوفة عند المواطن العادي بحكم الاحتكاك اليومي بها، والتكيف معها بفعل التردد الدائم عليها. من جهة ، كما أصبحت مفروضة بفعل التملص من المسؤوليات. لأنها في واقع الأمر، صراع مجالي وسياسي. تجليات احتلال الملك العام أمام ندرة المصادر والمرجعيات النظرية والعلمية التي أطرت ظاهرة احتلال الملك العام ، فقد اضطر المتحدث للاكتفاء بالتعريف الذي قدمه أحد الباحثين والذي مؤداه أن الملك العام هو ما لا يستحقه الإنسان لوحده بقدر ما هو مشترك بين الناس، وتدخل في إطاره الأرصفة والمساحات والحدائق العمومية والإدارات وأسطح وممرات المساكن المشترك . ووفق التعريف ذاته ، يتميز الملك العام بخصائص، ينفرد بها عن الملك الخاص، تتمثل في عدم القابلية للتفويت، وعدم القابلية للحجز، وعدم القابلية للاحتجاز كما جاء في ذات التعريف السالف ذكره. وهي خصائص كافية لتأكيد بأن الملك العام لا يحق لأي فرد أن يتصرف فيه بذاتيته، وبالتالي فإن احتلاله هو غير مشروع قانونيا وشرعا. والملاحظ ، حسب موجهات العرض أن التصرف في الملك العام واستعماله يتراوح بين الترامي والتسلط عليه بالقوة من جهة، وبين الترخيص القانوني له من جهة ثانية، حيث يتخذ ذلك صفة الاحتلال المؤقت يتبع فيه مسطرة وإجراءات قانونية، بينما يصير الأول احتلالا دائما وبالقوة وتحت أنظار السلطات المحلية. لكن ماذا عن تجليات احتلال الملك العام؟ هنا يوضح المتحدث أنه لا ينبغي تجسيده في الباعة المتجولين أو المستقرين على الأرصفة وفي الأزقة والشوارع والحدائق وبجانب المؤسسات العمومية (المدرسة، المستشفى، المسجد، السجن، المحطات الطرقية...)، أو وسط المدينة، أو في الأحياء الشعبية منها والراقية ولو بأقل مستوى. بل ، إن ظاهرة احتلال الملك العام تفوق ذلك بكثير. حيث باتت المقاهي، هي الأخرى تتسلط على الملك العام، أرصفة الشوارع، وتحرم المواطنين من حقهم في الولوج إليها، بل ، نجد أيضا ما هو أخطر من ذلك، يتمثل في السطو على العقار وتفويت المساحات الخضراء لذوي النفوذ واللوبيات للاستحواذ عليها. وهذا ما يجعل الجمال الطبيعي للمدينة ينقرض تدريجيا ويحل محله الجمال المعماري. غير أن المستهدف من محاربة ظاهرة احتلال الملك العام يبقى تحديدا فئة الفراشة والباعة المتجولين أو المستقرين، مما يجعل المتلقي يكتشف ازدواجية الخطاب الرسمي ومفارقته في التعامل مع هذه الظاهرة. بل وتناقضاته أيضا ، فمن جهة ، يغض النظر عن المقاهي والتجار الذين يخرجون سلعهم إلى أرصفة الشوارع والمترامين على العقار من طرف السلطات العمومية، ومن ناحية أخرى يحارب ويحاسب الباعة المتجولون والفراشة المسترزقون ببضاعتهم. أما المواطن، فلا حول ولا قوة له سوى الاحتجاج والاستنكار أحيانا، والتعاطف مع هؤلاء أحيانا أخرى. وفي سياق عرضه ، أشار إلى أن هناك أنواعا أخرى من الملك العام وتقع تحت مسؤولية السلطات المحلية والمجالس المنتخبة، يتعلق الأمر بالأملاك المخزنية أو الأملاك الجماعية. إنها الأنواع الأكثر استهدافا للسطو والتسلط لكونها تكون مجاورة لذوي الملك الخاص وهو ما يسهل من فعل الترامي عليه؛ أو لكون أهميته الاستراتيجية في التراتبية المجالية تجعله موضع تهافت وطمع المترامين عليه، ويحدث ذلك إما بدون رقابة أو بواسطة غض الطرف خدمة لأغراض خاصة. وحول دواعي انتشار ظاهرة احتلال الملك العام، أوضح أستاذ علم الاجتماع، أن تفشي ظاهرة احتلال الملك العام لم يكن محض صدفة، بقدر ما كان وليد مجموعة من الشروط التاريخية التي أنتجت الظاهرة ، مستشهدا بتقارير للمندوبية السامية للتخطيط لسنة 2007 تفيد بأن عدد المشتغلين في القطاع غير المهيكل يفوق 2,2 مليون، وهنا يدعو المتحدث إلى أن الرقم له دلالة اقتصادية واجتماعية ، تستدعي التأمل والتفكير فيه. المتحدث أوضح في ذات السياق أن هذه الظاهرة لا يعاني منها المجتمع المغربي فقط، وإنما هي ظاهرة تكاد تكون شبه كونية وتعاني منها المجتمعات المتخلفة تقريبا، خاصة في إفريقيا، وتشهدها بعض البلدان الأوروبية إلا أنها تتسم بطابع الانتظام. وتوقف الباحث كثيرا عند الأسباب التي أدت إلى ظهورها ، معتبرا عامل الهجرة من البوادي نحو المدن أحد الأسباب الرئيسية ،لكونها أي البادية المغربية، تعاني من الفقر والهشاشة ، وتفتقر لكل الشروط الموضوعية الكفيلة بالإبقاء على أبنائها فيها مما ينتج عنه اكتظاظ الحواضر . وحيث أن فرص العمل تكاد تكون منعدمة بهذه المجالات الحضرية، فإن هذه الأخيرة لا تجد بدا من اللجوء إلى البيع التجوالي واحتلال الأحياء الشعبية ببضاعتهم وسلعهم التجارية. إلا أن هذه الظاهرة بدل تطويقها بمعالجة الأسباب اقتصاديا واجتماعيا ، يطلق لها العنان لتتكاثر على نحو مقلق ، بعد صمت المسؤولين في التعامل معها عبر نهج أساليب مصلحية ضيقة ، واعتبارها رهانات سياسوية. إلى جانب الهجرة، ذكر المحاضر عامل العطالة التي تساهم بدورها في انتشار هذه الظاهرة بين فئة الشباب المنحدرين من أوساط شعبية وفقيرة لم يتفوقوا في مسارهم الدراسي، بل حتى بين الحاصلين على شهادات مهنية (الإجازة، شهادات التكوين المهني...)، يلجأون إلى امتهان هذه الحرفة التي تدرج ضمن القطاع غير المهيكل الذي لا تؤدى عنه الواجبات الضريبية. من جهة ثانية لا يستثني الباحث الاكاديمي المدرسة المغربية من مسؤوليتها، إذ يعتبر الهدر المدرسي من العوامل المنتجة لهذه الظاهرة التي تمتص الجيوش الفاشلة دراسيا والمنقطعة عن المدرسة. وتدفع المتطلبات اليومية المغرية، خاصة منها المادية، بهؤلاء إلى البحث عن الآليات التي تساعدهم على الاندماج ومسايرة المعيش اليومي. كما لم يستثن فئة المتقاعدين ذوي الدخل المحدود والذين يتعاطون للبيع المتجول ، مشددا على ضرورة أخذهم بعين الاعتبار أثناء مقاربة هذه الظاهرة، على أساس أن هناك من يعتبرها وسيلة لملء الفراغ من جهة، ومن يعتبرها آلية لسد احتياجاتهم المادية علما بأن مرتبهم لا يكفي لذلك. تزايد الظاهرة مع كل استحقاق انتخابي والأعياد بالعودة إلى الأساليب والآليات المعتمدة في السطو على الملك العام، ذكر المحاضر بنتائج دراسة ميدانية أشارت إلى أن هذه عملية احتلال الملك العام تتم بطريقة ممنهجة وتدريجية، إذ تتزامن مع الاستحقاقات الانتخابية وفرسانها من بعض رجال السلطة والمنتخبين... قاسمهم المشترك هو المصلحة الخاصة، حيث تجسد هذه الأخيرة أساس كل صراع بين الأفراد ينتج عنه دفن الشفافية والتعالي على الديمقراطية في الاستفادة من الملك العام. لكن هذه العملية ستتخذ شكل سيرورة تصاعدية، يوضح المحاضر، تبدأ حسب هذه الدراسة بدرجة التحسيس، حيث يتحتم على المستفيد من عملية الاحتلال أن ينتظر يوما تتعطل فيه كل المؤسسات والمرافق العمومية كأيام السبت والآحاد، أو الأعياد الوطنية والدينية، يحدث كل ذلك في تنسيق مع بعض رموز السلطة (الشيخ، لمقدم...). تليها بعد ذلك عملية تجنب الاحتكاك مع الآخر وتفادي الاصطدام، وتعد هذه الخطوة من بين وصايا ممثلي السلطة للمحتل لضمان السطو دون مشاكل وعراقيل من شأنها أن تحول دون نجاح المهمة. تستبع هذه الخطوة بأخرى تتمثل في القيام بفعل الترامي باستغفال الآخر والتصرف كمالك للمجال المحتل. وهكذا إلى أن يصل المترامي على الملك العام إلى الاستحواذ النهائي عليه بتنسيق مع السلطات الرسمية والمحلية، وبإيعاز بعض رموزها مقابل مبالغ مالية وإتاوات يسكتها بها. إن المنهجية المتبعة في احتلال الملك العام السالف ذكرها لا تنطبق فقط على البقع الأرضية المنتمية إلى الملك العام، والتي عادة ما تكون بجوار الطرقات (توسيع هامش المنزل) أو المؤسسات والمقاهي، يتابع الدكتور مقبوب ، ولكن تشمل أيضا الحركة التجارية. إذ يقوم التجار باكتساح الأرصفة بسلعهم يوما عن يوم، وتحت أنظار المعنيين بالأمر وبتواطؤ معهم. والصورة ذاتها تنطبق على الباعة الجائلين الذين يهمسون في آذان رجال السلطة المراقبين لهذه المجالات (قوات مساعدة، شرطة...) فيفسح لهم المجال لعرض بضاعتهم في الساحات العمومية، فيتحول ذلك إلى الأمر الواقع الذي يستحيل معه على المواطن فعل أي شيء. وعن سبل حماية تدبير الملك العام يورد الدكتور مقبوب، خلاصة تقرير لهذا المجلس عام 2008 أن السلطات المعنية تتهاون في حماية الملك العام. لذلك تلجأ هذه الأخيرة إلى تصدير هذه الأزمة إلى الفئات المعدومة من عامة الناس التي تلجأ إلى الاسترزاق عن طريق البيع التجوالي (الفراشة، البائع المتجول) فتعمل على محاربتها واستصدار سلعها قصد اجتثاثها والحد من الظاهرة. وهذا النوع من المقاربات، وهي مقاربة أمنية، أكدت التجارب فشلها في التعاطي مع هذه الظاهرة. إن الإرادة السياسية تلعب الدور الكبير في تدبير الملك العام واستغلاله بالشكل العادل والذي يخدم كل مكونات المجتمع إذا توفرت لدى المسؤولين، وحضر الضمير الحي عوض الضمير المصلحي والانتهازي. ويتحمل النسيج الجمعوي المغربي الحقوقي والمدني المسؤولية التاريخية في المشاركة في تدبير الملك العام، على الرغم من أن الحركة الجمعوية المهتمة بحماية الملك ومناهضة احتلاله ما زالت في بداية التأسيس. غير أن المفارقة في تدبير هذه الظاهرة تبدو جلية في غياب الأحزاب السياسية، وغياب الجسم النقابي، في تأطير وتوجيه هذه الظاهرة نحو المصلحة العامة، علما بأن الخاسر الأكبر في هذه العملية هي الدولة. أما الطبيعي فهو ضرورة التواجد الفعلي لكل الأطراف المعنية لحماية الملك العام، والحد من السطو عليه بكل تجلياته سواء من طرف ذوي النفوذ أو حتى من طرف الباعة المتجولين. الاحتلال .. والعلاقة بين القوة والحق تقتضي عملية حماية الملك العام استحضار البعد الحقوقي في تدبير المجال والذي تتصارع حوله كل القوى الاجتماعية والسياسية كذلك. فالمجال هو موضوع تجاذب وتقاطب وتصارع أيضا بين كل من القوة والحق، بين القوي والضعيف، بين الذي يمتلك النفوذ السياسي والسلطوي وبين الذي يفتقده. إن امتلاك المجال، أو بالأحرى الحيز الاجتماعي، هو امتلاك للسلطة وللقوة على حساب الحق. وامتلاك السلطة والقانون هو امتلاك للمجال والاستفراد به وإزاحة الآخرين عنه. لذلك، فاحتلال المجال (الأرصفة، الحدائق، الشوارع، الفضاءات الخضراء...) هو في عمقه استقواء بالقوة من جهة، وبالقانون من ناحية. ويتضح ذلك بشكل ملموس على أرض الواقع: التنافس على المجال بين المحتلين أنفسهم سواء تعلق الأمر بالباعة المتجولين، أو بالساطين على المساحات الخضراء والبقع الأرضية، أو بين المترامين على محطات وقوف السيارات، أو بين مرتكبي الجرائم (العصابات الإجرامية). وتبقى السلطات المعنية متفرجة على ذلك دون أي تدخل يمكن أن يشفع لها أمام المواطن الذي يفقد ثقته فيها بفعل هذا الموقف السلبي. يحدث ذلك كله من منطلق أن المجال/المكان/الحيز هنا هو عماد الحياة وعصبونها وأساس الحركة التجارية والأنشطة ومورد للعيش، وهو كذلك أيضا لأنه فضاء للتفاعل الاجتماعي وأساس للتواصل اللفظي والجسدي وتأسيس لعلاقات اجتماعية تقرب الناس معا ولو تحت هويات معينة وتصنيفات اجتماعية متراتبة. إن العلاقة مع المجال تساهم في الكشف عن الممارسين الحقيقيين للسلطة وعلى من يمارس عليهم فعل السلطة. وبالتالي يتم تصريف القوة لامتلاك المجال، وكم من جريمة حدثت نتيجة هذا الصراع ذهب ضحيتها أبرياء. كما يشهد هؤلاء صراعات داخلية وصورا من العنف، وتظهر في أشكال من الصراع على تقاسم المكان الذي لا يملكونه، وحول السيطرة على أكبر جزء منه. ولكنهم عندما يواجهون المجتمع الخارجي (السلطات)، فإنهم يكونون يدا واحدة، وقوة جمعية لا يستهان بها . تبدو هذه الفضاءات/الأمكنة في المتخيل الجمعي على أنها مجال للتنفيس عن الذات. بينما الحقيقة عكس ذلك كليا، إذ تتحول إلى أمكنة مرعبة حيث يسود الخوف وعدم الأمن والتظاهر بالسيادة والتملك لها وممارسة القهر على الآخرين وابتزازهم ماديا. فالعلاقة بين القوة والحق حول المجال هي علاقة صراع وثنائية الأقطاب (المواطنون ومحتلو المجال)، أما ممثلو السلطة فهم يتقمصون شخصية الحكم الذي يتدخل لإخماد الصراع لحساب هذا الطرف أو ذاك حسب علاقات القوى، والبقاء للأقوى، لأن التاريخ يبين بأن صاحب الحق هو المستقوي بالسلطة والنفوذ في وجه قوة أخرى تتميز بالضعف. وهكذا فامتلاك المجال بالقوة يوازي التحكم فيه وتستسلم القوة الضعيفة لذلك ،لأن القوة المهيمنة لا تمارس سلطتها إلا إذا كانت في علاقة جدلية مع قوة أخرى مهيمن عليها، كما يقول نيتشه . تداعيات الظاهرة بقدر ما لظاهرة احتلال الملك العام (والحديث هنا عن الباعة المتجولين والفراشة) من إيجابيات على مستوى تنشيط الحركة التجارية بالهوامش والأحياء الشعبية وتكثيف علاقات العرض والطلب بكونها الفضاءات التي تلجها عامة الناس للتبضع نتيجة الأثمنة المناسبة، إلا أن لها نتائج عكسية على منظومة الحياة بشكل عام في المدار الحضري التي يمكن تحديدها في الأفكار التالية: ترسيخ عملية الهجرة: لأن فرص الشغل تبدو منعدمة في القرى والبوادي، فإن عائلاتها وشبابها يضطرون إلى مغادرتها والتوجه نحو المدن. وينتج عنه تسييجها بجيوش احتياطية تستوطن هامشها في أحياء قصديرية تنعدم فيها الشروط الصحية للحياة، ويتم نقل أنماط العيش القروية إلى هذه المدن. بدونة المدينة Ruralisation de la ville : بحيث تلجأ الساكنة المهاجرة نحو المدن إلى نقل أنماط عيشها معها. فغالبا ما نجد أبناء هذه الأسر تقوم بالبيع المتجول بينما يتكفل الأب برعي بعض من الماعز والأغنام، أما الأم فهي تسهر على تربية الدواجن. ولعل ذلك من شأنه أن يجعل المدينة أمام أنماط حياة متنوعة (عصرية وبدوية). وهكذا يتحول نمط الحياة في المدينة إلى خليط مما هو قروي وحضري يفقدها خصائصها المعمارية والحضرية. ومن بين الآثار السلبية الناجمة عن ظاهرة احتلال الملك العام، خاصة عندما يتعلق الأمر بالباعة المتجولين والفراشة، الفوضى والسلوكات الشائنة والعبارات النابية حتى أصبح معه المواطن يحس بنوع من التقزز من هذه التصرفات وهو ما يحرمه من ولوج هذه الفضاءات. انتشار الجريمة: تعريض المواطنين للآفات نتيجة بروز أفعال إجرامية ناجمة عن صراعات حول المجال وطغيان قوة القوي على الضعيف، كما يتعرض المواطنون إلى التعنيف من قبل هؤلاء الباعة. وقد تحدث هذه الجرائم أيضا بين الباعة أنفسهم. ضرب القطاع المهيكل: وينتج عن هذه الظاهرة أيضا ضرب القطاع المهيكل، إذ يصل رقم معاملات القطاع غير المهيكل إلى 280 مليار درهم ، وهو رقم يثير الدهشة. فكيف يتأتى للدولة الاستغناء عن هذا الرأسمال في ظل حاجة البلد لإنعاش اقتصادي واجتماعي. أمام هذا الوضع، غالبا ما يخرج التجار المنظمون في جمعيات وإطارات يناشدون المسؤولين قصد التدخل لحماية تجارتهم، ويحتجون على الظاهرة التي أصابتها في العمق. كما تفقد الاقتصاد المهيكل توازنه، وغالبا ما يترتب عن ذلك عرض هؤلاء لبضاعتهم في الشارع بدورهم، وبالتالي استفحال انتشار الظاهرة. يتخذ هذا الاحتلال والزحف على الملك العام صفة السرعة الجماعية بعد أن كان يتسم بالبطء والهدوء في بداية الأمر في ظل غياب تام للمسؤولين.