خبر إنهاء الجزائر المرحلة الأولى من أعمال بناء ساترها الترابي العازل على حدودها مع تونس في إطار إجراءاتها الأمنية لمراقبة الوضع في مناطق التخوم مع غرب تونس وليبيا، لا يمكن تصنيفه على أنه إشارة إعلامية عادية يمكن قراءتها بشكل عسكري أو أمني جاف، بل إن ظاهرة بحالها قد بدأت في التبلور والمتمثلة في مزيد عزل الشعوب بعضها عن بعض بالسواتر والخنادق والجدران، بتعلة مواجهة الإرهاب. لم يكن أحد يتصور في الماضي أن يصل الأمر بالجزائروتونس وليبيا (بشكل خاص) إلى أن تكون بينها حدود غير تلك الطرق المعبدة والجبال وغابات الفلين وكثبان الرمل والصحارى، فقد كانت الأجهزة الأمنية تنشط بين الحين والآخر وتتداخل في ما بينها أحيانا وفي أشد الأزمات ضراوة أيضا (كالعشرية السوداء في الجزائر) ولم يكن في حسبان أحد أن يأتي اليوم الذي يرى فيه التونسي جدارا بينه وبين الجزائري، أو أن يرى أحد سكان مدينة بنقردان الحدودية خندقا مائيا عريضا يفصله عن ليبيا التي تمثل موردا لرزقه ورزق نظرائه في الجانب الآخر من الحدود. قوة العلاقات التي تجمع الناس في أقطار شمال أفريقيا الأساسية، وطبعا معها المغرب، أسست في العقود التي تلت تحرر تلك الدول من المستعمر الأوروبي نوعا من الانسياب في التنقل بين المراكز الاقتصادية والتجارية لدول المغرب العربي، ولم تكن من قوة مناقضة لمسار تكثف ارتباطات المواطنين بعضهم ببعض إلا القوة الرسمية للدولة، لأن الأمر يتعلق بمصالح مسيريها والعائلات التي تحكمها، وكل من لهم مصلحة في الإبقاء على رسم خشن للحدود بين المواطنين، وقد حدث ذلك بالرغم من كل تلك الشعارات التي كانت ترفع في المناسبات المغاربية والعمالية واتحاد النقابات المغاربية والعربية وغيرها. سبق أن قامت السلطات التونسية بإنشاء خندق عميق على الامتداد الحدودي بين الجنوب الشرقي التونسي والغرب الليبي، وقد كان ذلك بتعلة مكافحة التهريب وتسلل الإرهابيين من ليبيا. وفي الحين الذي صدّق فيه الرأي العام التونسي هذا الادعاء نظرا لهول الهجوم الإرهابي الذي استهدف مدينة بنقردان الاستراتيجية التونسية، إلا أن تساؤلات عديدة يمكن إعادة طرحها الآن على وقع الهجوم الإرهابي الأخير الذي حدث في الجانب الآخر من الحدود أي في مدينة القصرين الغربية: ألم يكن هناك تهريب وإرهاب في العهد السابق؟ ألم تكن عناصر تنظيم القاعدة والجبهة الإسلامية المسلحة في الجزائر تصول وتجول في المنطقة؟ لماذا لم يبن التونسيون أو الجزائريون جدرانا في تلك الفترة؟ أم أن الوضع في ليبيا اليوم قد انفجر إلى درجة الحاجة الملحة لبناء الخنادق للاحتماء من الإرهاب؟ الأمر مرتبط باللوبيات التي ترعى الإرهاب، لأن تجارتها الموازية وشبكات تهريبها في حاجة إليه. فإذا ما تمت تصفية تلك اللوبيات ومحاسبتها بقوة القانون فإن الإرهاب سيضمحل في لحظات. فقد أسس الاقتصاد الموازي بين تونسوالجزائر وليبيا عالما متنقلا في السّر، وهذا العالم يجد مشروعيته في أسطورة "دولة الخلافة"، أي عدم الاعتراف بالدولة الرسمية (رغم تورط حكامها في حماية الفساد) وإقامة منظومة أخرى موازية تدرّ أرباحا مالية ضخمة بغطاء ديني، والخوف كل الخوف اليوم أن يكون الشد والجذب بين الإرهاب والسلطات بين الحين والآخر ليس سوى تعبير عن صراع المصالح بين كبار المهربين ورجال الأعمال الذين ظهروا فجأة. أصبحت الدولة "المغاربية" اليوم تماما كأحد الأفراد داخل حشد كبير من الناس يتحرك بتحركهم ويسكن بسكونهم، أي أنه غير متحكم في إرادته بشكل واع وخاضع لهستيريا الحشود. الأمر يشبه ما تعيشه الدولة سواء التونسية أو الليبية أو الجزائرية في علاقة بالإرهاب: كلما زادت وتيرة الأعمال الإرهابية إلا وسارعت السلطات إلى بناء الخنادق والجدران والمتاريس، كأن الفصل بين تلك الشعوب قدر يجدد نفسه في كل حقبة حتى تحافظ رؤوس الأموال على مصالحها ومصالح القوى الإقليمية شمال المتوسط. ولعل أهم مصلحة لتلك القوى هو بقاء الحدود مرسومة بخط بارز بين مكونات الامتداد الجغرافي الموحد الذي يسمى المغرب العربي. بل ويمكن أن تتورط قوة كبرى وسط كل هذا في مزيد تفتيت دولة مجاورة لأنها تريد الإطلال على المحيط الأطلسي. تتحكم القوى الاستعمارية الكلاسيكية للمغرب العربي في مكوناته تماما كما يتحكم لاعب خفة في جمهوره، إذ يجذب انتباههم إلى شيء ما بينما يقوم بفعل شيء آخر فيظهر ساحرا. والأمر ذاته يحدث في السنوات التي مضت والتي تمضي، فالإرهاب ليس سوى تحفيز مزيف لصرف النظر عن حدث أخطر يكمن في المزيد من العزل والتقسيم كي لا تتحول تطلعات شعوب المنطقة إلى حالة واعية من الوحدة تشبه تلك التي حدثت في الاتحاد الأوروبي، ولكن باختلاف بسيط بين الجانبين وهو أن دول المغرب العربي لها لغة واحدة وحضارة واحدة وامتداد واحد وتاريخ مشترك. * صحفي من تونس