شكك عبدالمليك مرواني، وهو باحث جزائري ينبش في تاريخ الموسيقى الاندلسية والمغاربية، أن يكون «أبو حسن علي بن نافع» الملقب بزرياب (الشحرور الأسود) مؤسس الموسيقى الكلاسيكية المغاربية وواضع قواعد نوبات غناء هذا الفن العريق الذي ظهر بالأندلس. واعتبر الباحث الذي يعمل أستاذا بالمعهد الجهوي لتعليم الموسيقى بقسنطينة أن البحوث التي أجراها «تؤكد على أن الفكرة التي تشكلت عن زرياب لم تكن سوى من نسج الخيال الصوفي». واستنادا إلى المحاضر، فإن الأبحاث التي أجريت حول «شهرة» زرياب كشفت عن «عديد الثغرات» و«المفارقات التاريخية المناقضة للمعلومات الموجودة هنا وهناك حول الشحرور الأسود». وأكد مرواني الذي انتهى مؤخرا من آخر فصل لكتاب خصصه لهذه الإشكالية تحت عنوان «زرياب والموسيقى العربية ما بين الأسطورة والحقيقة» أن ما ورد حول كون زرياب قد تعرض إلى مؤامرة حاكها ضده إبراهيم الموصلي وابنه إسحاق أستاذ زرياب في الموسيقى من أجل قتله «لا أساس لها من الصحة». واستنادا إلى مرواني فإن هذا الكتاب عبارة عن مؤلف يطمح إلى «إعادة الحقيقة التاريخية ورد الاعتبار لآل الموصل «الذين «انتهكت حقوقهم بأقاويل حيكت من العدم وروجتها التكنولوجيات الحديثة للإعلام والاتصال». وبرأي هذا الكاتب فإن هذا المؤلف الذي اختار مراجع دقيقة عبارة عن «دليل متواضع من 173 صفحة مقسم إلى خمسة فصول رئيسية تفسح المجال أمام الباحثين لتسليط الضوء على مسار كامل من تاريخ الموسيقى والفن المغاربي الذي لا يزال إلى غاية الساعة مدفونا تحت أنقاض مملكة النسيان وعدم اكتراث الباحثين». وتشكل «سيرة إبراهيم وإسحاق الموصلي « و»حياة زرياب» و«السياق السياسي والاجتماعي والثقافي للسلالات الحاكمة من الأمويين والعباسيين والأندلسيين» أهم محاور هذا الكتاب الذي يطمح على حد تعبير الباحث إلى «إماطة اللثام عن أصول الموسيقى الكلاسيكية المغاربية لهذا الفن المتأصل في بلدان المغرب العربي الكبير. ويعتبر أول ما عرف عن زرياب أنه كان أحد موالي الخليفة العباسي المهدي، ولكن المهدي توفي وزرياب في التاسعة من عمره. فنشأته كانت في قصور الخلفاء، حيث الترف وحياة الدعة. وكان لزرياب اتصالٌ بالموسيقي المشهور ابراهيم الموصلي الذي كان أحد ندماء الخليفة الهادي، وكذلك الخليفة هارون الرشيد، حيث استفاد زرياب من الموصلي ومن الجو الغنائي الذي كان يقام في منتديات الخلفاء. وتدور الأيام، ويتفوّق التلميد على أستاذه، ويدخل الحسد قلب الموصلي فيهدد تلميذه طالباً منه الخروج من بغداد، فخرج زرياب هو وأسرته سراً متوجهاً الى المغرب مروراً بالشام ومصر، حتى وصل الى القيروان في أيام زيادة الله بن ابراهيم الأغالب. ويقال أن القيروان كانت معروفة بتدينها، فانقسمت حين حل زرياب فيها الى قسمين، الأمر الذي جعل زيادة الله يطارده. ولكن بعدها ذاع صيته، حيث جاء مبعوث أمير الأندلس الحكم بن هشام، وهو مغني يهودي وكان يدعى منصور المغني، وأخذه الى قصور الأندلس، وفتحت له الدنيا أبوابها خصوصاً في عهد عبد الرحمن بن الحكم، وقد عاش زرياب في قصر الحكم معززاً مكرماً برغم معارضة علماء الدين لمرافقته الأمير الأموي. ومع ذلك أصرّ عبد الرحمن على بقائه في قصره حتى وفاة زرياب سنة 238ه، وهي نفس السنة التي توفي فيها الأمير عبد الرحمن. وعموماً فقد ترك هذا المغني ثروة غنائية ضخمة، وتراثاً اجتماعياً، منه نظام للطعام، ونظام لتسريحة الشعر، ونظام للباس، وهذه مقالة مختصرة عن أثره الإجتماعي الذي خلفه. لقد أحدث دخول زرياب الأندلس في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط ثورة شاملة على المجتمع القرطبي عامة، وعلى فنون الغناء والموسيقى والفنون الصناعية بوجه خاص. وأصبح زرياب بما أحدثه من تجديد في هذه الفنون الأندلسية صاحب مدرسة تسامي مدرسة اسحق الموصلي في بغداد. وأصبحت له طرائق أخذت عنه وأصوات استفيدت منه، وأُلّفت حولها الكتب، فعلا هنالك على الملوك بصناعته وإحسانه فيها علواً مفرطاً، وشهر شهرة ضرب بها المثل في ذلك، وقد صنّف أسلم بن أحمد بن سعيد بن القاضي أسلم بن عبد العزيز، كتاباً في أغانيه وفي طرائف غنائه وأخباره. وكما كانت هذه منزلته عند الملوك، كذلك كان موضع اعجاب الكثير من الناس، فصاروا يتحدثون عنه في مجالسهم واجتماعاتهم. وأول ما يتبادر الى الذهن، ويسترعي الإنتباه هو تقدير الأندلسيين لزرياب، ذلك التقدير الذي وصلوا به الى حد التقديس. نعم إن ذلك الإحتفاء النادر الذي لقيه ذلك الموسيقي الفنان، وذلك التقدير الذي غالوا فيه، ليكشف شيئاً غير قليل عن طبيعة المجتمع المخملي الأندلسي، وشغفه بفن الغناء، وعنايتهم بأمره عناية ربما فاقت عناية الغربيين بهذا الفن اليوم. كان ولوع الإندلسي بالغناء أمراً طبيعياً، وزادهم فيه شخصية مغنٍ لقي إقبالاً من الملوك والأمراء، والناس على دين ملوكهم، كما يقال. وإذا ما ذكرنا ما لقيه زرياب من ضروب التقدير والتشجيع اللذين لم يكن يحلم بهما من قبل ومن الهيمنة التامة على الأذواق وتحريك النفوس كما يشاء، وأضفنا اليه نبوغه وأبسطنا بجانب ذلك ما في طبيعة الأندلسيين من حب الغناء بسبب موقع اقليمهم الجغرافي، لم نستغرب قط ما وصل اليه تأثيره الضارب في النفوس، ولم يدهشنا قراءة الكثير عن مجالس الغناء في بلاد الأندلس، بكل صقع من أصقاعها، حتى أصبح الفلاح وهو وراء محراثه لا يقل ولعه عن ولع الأمراء فيه. ومن هذا نستنتج أن لزرياب الأثر البالغ على العالم الأندلسي ليس بموسيقاه فقط، بل بالذوق والأدب الأجتماعي واللباقة التي تعلّى بها في كل مظهر فن وعلم، لذلك كان كل ما يقوم به أو يقوله يعتبر نظاماً وقانونا. وقد اتخذه أهل الأندلس وخواصهم قدوه فيما سنّه لهم من آدابه ولطف معاشرته، وحوى من آداب المجالسة وطيب المحادثة ومهارة الخدمة المملوكية ما لم يجده أحد من أهل صناعته، حتى ما استحسنه من طعام صار الى آخر أيام أهل الأندلس منسوباً اليه معلوماً به. وقد تفنن زرياب في أنواع الأطعمة وطريقة إعدادها مما هو موجود في المصادر، ولقبه الأندلسيون بمعلم الناس، نظير ما علمهم من اللطف والرقة وأمان الذوق.