على حين غرة اختفى محمد عبد الوهاب الدارالبيضاء. حسن السقاط. كان الرجل يقتعد عرشه بالطابق العلوي لملهى "سينترا" وخلفه صورة كبيرة له مع عبد الوهاب يحرسها نسران، فيحج إليه المعجبون هرولة وترنحا… آخر هؤلاء كان حسن أوريد، مؤرخ المملكة، الذي أبى إلا أن يؤرخ لحسن السقاط ومريدي "سينترا" برواية اختار لها نفس اسم الملهى المتاخم لشارع محمد الخامس، غير بعيد عن "المارشي سنترال" و"الساتيام" وهما مكانان يعبقان برائحة التاريخ الوطني للدار البيضاء. موقع "الأول" اختار أن يعيد نشر مقال للصحافي الفنان عزيز المجدوب، استحضارا لذكرى حسن السقاط. حسن السقاط.. بلبل سهران "حسن السقاط" الاسم الذي ارتبط في ذاكرة العديد من المغاربة من عشاق الطرب الأصيل، بصورة مطرب أنيق يرتدي نظارات طبية بإطار سميك شبيهة بنظارات محمد عبد الوهاب، وليست النظارات فقط هي ما يجمع السقاط بعبد الوهاب، بل هي علاقة عشق لازم الفنان المغربي منذ الصِّبا وجعلته أحد أبرز مؤدي أغاني موسيقار الأجيال، الذي أعجب هو نفسه بأسلوب السقاط في أداء أغانيه حين سمعه في إحدى المناسبات. مسيرة الفنان حسن السقاط لم تقتصر بطبيعة الحال على تقليد الأغاني الشرقية التي برع فيها إلى حد أن شهرته في التقليد طغت على شهرته مطربا له رصيد محترم من أغانيه الخاصة لحنها بنفسه أو تعامل فيها مع نخبة من أشهر الملحنين. عزيز المجدوب (عن مجلة "الصباح") الساعة تقترب من منتصف الليل، في الطابق العلوي لملهى "سينترا" الليلي الشهير بوسط الدارالبيضاء، بضعة زبائن أخذوا أماكنهم على الطاولات، الصمت يجلل المكان اللهم إلا من وشوشاتهم، في ركن من القاعة الفسيحة، المقسمة إلى قسمين، خصصت منصة صغيرة بها كرسي شبيه بعرش خلفه مدخنة عتيقة، وفوقها مباشرة صورة كبيرة للفنان حسن السقاط رفقة الموسيقار محمد عبد الوهاب، إذن فالسقاط هو "سيد المكان" بتواضع الكبار. تتناهى إلى الأسماع أصوات موسيقى قادمة من الطابق الآخر للملهى تجاور فيها الشعبي مع العصري مع الخليجي موجهة إلى جمهور تآلف مع هذه "الخيلوطة" الغنائية، ولا شيء، إلى حدود الآن، يوحي بأن الطابق العلوي قد ينافس نظيره السفلي في الحيوية و"النشاط". تجاوزت الساعة منتصف الليل بدقائق، دلف الفنان حسن السقاط المكان بقامته المتوسطة وجسده المكتنز وبذلته الأنيقة ونظارته الطبية المميزة التي تزيده وقارا. بمجرد ما أخذ مكانه على كرسي شرع في دوزنة عوده وتسوية أوتاره، ودون أن ينتظر أن تمتلئ القاعة وقّع بأنامله تقسيما بديعا من مقام "البياتي" كان مقدمة لأداء أغنية "هان الود" فانساب صوته "المعتّق" يغني المطلع وقبل أن يصل إلى نصف الأغنية أخذت القاعة تمتلئ شيئا فشيئا وأخذت كفة الطابق العلوي ترجح، فالسقاط وعشاقه الدائمون يعرفون مكان وتوقيت اللقاء دون ترتيب مسبق. تواصل السهر إلى ساعات الصباح الأولى، وكان السقاط، وعلى عادته في كل ليالي "سينترا" نجما فوق العادة، وسط عشاق يعرفون قيمة هذا الفنان الذي يواصل تجديد صلتهم بالطرب الأصيل، ويعيدهم إلى ذكريات الأيام الخوالي و"هي صدى السنين الحاكي". نغمة الأنين قبل أن يكون حسن السقاط نجم "السهرات الخاصة"، فقد كان اسما غنائيا بارزا تعززت به الساحة الغنائية المغربية خلال منتصف الستينات، ضمن جيل عبد الوهاب الدكالي وعبد الهادي بلخياط والحياني والحبيب الإدريسي والطاهر جيمي وغيرهم. "السقاط" هذا اللقب الذي يحيل على الأصول الفاسية لهذا الفنان، الذي ولد فعلا بمدينة فاس سنة 1946، قبل أن تنتقل أسرته، خمس سنوات بعد ذلك، إلى مدينة الدارالبيضاء، وتستقر بحي درب السلطان. بهذا الحي العريق تفتح وعي الطفل حسن السقاط على محيط يضج بالحركية، وبه تشرّب عشق الفن والموسيقى، وبدت مخايل هذا العشق على الطفل حسن خلال مرحلة الدراسة الابتدائية. ويحكي السقاط واقعة طريفة بهذا الخصوص قائلا "في إحدى زيارات والدي، الذي كان يعمل مساعد طبيب بمستشفى "موريس كو" (ابن رشد حاليا)، لتفقد أحوالي الدراسية بالفصل، قال له المعلم "الولد لا بأس به، غير هو مرة مرة كانسمعو كا ينين بزاف فالقسم". ويستطرد السقاط، ضاحكا، أن معلمه لم يكن يعلم أن ذلك "الأنين" لم تكن سوى دندنات لأغان التقطتها أذناه ويحاول ترديدها بنفسه. وانتقل السقاط من مستوى الدندنة، إلى الغناء لزملائه وأبناء الحي، في مختلف الفرص والمناسبات التي تتاح له، ولم يعد خافيا على المحيط القريب منه أن الفتى حسن يتمتع بموهبة صوتية نادرة، فقط تحتاج إلى من يوجهها خاصة أنه نشأ في وسط محافظ، لا يشجع على الدفع بالمواهب الفنية في اتجاه الأمام. لم ينتبه إلى موهبة حسن السقاط، سوى أحد أقاربه الذي شجعه على الالتحاق بفرقة موسيقية بناد فني قرب سينما "الكواكب" الشهيرة. واقترح القريب على رئيس الفرقة أن يُشرك الطفل حسن، مع الفرقة في أنشطتها الفنية، فقبل الرئيس على مضض بعد أن تبين له أن الأمر يتعلق بفتى لا يتجاوز سنه الثالثة عشرة، فأجرى له اختبارا صوتيا وغنى السقاط أمام الفرقة أغنية "علاش يا غزالي" للمعطي بنقاسم. وعندما شرع السقاط في غنائها، وفي وسط الأغنية التفت عازف العود إلى بقية أعضاء الفرقة قائلا لهم "هاذ الولد موزون" فاعتقد السقاط أن العازف قصد إهانته بعبارة "موزون" قبل أن ينبهوه إلى أن المسألة عكس ذلك. وهكذا بدأ حسن السقاط مسيرته مع هذه الفرقة الموسيقية ولم يكن يتقاضى أجرا عن مشاركاته معها، إلا أنها مكنته من تفجير مواهبه الغنائية، وأول أجر تقاضاه كان بمناسبة إحياء الفرقة لسهرة بمناسبة عيد العرش، نهاية الخمسينات، كان قدره 70 درهما تفضل بها رئيس الفرقة على "فتى الفرقة". كان أول شيء فعله حسن السقاط بذلك المبلغ، هو أن قصد محلا لبيع الآلات الموسيقية بزنقة جامع الشلوح بالمدينة القديمة، وأراد اقتناء آلة عود، فوجد أن ثمنها يفوق المبلغ الذي كان بجيبه بكثير، إلا أن البائع الذي لم يكن سوى عزيز العلمي، شقيق الفنان إبراهيم العلمي، تعاطف مع الفتى حسن بعد توسم فيه معالم فنان صاعد، وسلمه آلة العود مقابل هذا المبلغ الزهيد. خشوع في حضرة المقامات بدأ حسن السقاط يحاول التعرف على أسرار آلة العود العجيبة وتعلم العزف عليها، فأخذ يتردد على بعض الأندية الفنية بالمدينة القديمة، إلا أن اسلوب التلقين بها لم يرقه، إلى أن نصحه أحد الأصدقاء بالالتحاق بالمعهد الموسيقي البلدي بشارع باريس. وهكذا التحق السقاط بالمعهد الموسيقي، بداية الستينات، وحقق بذلك جزءا من أحلامه وطموحاته، رغم معارضة الأسرة خاصة والده، فدرس مبادئ "الصولفيج" والعزف على آلة العود على يد مربي الأجيال الأستاذ سليمان شوقي. ويذكر السقاط أن من بين زملائه في تلك المرحلة الفنان الحاج يونس الذي كان متخصصا في بداياته في آلة "الكونتر باس" قبل أن يتوجه إلى آلة العود، ويصبح من خيرة العازفين عليها في العالم العربي. وقضى السقاط بالمعهد الموسيقي سبع سنوات، مكنته من سبر مجاهل الموسيقى والإلمام بقدر وافر لأسرار المقامات العربية. وخلال مرحلة الدراسة توطدت علاقته أكثر بأغاني محمد عبد الوهاب التي بدأ في حفظها منذ سنوات الصبا، إلى درجة أنه أصبح بارعا في أدائها إلى جانب أغاني فطاحل الطرب الشرقي أمثال محمد عبد المطلب وعبد العزيز محمود ومحمد قنديل وفريد الأطرش، مما فتح الباب أمامه للمشاركة بأداء أغاني هؤلاء في السهرات الأسبوعية التي كانت تقام بالمسرح البلدي للدار البيضاء، بعد أن التحق بجوق "التقدم" الذي كان يرأسه الفنان أحمد السعدي، ويضم خيرة العازفين أمثال بلهاشمي، عازف الكمان، وبوبكر الطالبي، على القانون، والمرحوم إدريس الناياتي. بعد افتتاح إذاعة عين الشق سنة 1963، راودت حسن السقاط فكرة تسجيل أغان خاصة به من تلحينه، منها محاورة غنائية بعنوان "شيفور الماشينة" أداها رفقة الفنانة لطيفة السلاوي، ابنة الفنان الراحل الحسين السلاوي. إلا أن السقاط واجه صعوبات كبيرة في سبيل فرض أغانيه، التي كانت تُرفض بمبررات غير مقنعة من طرف لجنة الموسيقى والألحان بالإذاعة المركزية بالرباط، وحز في نفسه كثيرا أن يتعرض لهذه المواقف خاصة أنه كان يبذل مجهودا في تلحينها، وحتى إذا تم قبولها فنادرا ما كانت تذاع. ومن غريب الصدف أن أول أغنية اشتهر بها حسن السقاط كانت أغنية شرقية هي رائعة "عدوية" لمحمد رشدي التي سجلها السقاط على أسطوانة، ونالت نصيبا وافرا من الشهرة في المغرب بفضل أداء حسن السقاط المتميز لها. أما أول الأغاني المغربية التي عُرف بها السقاط فهما أغنيتي "خايف خايف" و"ما زال ليام تلاقي" وهي من كلمات عزيز العلمي، إضافة إلى أغان أخرى وطنية أداها بداية السبعينات، فضلا عن تسجيله على أسطوانة خاصة لرائعة "كا تعجبني" وهي من كلمات أحمد الطيب لعلج وألحان الموسيقار عبد الوهاب الدكالي. ما العمر إلا ليلة أتيحت لحسن السقاط سنة 1970 رحلة إلى القاهرة ظلت منقوشة في ذاكرته لأنها مكنته من تحقيق حلم لم يخطر على باله وهو اللقاء بالموسيقار محمد عبد الوهاب. ويحكي السقاط عن ملابسات هذه الرحلة قائلا " في إحدى المرات كنا نجلس بمقهى شهيرة بدرب السلطان اسمها "أكنول" كان يرتادها أهل الفن والطرب أمثال إبراهيم العلمي وأحمد جبران وأحمد البيضاوي، قبل أن تتحول إلى محل لبيع الأواني البلاستيكية، وكنت يومها رفقة المرحوم عبد الرحيم السقاط ومحمد المزكلدي." وحدث أن توقف أمام المقهى بسيارته الحاج بليوط بوشتنوف أحد أشهر أثرياء العاصمة الاقتصادية، ومالكا للعديد من القاعات السينمائية بها مثل سينما "فيردان" و"الكواكب"، وكان كثيرا ما يعطف على أهل الفن ويتعهد بالاعتناء بهم. وبعد أن احتسى فنجان قهوة، طلب الحاج بوشتنوف من "السقاطين" حسن وعبد الرحيم ومحمد المزكلدي، أن يهيئوا أنفسهم لرحلة إلى أرض الكنانة على نفقته الخاصة، شريطة أن يصطحبوا معهم آلة عود. وهكذا وجد حسن السقاط نفسه على أرض القاهرة، وبينما هو يتجول بمعية رفاق الرحلة ومعهم الحاج بوشتنوف الذي كان مشهورا لدى أهل الفن في مصر بحكم علاقاته النافذة مع شركات الإنتاج السينمائي، استرعى انتباههم إعلان على واجهة فندق "سميراميس" بإحياء عيد ميلاد محمد عبد الوهاب بالفندق ذاته. فاقترح عليهم الحاج بوشتنوف أن يحضروا الحفل، وعاينوا الحفاوة التي لقيها الثري البيضاوي ورفاقه بمجرد ما وطأت أقدامهم باحة الفندق. لم يصدق حسن السقاط نفسه وهو يجلس بقاعة تضم أشهر الأسماء الفنية في ذلك الوقت، فهذا رياض السنباطي بشعره المخروط بالشيب يطالع أوراقا بين يديه، وذاك فريد الأطرش يمازح مجالسيه، وهذا عبد الحليم حافظ يتنقل برشاقة بين طاولات المدعوين، أما عبد الوهاب فكان النجم المحتفى به. كانت المفاجأة أن توجه الحاج بوشتنوف إلى أحمد فؤاد حسن رئيس الفرقة الماسية، وهمس في أذنه بضع كلمات، فأعلن الأخير إلى الحاضرين أن هناك شابا مغربيا سيشارك في الحفلة، لم يكن سوى حسن السقاط. لم يدر السقاط ما حل به، فلم يستفق من حلمه بعد حتى وجد نفسه مطالبا بأن يغني أمام أسماء لم يتوقع أن تجمعه بهم الصدفة على ذلك النحو. تمالك السقاط نفسه، بعد أن شجعه زملاؤه، وتوجه نحو رئيس الفرقة فاقترح عليه أن يغني قطعة "يا ناعما" فتبسم فؤاد حسن قائلا "يا ناعما على طول" فنظر السقاط في اتجاه آلة عود كانت موضوعة على كرسي فارغ أمام الفرقة الماسية لفريد الأطرش، سيغني به في ما بعد،، فاستأذن السقاط من فؤاد حسن أن يستعمله فضحك الأخير "والعود كمان" إذ أشفق على الفتى من ثقل المسؤولية المنوطة به تلك الليلة. وانطلق صوت حسن السقاط مترنما بمطلع الأغنية، التي اختارها لأنها تتضمن جملة يقول فيها شاعرها أحمد شوقي "ما العمر إلا ليلة"، فتناهى إلى سمعه صوت صاحبها عبد الوهاب، وهو يتأوه طربا ويردد "آه يا حنيّن"، وما أن انتهى منها حتى طُلب منه أداء أغنية أخرى فاختار "يا جارة الوادي" وهي من المقام نفسه للأولى، أي البياتي. تقدم عبد الوهاب نحو السقاط وعانقه بحنو، إلى درجة أن الأخير كاد يغمى عليه من فرط سروره، والتفت جهة المصور المغربي محمد مرادجي الذي كان حاضرا تلك الليلة فخاطبه "إذا أخبرت أصدقائي بالمغرب بما وقع فلن يصدقني أحد، فأرجوك أن تبادر بتخليد اللحظة بصورة". لكن مرادجي أخبره أن المصورين ممنوعون من الدخول لأن "فلاشات التصوير" تؤذي عيني عبد الوهاب، إلا أنه طلب من السقاط استدراج موسيقار الأجيال إلى زاوية مضاءة، بينما تسلل هو إلى سيارته وجلب آلة تصوير أخفاها عن الحراس، وقبل أن يقترب منهما فطن عبد الوهاب للأمر فأخذ يمازح مرادجي ضاحكا وهو يقول "آه يا ظالم"، وهكذا التقطت الصورة التي تنفرد "مجلة الصباح" بنشرها. قضى حسن السقاط بالقاهرة 10 أيام، سبعة منها قضاها مع الموسيقار فريد الاطرش الذي قال عنه السقاط إنه كان فنانا حقيقيا، وكريما إلى أبعد الحدود، كما أن شقته كانت أشبه ب"زاوية" يرتادها أهل الفن وغيره. وخلال منتصف السبعينات سيرحل حسن السقاط إلى أوربا بعد أن تبين له صعوبة الاستمرار في مشهد فني لم تكن تتوفر شروط فيه التحفيز على الإبداع، وقضى هناك سنوات طوالا عبر فترات متقطعة، يغني في العديد من الفضاءات بكل من بريطانيا وفرنسا وهولندا، قبل أن يعود إلى المغرب ليواصل مساره الفني مع عشاق فنه من "خاصة الخاصة".