قررت الكتابة ضد النسيان والكذب والخسارة والتواطؤ، قررت الكتابة لأن الأسوأ ربما لازال قادماً ليس فقط في سوريا ... هذا الكتاب ربما يلخص معركة شعب عازم على إنهاء دكتاتورية عمرت 40 سنة . شعب يتطلع للحرية، لكنه يغرق يوماً بعد آخر في الجحيم أمام أنظار مجتمع دولي غير مبال ... هذا الكتاب هو حكاية ربيع سوري بدأ كميلاد للحرية لينتهي في خراب جهادي له أبعاد وتداعيات إقليمية ودولية ... "سنكون الأخيرين " انتفاضة الشعب السوري اعتبرت في الشرق، ولاعتبارات عديدة، كمعجزة حقيقية. فرغم ارتدادات الربيع العربي، كانت قسوة نظام بشار الأسد تبدو كملجأ حصين ضد أي محاولة للتغيير. عنف تحول بعناية وهدوء طيلة أربعين سنة إلى نمط وأسلوب للحكامة. أربعون سنة من القمع بدأت مع وصول حافظ الأسد إلى رأس الدولة سنة 1971. حكم مطلق ورثه بشار الأسد بعد وفاة والده في يونيه 2000. الإبن الثالث للرجل الذي لقبه الدبلوماسي الأمريكي هنري كيسنجر "«بيسمارك العرب» "(في إحالة للدهاء الاستراتيجي والماكيافيلية السياسية للأسد الأب )، سرعان ما ستخيب آمال السوريين في التغيير. وبعد حوالي عقد، سيظهر أن حكمه أكثر قسوة من حكم والده. أربعون سنة، حقبة طويلة من الرعب طالما تحدث عنها الثوريون السوريون لتبرير الفترة التي قاساها المواطنون قبل التمرد. تبرير يتردد كثيراً كجلد ذاتي جماعي: ثمن الحرية سيكون باهظاً بعد هذا الخضوع الطويل. وخلافاً لكل التوقعات، وبعد سقوط الرئيس التونسي زين العابدين بن علي يوم 14 يناير 2011، وبينما كانت الثورة ضد حكم حسني مبارك في أوجها بمصر، صدرت دعوات من أجل التظاهر في سوريا عبر شبكات التواصل الاجتماعي يومي 4 و 5 فبراير خاصة أمام مبنى البرلمان. «أيام الغضب» هاته كانت ترمي إلى إجبار النظام على رفع حالة الطوارىء القائمة في سوريا منذ 1963، وأيضاً من أجل تنفيذ الإصلاحات التي وعد بها بشار الأسد بعد وصوله إلى السلطة. لكن هذه الدعوة لم تلق الاستجابة، بسبب عمليات الترهيب للأمن السوري واعتقال أبرز منظمي حركة الاحتجاجات الوليدة. كنت وقتها في القاهرة لإنجاز عمل وثائقي حول تأثيرات الربيع العربي. وبعد اعتقالي رفقة مرافقي المصور من طرف الجيش المصري لمدة يومين في مركز الاعتقال العسكري "C28" بمدينة نصر، شرق العاصمة، الذي استضاف العديد من الصحفيين الغربيين، واصلت مهمتي بمصر. بدأ نظام مبارك يهتز، لكن يبدو أن سوريا تريد الخروج من نومها العميق. تركت الكاميرا هناك، وغادرت القاهرة يوم 8 فبراير متوجهة نحو سوريا عبر لبنان، دخلت سوريا يوم 11 فبراير براً بتأشيرة سياحية حصلت عليها في مركز الحدود. هدف المهمة هو استيقاء ردود فعل السوريين على سقوط الرئيس المصري الوشيك وتقييم الوضع في الميدان بعد الدعوات الخجولة للتظاهر التي صدرت بضعة أيام من قبل. سائق الطاكسي اللبناني الذي أعرفه منذ سنوات، والذي أثق فيه تماماً، سيرافقني في سوريا وسيبقى معي هناك حتى أتمكن من التحرك في دمشق دون حاجة لخدمات سائقي طاكسي محليين قد يكونون مخبرين محتملين قد يشين بي لدى أجهزة الأمن، إذا ما طلبت نقلي إلى عنوان محظور في لوائح الأجهزة الأمنية. لا أعرف جيداً سورياً، ولكن الشوارع بدت لي خالية نوعاً ما وحركة المرور سلسة بشكل غير عادٍ . بعد عبور سريع بفندق الأمويين بدمشق، التقيت بعض النشطاء في شقة بها شباب أعينهم مشدودة إلى شاشة حاسوبهم، ينقرون على لوحته بعصبية، بعضهم يتبادل الرسائل مع شباب مصريين يعلنون مسبقاً سقوط «فرعونهم»، كما لو أنهم يواسون رفاقهم السوريين. كما لو أن سقوط مبارك سيعطي الإشارة لانطلاق ربيع سوري غير مؤكد. هذا الشباب السوري متأكد من ذلك: سيأتي دوره قريباً رغم حجم التحدي وخطورة المغامرة. هؤلاء النشطاء أغلبهم طلبة، وينحدرون من عائلات بورجوازية وقادرون على الالتحاق بأرقى الجامعات الأوربية أو الأمريكية. لكن بالنسبة لهم، لم يعد لذلك أهمية: لا الدراسة ولا العائلة ولا الوضع الاجتماعي. لابد أن تنخرط بلادهم في المرحلة بشكل أو بآخر. . هل تعرفين أوسيان؟ إنها بمثابة حاضنتنا. عليك لقاؤها، قال أحدهم. امرأة؟ شيء رائع! ولكن من هي؟ وما اسمها؟ في سوريا، لا تذكر الأسماء. خذي رمزها الافتراضي واتصلي بها سرياً مع توضيح أنك تتصلين بها من طرفنا. «سيكون ذلك لاحقا»، فكرت وأنا أدون معلومات «أوسيان .» الربط بالأنترنيت بطىء جداً هنا، لن أتمكن من الاتصال بهذه الحاضنة المجهولة إلا في موعد لاحق. غادرت النشطاء الشباب وركبت سيارة الأجرة للقاء الشخص الأبرز الذي جئت لاستجوابه في سوريا، اسم يلخص لوحده 40 سنة من التسلط الأسدي: ميشيل كيلو. ولد سنة 1940، كاتب مسيحي ومعارض من الرعيل الأول، اعتقل عدة مرات من طرف حافظ الأسد، ثم من طرف بشار الأسد. إقامته الأخيرة في السجون السورية دامت 3 سنوات، من 2006 إلى . 2009 ثلاث سنوات سجناً، لأنه وقع رفقة مثقفين سوريين ولبنانيين آخرين، نداء يدعو سوريا إلى الاعتراف بسيادة لبنان، وهو ما اعتبر تهمة «إضعاف الإحساس القومي السوري»، لأن النظام البعثي في دمشق لم يتخل أبداً عن أحلامه بإقامة سوريا الكبرى التي تضم لبنان وفلسطين والأردن إلى جانب سوريا، قبل أن تقسمها القوى الاستعمارية. وبلاد الأرز (لبنان) المكون الأكثر هشاشة في هذه المعادلة التاريخية والجيو ستراتيجية بقيت عملياً بشكل أو آخر تحت هيمنة جارها السوري القوي المتواجد عسكرياً في لبنان من سنة 1976 إلى 2005.