1 لا يمكنُ لهذا الرّجل الطيّب، الصّحْراويّ الأصْل، أنْ يثبُت في مكانه لحظة واحدة، دون أنْ ينهض للإجابة على مكالمة هاتفية جدّ معلومة. ذلك أنّ منصبه الإداريّ المرْموق يتبعُهُ أينما حلّ وارْتحل، حتى ولوْ كان في قيْلولته بعد الغذاء. حتى ولو كان نائما بالليل. حتى ولوْ كان يسوقُ سيّارته فوق القنْطرة الرّابطة بين المدينتيْن المجاورتيْن، الفاصل بينهما نهر أبي رقراق. هذا الرّجل- التيلفون لا يستريح أبدا من التيلفون. فقد أوشكتْ أذناه أن تُصَمّا من كثرة المكالمات الصادرة من سكرتيرته، من الكاتب العامّ للوزارة، من رئيس الموارد البشريّة، من المُقاول الملتبس الذي يغشّ في البناء، من زوْجته وأبنائه، من ضيوفه أبناء العشيرة، حتى إذا ذهبَ عند طبيب لإجراء فحْص طبيّ، قيل له إنّ سببَ انهيارك وتعبك هو التيلفون. فهلاّ استرحتَ أيّها الرجل الطيّب من الرّدّ على المكالمات الهاتفية التي «تهْطل» عليك كلَّ صباح وزوال ومساء، وأغلقتَ هاتفك المحْمول نهائيّا حتى تستريح من عناء الإجابات؟ هلاّ جلستَ قليلا إلينا وتغذّيت على راحتك، واستمتعت بلحظتك النفسية؟ إنّ أصْحاب هذه المكالمات لمتعبون حقّا، ذلك لأنهم لا يفرّقون بين المرْء وزوْجه، بين المرْء ونفسه، بينه وبين أصدقائه الكُثُر. 2 منذ أن «دخل» البُّورْطابْل حياة المغاربة وهمْ لا يصدّقون بأنّ هذا الجهاز السحريّ الصّغير، مثل لعبة، سَيَصلهم ببعضهم البعض حتى ولو كانوا متباعدين جدّا في المدن الأخرى. بل بإمكانهم الاتصال بقارة أخرى بعيدة عن وطنهم. هكذا ذابتْ كلّ المسافات وقد محاها البورطابل بمجرّد مكالمة، ووضعها على جناحيه الهوائيين. وباعتباره عاملا هامّا في التواصل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وحتى الثقافيّ والفنيّ، فإنه أيضا عامل تخريب وكذب وخيانة زوجية مشتركة. ثمّة زوج يكذب على زوجته، وزوجة تكذب على زوجها، وعشيق على عشيقته وهو في حضْن امرأة أخرى. ثمة نمائم هوائيّة، فيّ أنا وْفيكْ أنتَ. لقد كان التيلفون القارّ، في المقاهي، في العقود الثلاثة الأخيرة، مسْتحيلا على المُواطنين الراغبين في إجراء مكالمة شخْصية أو عائلية. كان أربابُ المقاهي يضعون أقفالا صغيرة للحيْلولة دون احتكار الزّبون للتيلفون مدة زمنية طويلة. وكان ثمنُ المكالمة درهميْن لا أكثر. ومع ذلك، فقد كان نادل المقهى يقف عند رأسك داعيا إيّاك إلى إنْهاء المكالمة بسرعة. كان التيلفون استثناء ونادرا عند المغاربة، أما الحصولُ عليه، فكان معجزة. 3 عبْر التيلفون، نستدعي ذواتا أخرى: الأب- الأمّ- الأخ والأخت، والجدّ والجدّة. عبره نستحضر فضاءات عشْناها في لحظات متعة عابرة مع الأصْدقاء والصّديقات، العشّاق والعشيقات. ومادام قد أصبح جزءا لا يتجزّأ من حياتنا اليومية المزدحمة باللُّهاث وراء المصالح الشخصية، فقد تحوّل، من كثرة استعماله، إلى أيْقونة اجتماعية لا مناصَ من توظيفها توظيفا ذاتيا يحيلنا على عصر تكنولوجيّ آخذ في التطوّر يوْما عن يوم. الرّجل-التيلفون: آن له أنْ يستريح ويلتفت إلى نفسه، فهو يتسبب له في أمراض نفسيّة وعضوية ويحرمه من تناول غذائه بشكل نفسيّ مريح. لننظرْ إلى الشارع وإلى المقاهي: ثمّة أشخاص يصرخون بملْء أفواههم، مُعلنين عن مشاكلهم الشخصية أمام الملأ، كذلك وهم يسوقون سياراتهم عبر الأزقّة والشوارع. ألمْ يمتْ وزير سابق بسبب التليفون، وهذا الأخير كان في بداياته الأولى من الاقتناء؟ التليفون مصيبة لا بدّ منها. بل شرّ لا بدّ منه، مثله مثل الزواج! فحذار من كثرة المكالمات.