في القرن الثامن للميلاد، زمن حكم الأمويين في الشرق، أعطى الخليفة سليمان بن عبد الملك الأمر ببناء الجامع الأموي الكبير بحلب، اهتداء بمبادرة الخليفة السلف، شقيقه الوليد مؤسس الجامع الأموي بدمشق. ولذلك تشابهت الخطاطة الهندسية بين الجامعين، وتعاقبت الترميمات والتعديلات إلى أن صارت لهما نفس الخصائص تقريبا، سواء على مستوى شكل الفناء، أو مستوى توزع الأبواب الأربعة وتنوع الزخارف والتشكيلات. وإذا كان جامع دمشق يحظى بشرف احتضان مقام نبي الله يحيى عليه السلام ، فإن جامع حلب يستضيف، هو الآخر، مقام نبي الله زكريا، والد يحيى نفسه. وقد وضع ضمن ما يسمى ب «الحجرة النبوية»، التي يقال إن بها قبر زكريا، أو قطعة من جسده كما في بعض الروايات. بل إن الباحث والمؤرخ شوقي شعث، المعروف بكتاباته المرجعية عن الشرق الإسلامي، يقول في معرض حديثه عن جامع حلب إن الحجرة النبوية تعود «تاريخياً إلى العصر العثماني، و هي تتساوق مع باقي النواحي القبلية روعة وفناً، وهناك دفين في الحجرة تضاربت الآراء حوله، فهناك من يقول إن الدفين هو رأس النبي يحيى بن زكريا. وهناك من يعتقد إن الدفين هو النبي زكريا نفسه». ومعناه أن الأبواب في هذا السياق، مشرعة كلها أمام تضارب الروايات والإسنادات بين دمشق وحلب وجهات أخرى، الأمر المعتاد في مثل هذه المقامات الحافلة بذاكرة بعيدة. على مستوى آخر، يتشابه الجامعان في قيامهما معا بموازة الأسواق القديمة: سوق «الحميدية» وجوارته بدمشق، وسوق «المدينة» وجواراته بحلب، علما أن هذه الأخيرة تشكل أطول الأسواق العتيقة في العالم كما يروى هنا في حلب. وبتأمل هذا التوازي المشترك بين المسجد والسوق، نجدنا إزاء معطى سوسيو ثقافي يميز حقل الممارسة الدينية والاجتماعية في عدد من مدننا الإسلامية، فحيثما هناك مسجد تجد الأسواق، أو الأرصفة وقد تحولت إلى أسواق. العنصر المميز الثاني لأسواق حلب، توزع معروضاتها بشكل»موضوعاتي» إن جاز التعبير، فقد خصصت ممرات لباعة الصوف وأخرى للعطارين، أو للقماش والزرابي، أو للذهب أو للصابون الحلبي الشهير.. وتلك ضمن أزقة ضيقة تعلوها سقوف تكيف نسمات عجيبة، هي مزيج من روائح الصوف والحرير والمنمنمات والصابون والعطور الشرقية. بدأنا رحلة التسوق. وفي أول ممر التقيت بجوليانا، السائحة الألمانية التي رأيناها في قلعة حلب، وكانت هذه المرة مصحوبة بصديقتها ناتاليا، الطالبة بمعهد الدراسات الأدبية بمدينة فرانكفورت. تقدمنا في عمق السوق. كانت الألمانيتان تبحثان عن الزرابي التركية والإيرانية في الممر المخصص لذلك، فيما تابعنا الخطو في الممرات الأخرى مستسلمين للطلبات المتعددة للأصدقاء. في مقهى الفندق ليلا، لم أكن وحيدا هذه المرة. فقد التحقت بي جوليانا وناتاليا اللتان وجدت أنهما تقيمان بالصدفة بنفس الفندق. وقد تحدثا إلي عن عشقهما لمدينة مراكش اللتين زارتاها الصيف الماضي. واستمرتا في سرد التفاصيل والذكريات. مثلما تحدثنا عن فرانكفورت، مسقط رأسهما، حيث قضيت، ذات سفر، ثلاثة أيام مرت كحلم، وتذكرنا غوته، أدبه ومنزله ومتحفه، ودار الأوبرا القديمة والصبيب الشاعري لنهر الماين. ثم سألتني جوليانا: - حين كنت هنا سنة 2006، كانت حلب تحتفي بنفسها «عاصمة الثقافة الإسلامية»، واليوم؟ السؤال مناسبة لأضيء معها فكرة العواصم الثقافية الإسلامية. كانت البداية حين دعا اجتماع لوزراء الثقافة في العالم الإسلامي إلى تبني هذا التقليد، معلنين مكةالمكرمة عاصمة إسلامية لسنة 2004، وذلك أسوة بتقليد العواصم العربية الذي أقره وزراء الثقافة العرب منذ سنة 1996 بإعلانهم القاهرة عاصمة ثقافية عربية، ومن يومها، والعواصم العربية، ثم الإسلامية لاحقا، تتدوال فكرة الاحتفاء سنويا. وفي تقديري الذي لم أصرح به أمام الألمانيتين لأنه لا يهمهما في شيء، فالفكرة نبيلة في منطلقها، لكنها في التدبير التنفيذي لا تتجاوز، في غالب الحالات، الطقس الرسمي والبوتوكولي. ولذلك تحتاج المدن العربية والإسلامية إلى تجديد النظر في فكرة التخليد والاحتفاء، بحيث تسمح هذه الاحتفاليات السنوية بتطوير العمل الثقافي المشترك، وبابتكار أساليب لتواصل حقيقي بين منتجي الأفكار ومستقبليها على امتداد العالمين العربي والإسلامي. في ختام السمر، ودعت الصديقتين على أمل لقاء آخر، فغدا نعود إلى دمشق. سجلت جوليانا على الورقة عنوانها الإلكتروني والهاتف، وكتبت: نلتقي بمراكش... وسجلت بمذكرتها معلوماتي، وكتبت: كنت محظوظا باللقاء بكما في حلب، وبالحديث عن فرانكفورت، وأديبها الكبير غوته الذي قال عنه بول فاليري: «كان الرجل إحدى أسعد ضربات الحظ في مصير الجنس البشري».