لم تكد تمر بضعة أيام على حريق كاتدرائية نوتردام بباريس حتى بادر الملك محمد السادس إلى تسجيل السبق في مشهد المتبرعين. وأفاد بلاغ لسفارة المغرب بفرنسا يوم الخميس الماضي أن سفير الملك بباريس، شكيب بنموسى محادثات مع المطران ميشيل أوبيتي، رئيس أساقفة باريس. وأوضح البلاغ أن بنموسى جدد خلال هذه المحادثات، لرئيس أساقفة باريس التعبير عن دعم ومواساة وتضامن الملك محمد السادس، باسم جميع المغاربة، على إثر الحريق الذي اندلع في كاتدرائية نوتردام، رمز مدينة باريس، وتاريخ فرنسا، ومحج الملايين من المؤمنين. وأكد المصدر أن "السفير أبلغ رئيس أساقفة باريس بأنه، وبتعليمات سامية من جلالة الملك، أمير المؤمنين، قررت المملكة المغربية تقديم مساهمة مالية من أجل إعادة بناء كاتدرائية نوتردام دوباري". جاءت هذه البادرة الملكية بعد أيام قليلة من زيارة تاريخية للبابا فرانسيس إلى المغرب توجت بلقاء غير مسبوق مع الملك محمد السادس مفعم بالإشارات والدلالات الدينية والروحية العميقة. وفي هذه الزيارة التاريخية تم توقيع وثيقة أطلق عليها “نداء القدس” تم التأكيد فيها على أهمية الحفاظ على المدينة باعتبارها تراثاً مشتركاً للإنسانية وأرضاً للقاء ورمزاً للتعايش السلمي بين أتباع الديانات الإبراهيمية الثلاث ومركز قيم وحوار متبادل، وأملا أن تكفل حرية العبادة وحرية الولوج للأماكن المقدسة في المدينة. وانسجاما مع رسالة التسامح التي يرفعها الملك محمد السادس بوصفه أميرا للمؤمنين جاءت مبادرته إلى دعم جهود إعادة ترميم كنيسة نوتردام بباريس والتي شهدت حريقا دراميا تابعه العالم أجمع على شاشات التلفزيون. وأثار مشهد حريق الكاتدرائية تعاطفا دوليا بعد الدمار الذي لحقها باعتبارها معلمة تاريخية عريقة. وفي هذا السياق تسارعت مبادرات التبرع من مختلف أنحاء العالم لإعادة الكنيسة التي بنيت قبل 850 عاما إلى حالها. كما جاءت حشدت دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لإعادة بناء الكاتدرائية موجة عارمة من المبادرات خصوصا في أوساط رجال الأعمال وأثرياء فرنسا حيث وعد الرئيس التنفيذي لشركة LVMH برنارد أرنو بالمساعدة بمبلغ 226 مليون دولار (200 مليون يورو). وقد تمت مطابقة التبرع من قبل عائلة "بتنكورت مايرز"، التي تملك لوريال (LRLCF). تعهدت عائلة "بينو"، التي تدير مجموعة "كيرننج" الفاخرة (PPRUF) ، بمبلغ 113 مليون دولار (100 مليون يورو). كما قامت شركات فرنسية أخرى بكتابة شيكات كبيرة منها شركة النفط والغاز توتال (TOT) التي تعهدت بمبلغ 113 مليون دولار (100 مليون يورو) بالإضافة إلى العديد من الشركات العالمية الأخرى حول العالم. لكن إعلان الملك محمد السادس عن التبرع لكاتدرائية نوتردام بباريس لم يكن قرارا معزولا أو ظرفيا مصدره التعاطف فقط، بل جاء كجزء من النهج الديني للمغرب الذي اعتنق منذ إطلاق ورش إعادة هيكلة الحقل الديني قيم التسامح والعيش المشترك بين الحضارات. وقد تجسد هذا النهج من خلال إعلان الملك محمد السادس عن تخصيص منحة مالية موازية لترميم المسجد الأقصى. ومن الواضح أن الإعلان عن هذين التبرعين بشكل متزامن يتضمن إشارات هامة حول أهمية استمرار الحوار الديني والتقارب الحضاري كبديل للصراع والمواجهة التي فرضتها إيديولوجيا العولمة والمصالح الرأسمالية. وتعزز البعد الروحي والثقافي الواسع للمبادرة الملكية بقرار مشابه عندما أشرف الملك محمد السادس في الأسبوع ذاته على إعطاء انطلاقة أشغال بناء متحف للثقافة اليهودية بحي « فاس الجديد» (10 مليون درهم)، في إطار العناية الخاصة التي يوليها أمير المؤمنين للتراث الثقافي والروحي للطائفة اليهودية المغربية، وعزمه الراسخ على الحفاظ على ثراء وتنوع مكونات الهوية المغربية. إن شمول المبادرات الملكية الديانات السماوية الثلاث ومعالمها المقدسة والتراثية من كنائس ومساجد ومتاحف يبرز هذه الاستراتيجية الملكية الثابتة التي تم ترسيخها في سياق دولي خاص تميز خلال العقدين الأخيرين بتنامي ظواهر الإرهاب والصراع الطائفي وتجييش مشاعر الحقد والعنصرية والكراهية المذهبية والدينية.