عرف المغرب في الفترة الأخيرة انفتاحا على الرأسمال الخليجي استبشر به الكثيرون خيرا، إذ رأوا فيه تمويلا سيضخ الحياة في شرايين الاقتصاد المغربي، في حين نظر إليه آخرون بعين الريبة والحذر، كفرنسا التي طالب برلمانها بتشكيل لجنة مراقبة وتأطير لرؤوس الأموال القادمة من الدول التي يسودها الإسلام السياسي والداعمة له، ونصَّ على ضرورة التعامل معها بحذر شديد. إن ما يجب عدم إغفاله هو أن رأس المال لا يرحل بمفرده، فهو يحمل معه إيديولوجية ملاكه ومرجعيتهم، إذ ليس هناك رأسمال بريء أو نقي. لذا وجب لفت الانتباه إلى أن هذا النوع من الاستثمار يقتضي اتخاد جميع الاحتياطات لأنه قد يساهم في انتشار الإسلام السياسي في وطننا، ما قد يؤدى إلى انتشار الطائفية والعنف فيه ويعرضه لمخاطر التفتيت.... من الأكيد أن الانفتاح الاقتصادي لبلادنا على بلدان الخليج سيفرض على المستثمرين المشارقة الاستقرار في المغرب، ما سيمكنهم من إنشاء إعلام خاص لنشر إيديولوجيا الإسلام السياسي وإحداث مدارس خاصة لغرسها في أذهان الناشئة، ومنع الاختلاط وفرض الحجاب والتدين وفق المذهب الوهابي المتشدّد واللامُتسامح. كما سيتم تأطير اليد العاملة المغربية في دول الخليج على هذا المذهب، ما سيجعلها تساهم أيضا في توطيده وترسيخه في التربة المغربية التي ستصبح فريسة لخطابه السهل والجذاب، لكونه يمنح المرء شعورا زائفا بالرضى. ذلك أنَّ منطق هذا التدين يقوم على استسلام المرء لأوضاعه وتقبلها، حيث كلما أصابه سوء إلا وفسره بالتقصير في أداء أحد الفرائض أو بمشيئة الأقدار. هكذا يتم الاهتمام بلباس المرأة وشكل لحية الرجل... وتغيب مناقشة القضايا الهامة والمصيرية، ما يعوق حدوث أي حراك فعلي. بل إن المجتمع سيعرف نكوصا وتراجعا، إذ أقصى ما يمكن للمرء أن يفكر فيه آنذاك هو الدعاء بصلاح أولياء الأمور من زعامات الإسلام السياسي، الأمر الذي سينعش الفساد. تبعا لذلك، يُبطل هذا التفكير المساءلة والمحاسبة، ويجد تربة خصبة في المجتمعات الغارقة في الفقر والجهل... كما يدفع إلى تقبل الاستبداد وممارسته ظنا منه أنه يقي من الفتنة. أضف إلى ذلك أنه يكرس الفقر لأنه يرى أن المال يفسد الإنسان ويقوده إلى ارتكاب المعاصي... تفيدنا تجارب الشرق الأوسط ودروسه أن مشايخ جماعات الإسلام السياسي يتميزون بالدهاء لأنهم لم يكتفوا فقط بممارسة السياسة، بل مارسوا التجارة بأسلوب بارع خدمة لأهدافهم السياسية، حيث ابتدعوا فكرة البنوك الإسلامية وأوهموا الناس بعدم جواز التعامل مع غيرها بدعوى أنها ربوية يلزم مقاطعتها شرعا، مع أنَّ الفائدة البنكية ليست ربا، حيث يرى فقهاء المسلمين المجتهدين أن آيات الربا هي من عموم القرآن الذي لا يتضمن أحكاما قاطعة. والحديث المروي عن النبي (ص) في الربا هو من الآحاد. ويروي عبادة بن الصمت حديثا عن النبي (ص) أن الربا المحظور شرعا هو ما يقع مقايضة (لا نقدا) بين متماثلات هي الذهب والفضة والشعير والقمح والتمر والملح. علما بأنَّ عهد النبوة والخلفاء الراشدين لم يعرف أي نظام نقدي، إذ كان التعامل آنذاك يتم بذهب الروم وفضة اليمن باعتبارهما يدخلان ضمن المتماثلات، لا النقد بمفهومه الحالي. يقول تعالى: «وأحل الله البيع وحرم الربا» (البقرة)، دونَ أن يحدد البيع والربا، بل ترك تفصيل ذلك للبشر تبعا لتغير واقع المجتمع وتطور المفاهيم وتواتر الأحكام القضائية. وقد كان الربا المحظور شرعا يتم في العلاقة بين شخصين يستغل أحدهما حاجة الثاني، ويضاعف عليه الدين أضعافا مضاعفة خلال فترة وجيزة، فينتهي الأمر باسترقاق المدين الذي يعجز عن تسديد ديونه. هكذا، فهدف التحريم هو منع استغلال المسلم للمسلم أو غير المسلم للمسلم وحظر استرقاقه. وما يجهله بعض الفقهاء أو يتجاهلونه هو أن تطبيق أحكام القرآن على الوقائع المتغيرة هو اجتهاد أو فتوى بشرية قد تصيب وقد تخطئ. ولهذا لا يمكن للبشر أن يجزموا بأن حكمهم هو حكم الشريعة، كما لا ينبغي تقديس أي اجتهاد أو حكم أو فتوى. في المقابل، يجب الاقتناع بضرورة إخضاع أحكام البشر لمحكِّ الشَّكِّ وبإمكانية تفاوت الاجتهادات (محمد سعيد العشماوي). يتهم بعض الفقهاء في الشرق العربي الدولة بالخروج على الشريعة نتيجة مصادقتها على وجود البنوك الربوية، وذلك بإيعاز من جهات معينة ترغب في أن يُحَوّل المسلمون أموالهم إلى ما يسمى ب «البنوك الإسلامية». ومن الغريب أن نسبة فوائد هذه الأخيرة تبلغ 32%، مما يجعلها تفوق بكثير نسبة فوائد ما تسميه ب «البنوك الربوية». يرى الأستاذ أحمد الخمليشي أن البنك الذي يأخذ من المقترض فائدة تتراوح بين 2% و3% يكون مرتكبا لمعصية الربا، لكن إذا تحايل وغطى على العملية بعقد صوري (بيع، إيجار، مثلا)، وأخذ منه فائدة تتراوح بين 30% و40% تكون عمليته مباحة في الإسلام. والنتيجة الواضحة هي وجودُ فصل بين الدين والأخلاق... لقد ابتدع مشايخ جماعات الإسلام السياسي فكرة «البنوك الإسلامية» للحصول على المزيد من الموارد المالية. ومن أشهر الزعامات التي أدارت مجالس إدارات تلك البنوك يوسف القرضاوي وعبد اللطيف الشريف ويوسف ندى وعمر عبد الرحمن المستشار الديني لجماعة الجهاد الإسلامي التي اغتالت الرئيس السادات، والذي تعاون مع الاستخبارات الأمريكية خلال الحرب الأفغانية السوفييتية، فاستضافته الولاياتالمتحدة على أرضها وأكرمته، لكنها سرعان ما ألقت القبض عليه بدعوى قيامه بأعمال إرهابية... لا يخفى على المتتبعين أن «البنوك الإسلامية» تمارس عموما الاحتيال. فهي تتظاهر بالتقوى بينما تدعم الإرهاب وتتاجر في الأسلحة والمخدرات بأموال المودعين... كما أن القوى العظمى نفسها أودعت الأموال في بعض هذه البنوك لتمويل الحرب في أفغانستان وغيرها... فقد كان بنك «فيصل»، مثلا، الممول الرئيس للأعمال الإرهابية في مصر التي كان آخرها اغتيال السادات. وبعد الحادث تم إبعاد القرضاوي والشريف وندى عن مجلس إدارته. وازداد الوضع سوءاً في عموم شمال أفريقيا بسبب الإيديولوجيات الدينية المتشددة المدعومة بأموال دول الخليج. وقد ساهمت هذه الأخيرة بفضل ثرواتها النفطية وأرباحها الهائلة من ارتفاع أسعار البترول في دعم ما يسمى ب «الاقتصاد الإسلامي»، أي إقحام الدين في شؤون السياسة والتجارة والاقتصاد. ولم يعد خافيا على الملاحظين أن أموال هذه البنوك لعبت وستلعب دورا في كل الأحداث والتحولات السياسية التي عرفتها وتعرفها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. كانت «البنوكالإسلامية» تفتقر إلى الخبرة البنكية الدولية، فاستعانت ب «سيتي بنك» لوضع نظامها البنكي. ويدل هذا على أن جماعات الإسلام السياسي قد استرشدت بغير المسلمين لإنشاء ما تسميه ب «لنظام البنكي الإسلامي»! ولم تكتفِ «البنوك الإسلامية» بإنشاء فروع لها في البلدان العربية والإسلامية، بل فتحت أخرى في مختلف أرجاء العالم، فنمت بشكل خيالي... هكذا، يتضح أن النظام البنكي «الإسلامي» ليس سوى لعبة ابتدعها مشايخ جماعات الإسلام السياسي ومن يوجهونهم بهدف نشر فكرهم، وتوسيع تأثيرهم ونفوذهم، بينما نجد أن أغلب أصحاب ودائع هذه البنوك هم من البسطاء المسلمين الذين أودعوا أموالهم عن حسن نية، ظانِّين أنها ستكون بهذه الطريقة في مأمن من الحرام، دون أن يعلموا أنهم يساهمون في تقوية جماعات الإسلام السياسي مالياً، علما بأن البنوك الغربية في بلدان الشرق الأوسط عندما لاحظت أن المودعين المسلمين يميلون إلى تحويل ودائعهم إلى ما يسمى ب «البنوك الإسلامية»، قررت استخدام الأسلوب نفسه، فوظفت بعض مشايخ هذه الجماعات أعضاء في مجالسها الاستشارية من أجل خدع البسطاء عبر الحصول على الشرعية الدينية... تقوم «البنوك الإسلامية» بتنفيذ برامج جماعات الإسلام السياسي نيابة عنها، حيث تعمل على تمويل حملاتها الانتخابية بسخاء. كما تُمَوِّل العديد من المنظمات والجماعات المتعصبة دينيا تحت ستار دعم «الجمعيات الخيرية الإسلامية». وكانت أغلب تلك الجمعيات تتستر بالعمل الخيري لترتبط بجهات تدعم الإرهاب وتنشر فكر العنف، حيث قامت بإنشاء المدارس الإسلامية الخاصة بقصد تربية الأطفال على الإيديولوجيا الشمولية لجماعات الإسلام السياسي... تهتم أغلب «البنوك الإسلامية» إن لم يكن جميعها، بتحقيق أهداف جماعات الإسلام السياسي، حيث ترى أنها تستطيع بالمال وحده أن تحكم سيطرتها على كل شيء... فقد كان المجتمع الكويتي، مثلا، مجتمعا منفتحا نسبيا في الستينيات، لكنه سرعان ما عرف الغلو في الدين بعد دخول جماعات الإخوان المسلمين إليه وإنشائهم ما يُسمى ب «جمعية الإصلاح الاجتماعي»... وقد أخطأت الحكومة الكويتية عندما سمحت لهذه الجماعة بالسيطرة التدريجية على القطاعين الإعلامي والتعليمي وغسل أدمغة الأطفال على طريقتها... وتكرر الأمر نفسه في دولة الإمارات خلال السبعينيات، إذ ظهر جيل من الشباب اليائس الذي انخرط العديد منه لاحقاً بصفوف تنظيمات العنف والإرهاب... تؤكد التجارب أن «البنوك الإسلامية» لا تكون رافعة للتنمية، حيث إنها تركز أنشطتها أساسا في قطاعات غير منتجة، ما يجعلها تخدم مصالح رؤوس الأموال وتعمق الفوارق الاجتماعية... ونظرا لتسترها وراء الدين، فإنها تجلب ودائع البنوك التجارية الأخرى، ما سيضعف قطاعنا البنكي الذي يعاني من أزمة سيولة خانقة وربما يحتاج إلى الرفع من معدل الاستبناك الذي يبلغ حاليا نسبة 50%. كما سيكون بمقدورها تحويل استثماراتها إلى دول أخرى، وبالتالي تعريض أموال المغاربة للأخطار الناجمة عن ذلك، علما بأنها تفرض على زبائنها تحمل الربح والخسارة معا... ومع هذه البنوك سنفقد استقلالنا المالي وهويتنا الثقافية، ولن يصير في إمكاننا الانفتاح على القيم الكونية... وبهذا سيصبح بلدنا حلبة ركح لجماعات الإسلام السياسي وقاعدة لها..