لقد شهدت منطقتنا الإقليمية تحولات عميقة, أثرت على الداخل المغربي من خلال بروز مطالب الشباب في مغرب الحرية والكرامة، كتعبير طبيعي عن انقلاب في الهرم السكاني لصالح قاعدة شبابية واسعة. لأجل هذا التحول تساءلنا ونتساءل، كباحثين وفاعلين سياسيين، حول مسألة الواقع عوض تصريحات تبريرية ستزيد في انسداد الأفق أمام الشباب، خاصة عند القوى التقدمية الحداثية والتي هي مدعوة إلى مساءلة الذات عوض الهروب من مسؤوليتها. هذا المسار، إن حصل، سيكون ردة ممنهجة لمطالب التحرر، التقدم، الحداثة، والمسار التاريخي في بناء دولة المؤسسات والحق والقانون الحاضنة لتعدد الثقافات. هذا المسار يفرض علينا اليوم، كقوى حداثية، تحمل المسؤولية في مواجهة واقع التردي الثقافي والمسخ الفكري والبؤس السياسي الذي يكشف، يوما بعد آخر، عجزهم عن تحقيق الوعود الانتخابية، بفعل عجزهم عن إبداع حلول اقتصادية واقعية وتذرعهم بتركة الماضي ومحاولة الاستحواذ، باسم الديمقراطية، على البلاد والعباد واختزالهم الديمقراطية في أصوات عددية. إن الفساد لا يواجه بتصريحات وفقاعات صوتية وتعبيرات من قواميس حيوانية ومواجهة أعداء هلامية، بل بمكانزمات تخول الاحتواء والحد من أخطاره وآثاره، مما يستوجب مقاربة تشاركية نص عليها العقد الدستوري وجعلها أساس نظام الحكم. غير أن الحزب الأغلبي، الذي يختزل المشاركة في النصح، يفرغ النشاط السياسي من محتواه الإيديولوجي، وتصبح الكائنات السياسية بلا لون ولا مذاق، في وقت يعرف فيه الوضع الاجتماعي تأزما وتزداد الصعوبات الاقتصادية ويتدنى مستوى المعيشة بشكل عام ويتفشى جو الارتياب والخوف من المستقبل, جراء غياب الانسجام الحكومي وظاهرة »البريكولاج«. إن هذا التيه السياسي يجعلنا، كمعارضة حداثية تقدمية مع باقي قوى المعارضة الحداثية، مدعوين إلى توفير بديل حداثي يحصن الخيار الديمقراطي ويقوي المؤسسات الدستورية ويغرس الحداثة في عمق المجتمع المغربي كعامل حاسم لضمان التحول الآمن، والذي بدونه لن نستطيع تحصين المكتسبات الديمقراطية. هذا التحول يفرض الوضوح القيمي القائم على المشروع المجتمعي الحداثي الديمقراطي، بتوظيف تراكم مكتسبات التدبير والاعتراف بالأخطاء. إن المشروع الجديد هو حلقة في مسار الحركة الاتحادية، يقوم بالربط بين مبدأين هما المواطنة والديمقراطية، كإطار لتحول شعبي ونخبوي باتجاه قيم الحرية والمساواة، لقيادة قاطرة الإصلاح والتنشيط الكلي لمختلف الطاقات المجتمعية ببعث الأمل ومواجهة إحباط اللحظة واندلاع اللايقين والظن والشك بفعل الردة الثقافية وبروز بعض »النخب« فاقدة للبوصلة، تتناقض تصريحاتها مع ممارستها العملية بسلوكات سياسية يصعب توصيفها بغير الطفرة السياسية, التي جعلتها تنتقل من مرحلة الطفولة السياسية إلى مرحلة الشيخوخة السياسية، تعيش حالة انفصام سياسي بين القول والفعل,ركبت على تحولات شبابية وتجسد الانتهازية في أبشع صورها السياسية. هذا المسار الغارق في الانفصام جعلها تفقد مصداقيتها وتعجز عن استيعاب التحولات الإقليمية والداخلية التي تستدعي الوضوح وإيجاد ترجمته التنظيمية في شكل قطب حداثي ينكب على تأهيل الشأن السياسي والاجتماعي عوض الرجوع إلى الماضي. إيمانا منا بكون التنافس السياسي يستوجب الإبداع، دون الدخول في جدل عقيم، سنعمل على مناقشة بعض الأطروحات التي يحاولون الترويج لها، وإن كان ذلك يتم بخجل، هاجسهم الاستفادة من مكاسب عبر مغازلة الحزب الأغلبي، وإن كان ذلك على حساب إصرارنا -كاتحاديات واتحاديين- على الحقيقة أولا، أطروحات اتجهت، في ضرب واضح لأسس دولة القانون، لتتضامن مع متهمين بالقتل بدعوى صداقة، في ضرب واضح للهوية الحداثية والتراكم الاتحادي الذي يقول »الطريق قبل الرفيق«. والحقيقة أن مثل هذه المبررات ليست سوى إيهام للذات قبل محاولة إيهام الآخر بكون روحها الانتهازية تسعى، بلا هوادة، إلى إيجاد موطئ قدم في مناصب الريع الحكومي، وإن كان ذلك على حساب العقيدة الاتحادية من خلال التلويح بالكتلة التاريخية دون أن تكلف نفسها تدبر واستيعاب سياق طرحها من أنطونيو غرامشي الذي ركز في معظم كتاباته على تحليل القضايا السياسية والثقافية ونقد الزعماء السياسيين ورجال السياسة والثقافة، حيث يبلور »طرح الكتلة التاريخية« في ظل سياق أوربي, أفرز سيادة أحزاب شمولية: الفاشية بإيطاليا والنازية بألمانيا, هددتا مستقبل الديمقراطية في أوربا، عبر دعوات إلى تحقيق تحالف تاريخي بين القوى الاشتراكية والشيوعية والليبرالية من أجل مواجهتها. وهذا الطرح أغرى الأستاذ محمد عابد الجابري، إبان سنوات الصراع، كمخرج لتحقيق توافق تاريخي يمكن من تكريس الخيار الديمقراطي، وهي المرحلة التي قادها الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي في ما سمي بحكومة التناوب التوافقي، والتي انتهت بدستور 2011 الذي دستر الخيار الديمقراطي كثابت من ثوابت المملكة، يستوجب منا كفاعلين سياسيين فرزا سياسيا يمكن من فتح نقاش حول القيم والتمثلات داخل المؤسسات، عوض الانخراط مع قوى التدين السياسي في ثقافة فلكورية قائمة على نظرية المؤامرة، حيث تبرر عدم قدرتها على تنزيل وعودها الانتخابية بادعاء وجود قوى متآمرة تؤثر أو تقاوم الإصلاح في الكواليس. في المقابل، تحاول التغلغل في مفاصل الدولة والحياة السياسية والانقلاب على كل المبادئ الكونية من خلال نهج البكائية السياسية، الأمر الذي أرخى ظلاله على الواقع الثقافي وكرس مشهدا سياسيا ممسوخا وعجزا اقتصاديا خطيرا. إن الحركة الاتحادية, هي الحركة المؤهلة لجمع كل الأطراف الحداثية، وتشكيل وتجسيم كتلة حداثية تضم كل القوى الحداثية المؤمنة بالتغيير، والتي لها فعل في المجتمع أو القادرة على ممارسة ذلك الفعل، ولا يستثنى منها بصورة مسبقة أي طرف من الأطراف، إلا القوى التي تضع نفسها خارج التكتل الحداثي. إن هذا الطرح مدرك لجسامة المرحلة، متحرر من عقد الماضي، ومدرك أن أي قوى لا تستطيع بمفردها مواجهة هذا العبث السياسي الذي يجبرنا على الانتصار للوطن أولا، فبناء الغد لا يكون بالأنانية والسياسة لا تمارس بالأحقاد، بل بالحكمة والتبصر لمواجهة النكوص وضمان ديمقراطية متواصلة تعبد الطريق لترسيخ الحداثة وتقوية المؤسسات. هذا المسار الصعب يتطلب منا إدراك أنه حان الوقت لخوض معركة قوية، مع دعاة العدمية وقوى الرجعية التي جعلت المشهد السياسي يسيطر عليه التفه الفكري والانحطاط الثقافي والانتهازية المفرطة. إن عملية التحول تفرض انتقاد الواقع بغية تجاوزه، عوض الخوض في معارك مفتعلة، ومواصلة النضال من أجل مجتمع حداثي مع مراكمة المكتسبات دون التفريط في المبادئ، وذلك بجعل الديمقراطية فعلا متجددا ونضالا متواصلا وليس شعارات »ستاتيكية« محصورة في التداول السلمي للسلطة فقط، بل مهمتنا التاريخية في هذه المرحلة تحتم علينا النفاذ إلى عمق الديمقراطية وضمان تحقيق التوازن وصون الحريات. وهذا الاتجاه يقتضي الوضوح القيمي أولا، وتجاوز عقلية المريد والزعيم إلى عقلية التعاقد والمشاركة.