ألقى وزير الأوقاف أحمد التوفيق أمام الملك درسا حسنيا بعنوان : "دور علماء المغرب في حماية الهوية الوطنية"، وحشر في درسه مجموعة من القضايا الفقهية الخلافية، وصفها ب"الخدوش والنشوزات" التي تؤثر على "الوحدة الدينية" التي نشأ عليها المغاربة وتربوا عليها، وادعى أنها تتضمن "خطورة سياسية"، ثم أضاف قائلا : "وتدل الوثائق البصرية الراجعة إلى العقود القليلة الماضية أن هذه المخالفات لم يكن لها وجود في حياة المغاربة، فقد طرأت في ما يشبه عولمة داخل الإسلام لا توقر الاختيارات السليمة المبنية عليها الثوابت الوطنية". وقد بينت بالملموس في مقالات سابقة، أن الوزير المذكور جانب الصواب وتنكب سبيله، كما أوضحت أن الوثائق البصرية تدل على أن ما أسماه "المخالفات" ليس طارئا على المجتمع المغربي، بل تبناه سابقا علماؤنا، بل ملوك الدولة وسلاطينها، كما في مسألة القبض في الصلاة، حيث تبناها الملك الحسن الثاني وأقرها بعظمة لسانه أمام حشد من العلماء، ومازالت تلك الوثيقة البصرية محفوظة في أرشيف وزارة أحمد التوفيق، وفي أرشيف مجلة دعوة الحق. فهل تعمد الوزير الكذب ؟ أم خانه التوفيق فحسب ؟ ومن الفروع الفقهية التي أدرجها التوفيق ضمن "الخدوش والنشوزات"، مسألة قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة، وأنها مع "الخدوش والنشوزات" الأخرى تمثل "الخطورة الرمزية للمخالفة في جزئيات التدين"، فإلى أي حد يعتبر كلام الوزير علميا وذا رصانة تفرض على المخالف والموافق احترامه ؟ البسملة عمل السلاطين : تدل "الوثائق البصرية الراجعة" إلى تاريخ المغرب الثقافي، أن بعض سلاطين المغرب وملوكه كانوا يبسملون في الصلاة ويدعون إلى ذلك، وكان حريا بالوزير – وهو المؤرخ – أن يفيدنا بتلك "الوثائق البصرية" بدل أن يلبس جبة الفقيه المتعصب الغارق في أوحال التقليد، وأقرب نموذج لذلك، الملك المصلح، والسلطان العالم، سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله تعالى، الذي قال في كتابه الجامع الصحيح الأسانيد، المستخرج من أربعة مسانيد : "وينبغي للمصلي أن يبتدئ الفاتحة ببسم الله الرحمن الرحيم، لما ورد عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم لأم القرآن والسورة التي بعدها، أخرجه الإمام الشافعي رضي الله عنه، ولأن بسم الله مفتاح كل خير"، والرأي ذاته تبناه في كتابيه الفتح الرباني، وطبق الأرطاب. (الحركة الفقهية في عهد السلطان محمد بن عبد الله : 1/543. طبعة الأوقاف). وقبله، أمر السلطان المنصور الموحدي دولته بقراءة البسملة في أول الفاتحة في الصلوات، وأرسل بذلك إلى سائر بلاد الإسلام التي في ملكه، فأجاب قوم، وامتنع آخرون. (الاستقصا : 2/199). فهل يجرؤ الوزير الموقر أن يحذف هاتين الوثيقتين البصريتين من تاريخ المغرب ؟ وهل يجرؤ على اتهام السلطان المصلح العلوي بأنه كان يهدد "الوحدة الدينية" للمجتمع المغربي ؟. البسملة عمل المالكية : حكى ابن رشيد صاحب الرحلة، أن مالكيا عرض ورقة على ابن دقيق العيد (مالكي مجتهد) مضمنها استفتاء حول قراءة البسملة في فاتحة الكتاب في الصلاة، فمال الشيخ في جوابه إلى قراءتها للمالكي، خروجا من الخلاف في إبطال الصلاة بتركها، وصحتها مع قراءتها. كان المازري (مالكي) يقرأ البسملة في الصلاة، ولما سئل عن ذلك، قال : "قول واحد في مذهب مالك، أنه من قرأ بسم الله الرحمن الرحيم في الفريضة لا تبطل صلاته، وقول واحد في مذهب الشافعي، من لم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم بطلت صلاته، فأنا أفعل ما لا تبطل به صلاتي في مذهب إمامي، ولا تبطل في مذهب غيره". من خلال هذين النصين، نجد إمامين مالكيين يهتمان لمسألة أساس، وهي الخوف من وقوع صلاة المرء تحت طائلة البطلان، لذا لجأوا إلى التلفيق المذهبي، فهل يفكر الوزير التوفيق – وهو المسؤول على الشأن الديني في المغرب – في بطلان صلاة المغاربة من عدمه ؟ أم أنه لا يعيره أدنى اهتمام ما دام أنه يحقق "الوحدة الدينية" ؟ ومن طرائف الباب، أن ابن رشيد صاحب الرحلة "كان يسكت لدعاء الاستفتاح، ويسر البسملة، فأنكروا عليه، وكتبوا عليه محضرا بأنه ليس مالكيا". (الدرر الكامنة : 5/370). ولعل أصحاب المحضر، المنكرين على ابن رشيد، كانوا من طينة الوزير التوفيق وعلى شاكلته، من متعصبي المذهب الذين يسيئون إليه من حيث يظنون الإحسان. البسملة عند علماء المغرب : جرى العمل عند علماء المغرب على ترك البسملة في الصلاة، تمشيا مع مشهور المذهب، إلا أن بعض مالكية المغرب انفتحوا على غير المشهور، ولم يتشددوا تشدد أحمد التوفيق، ومنهم من أفرد المسألة بالتأليف، كالعلامة أحمد بن الطالب بن سودة في "تحرير المقال بغير اعتساف، فيما لهم في البسملة من الخلاف"، والعلامة بقية السلف الصالح، سيدي محمد بن جعفر الكتاني قدس الله روحه، له كتاب بعنوان : "رفع الملامة ودفع الاعتساف، على المالكي إذا بسمل في الفريضة خروجا من الخلاف"، فهل نرمي بالعلامة الكتاني في خانة "الخدوش والنشوزات" ؟ ام أنه كان تكفيريا ؟ أم أنه كان مهددا للوحدة الدينية ؟ لن أبالغ إذا قلت، إن سيدي محمد بن جعفر الكتاني رمز من رموز الوحدة الدينية، وعامل رئيس في إرساء أركانها ودعائمها، ولن تجد مترجما له إلا معطرا ترجمته بالثناء والتبجيل عليه. أما العالم الصوفي سيدي محمد بن عبد الكبير الكتاني تقبله الله في الشهداء، فكان يوصي مريدي طريقته بسنن الصلاة، ومنها البسملة، فقال رحمه الله لهم : "وأيضا، فمن سنن الطريق عندنا، البسملة في الصلاة سرا في السرية، وجهرا في الجهرية"، ونبه مريديه إلى أن البسملة في المذهب لا تتجاوز الكراهة، وقال مؤسسا عليه : "إذا كان يفعل الحرام وهو متلبس بالصلاة، ولا تبطل، فأحرى لا تبطل بالمكروه، والحرام هنا خارج عن ماهية الصلاة، بخلاف البسملة، فهي – إن كانت مكروهة – فهي من القراءة الداخلة في ماهية الصلاة، فإذا لم تبطل بفعل ما ليس منها، فكيف تبطل بما هو منها". ولإزالة أي لبس أو غبش عن المريدين، قال رحمه الله : "وانظر قول القرافي : كان المازري يبسمل. فاسأل عنه : هل هو مالكي أو شافعي ؟ وأنت تعلم أنه من كبار المالكية، وهل لا يصح الاقتداء به بعد الإمام ؟". وهذه وثيقة بصرية تغاضى عنها التوفيق حتى يخلو له الجو ليقرر ما أراد واشتهى. ترك البسملة مخالف للإجماع : طلبت وزارة الأوقاف من ثلاثة علماء في القراءات، وضع دليل لقراءة القرآن، طبعته الوزارة سنة 2009 بعنوان : الدليل الأوفق، إلى رواية ورش عن نافع من طريق الأزرق، قال المؤلفون : "لا خلاف في استعمال البسملة في أول الفاتحة" ثم ختموا المبحث بقولهم : "ونقل المنتوري عن ابن عبد الوهاب إجماع القراء على إثبات البسملة في أول أم القرآن". وعلى الوزير أن يتأمل عبارتي : "لا خلاف" و"إجماع القراء"، وهذا مثبت في كتاب من طبع ونشر وزارته، وليس من طبعات التكفيريين. وأزيد مسألة في غاية الأهمية، وهي أن العلامة الإمام، عبد الله بن الصديق الغماري، نص على أن الفاتحة من غير بسملة قراءة شاذة، لأن شروط التواتر الثلاثة غير متوافرة فيها، وهذا اجتهاد مهم جدا، لو كان الوزير ممن يعتني بنوابغ المغرب لاحتفى به وبصاحبه، ولكنه لا يفرح ولا يطرب إلا للمقلدة الذين يسبحون بحمده، ولا ينبسون ببنت شفة أما حضرته. هذه لمع وإشارات، تدل على أن الوزير لم يكن موفقا في درسه، وأنه كان يطلق الكلام على عواهنه أمام "العلماء" وفي حضرة الملك، وأن التاريخ المغربي فيه من العلماء والسلاطين من رجحوا البسملة، ولم يهددوا الوحدة الدينية، ولم يكونوا تكفيريين، ولا "خدوشا أو نشوزات".