من خلال تتبعي للاحتفاليات والأنشطة التي نظمت احتفاء بالذكرى الأربعين ليوم الأرض والبيئة، والتي اختيرت عاصمتها الرباط إلى جانب واشنطن ونيويورك ومومباي وشنغهاي للاحتفاء بها، أثار انتباهي تركيز جل الوسائط المعدة لتغطية الحدث وطنيا أو دوليا، سواء المكتوب منها أو السمعي أو البصري، على كون السيناتور الأمريكي Nelson Gaylord هو أول من بادر إلى إحياء هذه الذكرى يوم 22 أبريل سنة 1970، وبالتالي أصبح في نظر البعض على الأقل مؤسس الحركة البيئية العالمية. صحيح أنه ساهم في إعطاء دينامية جديدة للتعبير الجماعي عن إرادة دولية لخلق مواطنة صديقة للبيئة وجيلا أخضراً مقتنعاً بكونه جزء لا يتجزأ عن التراث الطبيعي. وذلك من خلال سلوكات يومية فردية أو جماعية، محلية، وطنية أو دولية. ومما لاشك فيه أيضاً أن اسم نيلسون غيلور سيظل رمزاً للإرادات القوية التي نجحت في تغيير سلوك الملايين تجاه أرضهم وبيئتهم. لكن ما أثار حفيظتي وسط هذا الكم الهائل من الإشادات بسيناتور ولاية وسكنسن الأمريكية الذي أسعفته أمواله علاقاته وشهرته وكذلك الحملات الإعلامية الضخمة التي سخرت للترويج لمشروع، هو التغييب شبه التام في حدود علمي ومتابعتي لشخصيات بارزة قامت منذ القديم ولازالت بأدوار هامة وطلائعية في الحفاظ على الموروث الطبيعي وصيانته، بل وتدبيره بطريقة معقلنة ورشيدة، لم يسبقهم إليها لا عضو مجلس الشيوخ نيلسون غيلور ولا حتى علماء الإيكولوجيا أو غيرها. فسواء في جبال الأنديز بأمريكا اللاتينية أو في حضارات جنوب شرق آسيا أو الهند أو الصين أو في المجالات شبه الجافة من إفريقيا وآسيا، برع الفلاحون والمزارعون منذ القدم في ابتكار وتطوير طرق وتقنيات للحفاظ على الموارد الطبيعية (التربة، الماء، الغابة...). فهل تساءل المحتفلون بيوم الأرض والبيئة عن دور المدرجات التي يشيدها الفلاحون على السفوح الوعرة في البيرو والإكوادور واللاووس وكمبوديا في حماية التربة من الانجراف والضياع؟ هل فكر الساهرون على تنظيم الاحتفالات الدولية في تكريم مزارعي واحات آسيا الوسطى وهوامش الصحراء الإفريقية الكبرى وغيرهم كثير؟ لقد توارث هؤلاء البسطاء هذه التقنيات وطوروها للتكيف مع الإكراهات الطبيعية والتغيرات المناخية بشكل ينم عن انسجام تام مع الوسط. إن هذا الزخم الإعلامي الذي رافق الاحتفال بهذا اليوم، والذي رافق أيضاً المؤتمرات التي عنيت بتقييم الوضع المناخي من استوكهولم 1976 إلى كوبنهاكن 2009 أو غيرها من الملتقيات الدولية للحفاظ على التنوع البيولوجي أو التنمية المستدامة، كله كان نتيجة للضغط المفرط على الموارد الطبيعية ما بعد الثورة الصناعية. فدقت نواقيس الكارثة البيئية الشاملة في كل مناسبة، وكل محفل خاصة من قبل علماء المناخ والأحياء والإيكولوجيا ومنظمات الصحة والتغذية العالمية والمنظمات غير الحكومية، في ما يشبه حالة من الهستيريا التي يمتزج فيها الإحساس بالخطر والذنب، وتتسارع فيها التوقعات بقرب حلول نقطة اللاعودة التي سيتضاعف فيها وقع الاحتباس الحراري وذوبان الكتل الجليدية بالقارة الأنتاركتكية وتختفي فيها جزر بفعل ارتفاع منسوب مياه سطح البحر الى غير ذلك من أشكال الكوارث والمخاطر المرتقبة. في حين، هناك في ضواحي قلعة مكونة أو الريصاني أو غيرها من الواحات المغربية أو في وديان الأطلس الكبير والمدرجات المشيدة على سفوح جبال الريف وسواها من المناطق في العالم، تستمر معاول وفؤوس مزارعين بسطاء بجد وجهد غير متذمرين، أمام أعين أطفالهم الذين يتناقلون بدورهم ما اكتسبوه عن آبائهم وأجدادهم من هندسة تقليدية بطرقها وأساليبها، لكن العظيمة بكونها صديقة للبيئة والطبيعة، وبكونها نأت بهذه الشخصيات المغمورة عن الضجة التي أثارها يوم البيئة وغيرها من المناسبات التي تتذكر الأرض مرة أو مرتين في السنة، لا لشيء سوى لأنهم يعيشون على الأرض وبها ومنها، بل لها يعيشون ويموتون إن اقتضت الضرورة. صحيح أنهم ليسوا بمعزل عن التغيرات المناخية ولا عن التدهور الذي لحق بالموارد الطبيعية، ذلك أنهم يعيشون على هذا الكوكب في آخر المطاف. لكن تعاملهم وتكيفهم مع هذه النوازل كان ولايزال ينم عن براعتهم في تدبير الكوارث والمخاطر وندرة الموارد، دون أن يضطروا إلى إتمام دراستهم في المعاهد العليا للهندسة الفلاحية أو الغابوية أو مختبرات البحث البيولوجي أو الجيولوجي، ولا إلى تخليد يوم الأرض والبيئة الذي يجهل معظمهم بوجوده أو على الأقل، سبب الاحتفال به. فهذه واحات درعة المغربية مثلا التي استطاع مزارعوها التكيف مع ندرة الموارد المائية والترابية باستغلال فيضانات الأودية، وما تحمله من غرين وطمي لإنشاء رساتيق يزرعون عليها منتوجات يقتاتون عليها يسقونها بنظام الري بالخطارات الغاية في الدقة والعبقرية. وتفيد الأبحاث والدراسات التي أجريت بهذه المنطقة من المغرب، أنها عرفت استقراراً بشرياً وحضارة زراعية قديمة نشأت على ضفاف واد درعة، لكن التقلبات المناخية التي عرفها العالم بعد العصر الجليدي بانحسار الجليد نحو الشمال، أدى تدريجيا الى تراجع صبيب هذا الوادي، وبالتالي الى تقلص الأنشطة الزراعية بالمنطقة. لكن مزارعي وادي درعة لم يقيموا ذكرى سنوية تخلد للحضارات الزراعية البائدة من المنطقة، بل انخرطوا في عمل دؤوب وواع ساهم فيه كل جيل بإضافات جديدة تصب كلها في تقنيات وأساليب نصفها غالبا بالبدائية وبالتقليدية في أحسن الأحوال، لكنها ناجعة ومفيدة، بل وحيوية لتدبير ندرة المياه والتربة. لم يقم هؤلاء المزارعون بحملات للتوعية والتحسيس بخطورة التصحر أو زحف الرمال، لكنهم كانوا على ضعف مستواهم الدراسي أو إطلاعهم على العلوم الرافدة للهندسة الفلاحية أو غيرها عمليين أكثر بتشييدهم للمصدات والحواجز والتسييجات لإيقاف الترمل وغرس الأشجار وبناء المدرجات للحفاظ على التربة واستعمال السماد العضوي والدورة الزراعية وإراحة الأرض لصيانتها وتخصيبها والرفع من قدرتها على الإنتاج. (*) طالب باحث بماستر التراث الطبيعي وتدبير المجالات الهشة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية المحمدية جامعة الحسن الثاني