الحالة الصحية المتأزمة للرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، لم تعد خافية على أحد، سيما وأنها أضحت تحول بينه وبين القيام بمهامه التي يفرضها عليه منصبه، تنبئ بأن إمبراطورية النفط والغاز مُقبلة على أزمات حادة، خاصة في ظل الاحتجاجات المتنامية الأخيرة المتنامية. حول الطرائق التي ستدير بها الجزائر مرحلة ما بعد بوتفليقة، وكيفية إرساء النخب السياسية أسس المرحلة الانتقالية القادمة، عمد عدد من الخبراء المختصين في الشأن الجزائري إلى استقراء التغيرات المرتقبة، من خلال وثائق تحليلية صدرت عن مركز كارنغي للسلام الدولي. يُخيّم الالتباس والقلق على مستقبل الجزائر منذ أن تمّ انتخاب الرئيس المريض عبد العزيز بوتفليقة لولاية رابعة في أبريل الماضي. ولئن كانت النتيجة التي أسفرت عن فوز بوتفليقة متوقّعة، إلا أن المسار الّذي يُمكن أن تسلكه الأحداث لا يزال غير واضح المعالم. فعلى الرغم من أن حلفاء بوتفليقة يتّجهون إلى الاحتفاظ بالسّلطة بعد الإعلان عن تعديل حكومي في شهر سبتمبر الماضي، لايزال الالتباس يحيط بهوية الشخص الذي سيحلّ مكان الرئيس الطاعن في السّن. في ظل هذه الأجواء، أقرت الحكومة قوانين تكبح نشاط الجمعيات الأهلية، وضاعت الآمال التي عقدها الإصلاحيون على الإجراءات التي انطلقت في شتنبر الماضي، والتي كانوا يأملون أن تؤدّي إلى إصلاح الأجهزة الأمنية الجزائرية وتوقُّفها عن أداء دور الشرطة السياسية. في غضون كلّ ذلك، مازالت البلاد تواجه سلسلة من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية. مرشحون لخلافة بوتفليقة ترى الباحثة بمركز كارنغي للشرق الأوسط داليا غانم يزبك، أنّ التعديل الحكومي الذي أجري في الجزائر بتاريخ 29 أبريل الماضي، قدم مؤشرات على المناورات السياسية التي تشهدها البلاد من أجل تسهيل المرحلة الانتقالية التي تلوح في الأفق، لافتة إلى أنّ هوية الشخص الذي سيحل مكان بوتفليقة، سوف يتم اختياره من قبل مجموعة من أشخاص أنتجتهم منظومة أبقت البلاد أسيرة حالة انتقالية مستمرة، حيث التناوُب والتجديد السياسي شبه معدومَين. وفي ذات السياق، أشارت يزبك إلى أن المستشارين المقرّبين من عبدالعزيز بوتفليقة، ومن بينهم وزراء أساسيون، احتفظوا بحقائبهم في التشكيلة الحكومية الجديدة، حيث أعيد تعيين عبدالمالك سلال في منصب رئيس الوزراء، بعد التخلّي عنه لفترة مؤقّتة دامت أكثر من شهر تولّى خلالها إدارة الحملة الانتخابية للرئيس بوتفليقة. وكذلك تم الاحتفاظ بوزير الداخلية الطيب بلعيز، ووزير الخارجية رمطان العمامرة، ووزير العدل الطيب لوح، ونائب وزير الدفاع الوطني الفريق أحمد قايد صالح. في المقابل، غادر عدد آخر من الوزراء مناصبهم، من بينهم عبدالعزيز بلخادم الذي يعدّ، وفق الباحثة، "الخاسر" الأكبر بعد أن عُزِل من منصبه في 26 غشت الماضي، بعد أن عمل مستشارا خاصا للرئيس طيلة 15 سنة، لكنه الآن أصبح ممنوعا من المشاركة في أنشطة جبهة التحرير الوطني بعدما كان يتولّى منصب أمينها العام سابقا، كما أنّه لم يعد مرغوباً فيه في المجلس الشعبي الوطني، ما يحول دون قدرته على خلافة بوتفليقة، مع العلم أنه يحتفظ بطموحات سياسية في هذا الصدد ولا يحاول إخفاءها. مستقبل غامض.. أما "الرابح"، في نظر يزبك، فهو أحمد أويحيى الذي عاد هذه المرة إلى الساحة السياسية في منصب مدير مكتب الرئيس برتبة وزير دولة. ويعدّ أويحيى الآن المسؤول الأول عن المراجعة التي تجرى للدستور، وقد سبق له أن خاض هذه التجربة عندما كان رئيسا للوزراء في عام 2008 بهدف إفساح المجال أمام بوتفليقة للترشّح لولاية ثالثة. كما أنه طبّق سياسات صعبة، وغير شعبية في معظم الأحيان. وتنعته الصحافة الجزائرية، كما ينعته الجزائريون، ب"رجل العمل القذر"، وهي صفة يعتزّ بها، على حدّ تعبيرها. في سياق متصل تشير الباحثة إلى أن قوّة أويحيى تكمن في حفاظه على ولائه للرئيس رغم عزله من الوزارة في سبتمبر 2012، وإقالته من قيادة حزبه، التجمع الوطني الديمقراطي. ويبدو أنّ أويحيى اليوم، هو الشخص الّذي يميل صنّاع القرار خلف الكواليس إلى اختياره خلفا لبوتفليقة، رغم الشائعات التي تتداول اسم كل من عبد القادر بن صالح وسعيد بوتفليقة كمرشّحَين محتملين لرئاسة الجمهورية. وقد وضعت الصّحافة حدا لطموح بن صالح عندما زعمت أنه مجنس وليس جزائري المولد (تفرض المادة 74 من الدستور الجزائري أن يكون الرئيس من الجنسية الجزائرية الأصلية). أما سعيد بوتفليقة فقد ذاع صيته بسبب تورّطه في العديد من قضايا الفساد. بهذا، تخلص الباحثة إلى أن أويحيى، الذي يتمتع بمكانة خاصة في المؤسسة العسكرية الجزائرية، والذي يحاول صنّاع القرار الآن كسب الوقت كي يتقبّله الجزائريون، بعد أن سلّط عليهم سابقا عددا من السياسات غير الشعبية، مثل خفض الأجور في عام 1995 وتطبيق برنامج التكييف الهيكلي الذي فرضه صندوق النقد الدولي، هو المرشّح الأبرز لخلافة بوتفليقة، وفق رأيها. ما هو الدور الذي يلعبه الجيش؟ يرى عدد من المراقبين، أن المؤسسة العسكرية الجزائرية تظهر رسميا كما لو أنها لا تتدخل في الشؤون السياسية للبلاد، لكنّها في الواقع تُعدّ الآمر الناهي والعمود الفقري للنظام. وهناك فئات كثيرة من الشعب تتهم بعض القادة العسكريين بالفساد وبنهب ثروات البلاد. كما تجدر الإشارة إلى أنّ الجيش الجزائري تدخل في أحداث 1988 المأساوية، مطلقا الرصاص على المتظاهرين الذين كانوا يطالبون بالتعددية الحزبية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، الأمر الذي أدى إلى سقوط نحو 200 قتيل. ويظل السؤال المطروح الآن في الأوساط الثقافية والإعلامية الجزائرية، وفق ذات المراقبين: هل ستختار المؤسسة العسكرية هذه المرة الحياد إذا اشتدت الاحتجاجات كما حصل في تونس ومصر أم ستقف كالمعتاد في صفّ النظام؟ من جهته، تطرّق الرئيس التنفيذي لمركز NSV الاستشاري الجزائري، أرسلان شيخاوي، إلى الحديث عن الدور الذي تلعبه دائرة الاستعلام والأمن التابعة للجيش الجزائري، منذ إعادة هيكلتها في سبتمبر 2013، مشيرا إلى أنّ الموجة الثانية من الإصلاحات الّتي شهدتها المؤسسة لا تسعى إلى معالجة التهديدات الإقليمية المتنامية وحسب، إنّما أيضا إلى الاستجابة للتطورات الداخلية الراهنة. بيد أنه يشدّد على أنّ هناك حاجة إلى مقاربة أكثر تقدّمية كي تتخلّى الدائرة عن وظيفتها التقليدية في أداء دور الشرطة السياسية وتتحوّل نحو العمل الاستخباراتي الحقيقي. إلى جانب هذه الاصلاحات، مشيرا إلى أنّ الرئاسة تبذل جهودا كبيرة لإظهار دائرة الاستعلام والأمن أكثر شفافية، وأنها تنأى بنفسها شيئا فشيئا عن التدخل في السياسة. لكن المراقبين يرون أنها لا تعدو أن تكون سوى محاولات لذر الرماد على الأعين، فهذه المؤسسات مازالت مرتبطة بشكل عضوي وهرمي مع الجيش وفق نموذج بنيوي مركزي شبيه بالنموذج السوفييتي الذي يضمن تحكم العسكر في الحكم السياسي المدني. كيف شددت القيود على الناشطين؟ يفيد كوسيلا زرقين، عضو الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان، من جهته، بأنّ سلسلة الإجراءات والقوانين التي أقرتها السلطة في مطلع عام 2012 للحؤول دون وصول الانتفاضات العربية التي اندلعت في عام 2011 إلى الجزائر بعدما طالت عددا من الدول العربية تسبّبت في تقييد الحريات وانتهاك الالتزامات الدولية التي قطعتها الجزائر على نفسها، ومنها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر عن الأممالمتحدة. وأضاف أنّ نظام بوتفليقة استغلّ حينها الحاجة إلى الإصلاح من أجل إغلاق المساحة المتوافرة في المشهد السياسي أمام المجموعات الأهلية، وبالتالي تشديد الرقابة على المجتمع الجزائري. ومن هذه الإجراءات قانون الجمعيات (12-06) وقانون الأحزاب السياسية (12-04). وواقع الحال، وفق زرقين، هو أنّ هذا التشريع يعمد في بعض جوانبه إلى تقنين ممارسة كانت السلطات تطبّقها في الأصل على نطاق واسع، بما يؤدّي إلى تعزيز نفوذها ويعوق استقلالية الجمعيات الأهلية وتنظيمها بطريقة حيادية. وبمقتضى القانون الجديد، تستطيع السلطات رفض تسجيل الجمعيات التي تعتبر أنها "مخالفة للثوابت والقيم الوطنية والنظام العام والآداب العامة وأحكام القوانين والتنظيمات المعمول بها". ويفرض القانون أيضا قيودا شديدة على تمويل المنظمات الأهلية والعضوية فيها، من جملة قيود أخرى. ومن شأن هذه التدابير المشدّدة والالتباس في مفهوم الامتثال المنصوص عليه في القانون أن تتيح للسلطات منع تشكيل جمعيات، بما فيها المجموعات التي تدافع عن الحقوق الأساسية. أما قانون الأحزاب السياسية في الجزائر، فيتضمّن 84 مادّة ويساهم في تعزيز نفوذ النظام (لا سيما وزارة الداخلية) في التعاطي مع الأحزاب السياسية. فمن الخطوة الأولى لتشكيل الحزب إلى تنظيمه الداخلي، باتت وزارة الداخلية تتمتّع بصلاحيات واسعة تمنحها رقابة شديدة على الأحزاب السياسية. علاوة على ذلك، يتيح القانون للوزارة الاحتفاظ بسيطرة مهمة على إجراءات حل الجمعيات وفرض الحظر أو القيود. وبالأهمية نفسها، تشير هذه الإجراءات التشريعية إلى أنّ نظام الرئيس بوتفليقة سيستمر في تطبيق أسلوبه التقليدي في إدارة النتائج بدلا من معالجة الأسباب الجذرية للمشاكل التي تعاني منها الجزائر، وبالتالي تجنُّب الإصلاح الضروري جدا لمنظومة الحكم في البلاد. ولن تساهم هذه المقاربة سوى في تشجيع ظهور تيارات المقاومة التي تعمل خارج الدولة بدلا من كبحها. وممّا لا شك فيه أنها ستجنح نحو التشدّد، وفق تعبيره. ما الذي أجج الاحتجاجات؟ يرى مراد أوشيشي، أستاذ الاقتصاد في جامعة بجايةبالجزائر، أنّ النموذج الاقتصادي الريعي تسبب بشكل أساسي في الإبقاء على المنظومة السلطوية في البلاد. فمادام هناك رابطٌ لا ينفصم بين السياسة والاقتصاد في الجزائر، وفق أوشيشي، ستبقى العوائق قائمة أمام التغيير. خاصّة أنّ الحكومة الجزائرية مسكونة بهاجس السيطرة على كل مستويات السلطة بما في ذلك الاقتصاد، وهو ما يحول دون تمكّنها من اتّخاذ الخيارات الصحيحة في مجالات التنمية الاقتصادية والتحرير الاقتصادي والنمو، وهو ما أسهم في حالة عامة من الحنق لدى الجزائريين الذين يسودهم شعور من الغبن. أمّا على الصعيد السياسي، فقد حمى النظام الجزائري نفسه من ظهور قوى سياسية منافسة ومجتمع مدني يتمتع باستقلال ذاتي عبر فرض حظر مباشر على مختلف أشكال النشاط السياسي التي تحدث خارج أجهزة الدولة. وليس انتشار الفضائح -لا سيما في القطاع المالي والأسواق العامة- والحرمان من التمثيل السياسي والنقابي الحر، وحظر التظاهرات العامة، والانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان، سوى خير دليل على الانهيار السياسي الذي تعاني منه البلاد، هو كذلك إطار حاضن لجل التحركات والاحتجاجات التي يبدو أنها بدأت تأخذ نسقا تصاعديا في المدّة الأخيرة. وبناء على ما سبق، يشير أوشيشي، إلى أنّ المجتمع الجزائري بذاك النظام الاقتصادي الهش وذاك التضييق السياسي الشديد، ليس محصّنا من الاضطرابات التي تفشّت في عدد من بلدان شمال أفريقيا والشرق الأوسط، خاصة في ظلّ تنامي الاحتجاجات الأخيرة التي ترفض خيارات الحكومة المتعسفة.