يعقد في أستانة عاصمة جمهورية كازاخستان، يوم الأربعاء 25 سبتمبر الجاري، مؤتمر دولي بمناسبة حلول الذكرى العاشرة لانعقاد الدورة الأولى للمؤتمر العالمي لزعماء الأديان العالمية والتقليدية، خلال الفترة من 23 إلى 24 سبتمبر عام 2003. وقد سبق لي أن شاركت في الدورة الرابعة لهذا المؤتمر المنعقدة في أستانة في شهر مايو عام 2012، وشاهدت حجم التمثيل العالمي الواسع في هذا المؤتمر، ومستوى القيادات الدينية المسؤولة المشاركة فيه، ومدى الجهود التي تبذلها حكومة كازاخستان لتجعل من عاصمتها منتدى للحوار الديني، ومن هذا المؤتمر محفلا ً عالميًا لدعاة التسامح والإخاء الإنساني بين أتباع الأديان. وربما كان السؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق، هو : ما جدوى الحوار بين أتباع الأديان في الوقت الذي تشهد البشرية أحداثًا خطيرة تهدد الأمن والسلم الدوليين، وتسود فيه موجات تتصاعد باستمرار، من الكراهية والعنصرية والتعصب والتطرف والأصولية الدينية التي لا تستند إلى صحيح الدين. والواقع أن الجواب عن هذا السؤال بسيط ومقنع للغاية، ويختزل في أن الحوار الجاد والهادف، على مختلف المستويات، خصوصًا على المستوى الديني، هو السبيل إلى تعزيز التفاهم وترسيخ التعايش وتقوية الثقة والاحترام المتبادل بين الأمم والشعوب، ومن أجل إطفاء نيران الحروب والأزمات، وللتغلب على المشاكل العويصة التي تعاني منها الإنسانية اليوم. وفي مبادرة تحسب لها، وتخليدًا لهذه المناسبة، قامت حكومة جمهورية كازاخستان بتنظيم الاحتفالات الخاصة بهذه الذكرى في كل من الفاتيكان، والنمسا، والولايات المتحدةالأمريكية، والهند، وإيران، واليابان، وأذربيجان، وروسيا، وستختتم بالمؤتمر الدولي المقبل، سلسلة هذه الاحتفالات. وكان الهدف من هذا التحرك فيما يتبدى لي، هو تعميق دلالات الحوار بين القيادات الدينية، وتعزيز مفاهيم التسامح الديني، وتعبئة الأسرة الدولية في عمل إنساني عالمي، من أجل إزالة أسباب الصراع الذي يهدد استقرار المجتمعات الإنسانية، من خلال فتح المجال للقيم الدينية لتكون لها الغلبة والنفوذ على صانعي القرار في السياسة الدولية. والواقع أن كازاخستان تعدّ مثالا ً للبلدان المتعددة الأعراق والأديان واللغات والثقافات التي تنهج سياسة التكامل الحقيقي بين الأعراق، وتعتمد ما يصطلح عليه بالسياسة العرقية الوقائية الرامية إلى منع نشوب الصراعات بينها، من منطلق أن تكون حقوق جميع المواطنين، بغض النظر عن عرقهم أو انتمائهم الديني، محمية بموجب القانون، وأن تراقب سلطات الدولة وبشدة، المساواة في الحقوق، فضلا ً عن مراعاة احتياجات جميع المجموعات العرقية عند تحقيق الانسجام. وعلى الرغم من تاريخها القصير نسبياً كدولة ذات سيادة، تعرف كازاخستان على نطاق واسع في العالم باعتبارها مثالا ً مشرقًا وناجحًا للطريقة التي يعيش فيها العديد من الجماعات العرقية وتتعايش سلميًا في بلد واحد مساحته تقريبًا مليونا كيلومتر مربع، بينما تعداد سكانه لا يتجاوز خمسة عشر مليونًا. ويتمثل أحد أكبر الإنجازات التي حققتها جمهورية كازاخستان، على مدى أعوام ومنذ استقلالها، في إيجاد نموذج للسلم الأهلي والوفاق الوطني بين الأعراق والأجناس. وهذا في الواقع إنجاز مهمّ للحكومة والمجتمع الكازاخستانيين، وذلك باعتبار كازاخستان بلداً يعيش فيه ممثلون عن أكثر من مائة وثلاثين (130) جماعة عرقية لها معتقداتها ولغاتها وثقافاتها. ولقد تبيّن لي بعد زيارتين قمت بهما إلى كازاخستان، ومن خلال قراءاتي والاتصالات التي أجريتها مع النخب، أن إحدى الركائز الأساس لسياسة كازاخستان تتمثل في التوصل إلى الوئام بين الأعراق، وذلك باعتمادها على التقاليد الدينية والعرقية للأمة الكازاخية. وترتبط هذه التقاليد بشكل وثيق، بدرجة عالية من التسامح الديني واستعداد الشعب الكازاخي لتقبل ثقافات الشعوب المجاورة بدون أي نفور. وهذا هو الشرط الأساس لتطوير الحوار بين الأعراق، ليس فقط من خلال الاتصالات الحكومية الرسمية، وإنما أيضاً من خلال التواصل اليومي بين الناس. إن تجربة كازاخستان في إطار سياستها العرقية انعكست جزئياً في الممارسة نفسها في روسيا وغيرها من بلدان الاتحاد السوفييتي السابق. وأشير بالمناسبة إلى ما قاله الرئيس الكازاخستاني نورسلطان نزارباييف، في الدورة الرابعة عشرة لجمعية شعب كازاخستان (البرلمان) التي انعقدت في عام 2009 : « أنا واثق من أنه كلما ازدادت البلدان التي تتبع طريقتنا في إجراء الحوار الاجتماعي وترسيخ الوئام بين الأعراق، سيكون العالم أكثر أمناً. ويمكن تطبيق هذه التجربة في مجتمعات ما بعد الصراع في المنطقة الأوروآسيوية الرحبة». وإذا نظرنا إلى هذا الموضوع من زاوية ما يجري حاليًا في سوريا، وقبل ذلك في العراق وليبيا، نجد أن الرئيس نزارباييف قد أدرك برؤيته الثاقبة، أن قوة البلاد ليست في استحواذها على أسلحة الدمار الشامل، بل تكمن قوتها فى النفوذ الأخلاقي وفي تماسك النسيج الوطني. وفي ظل هذه الظروف أدت الإجراءات التي اتخذها الرئيس للتخلي الطوعي عن الأسلحة النووية، إلى منح كازاخستان وضع الدولة الخالية من الأسلحة النووية. كما أدت أيضًا تلك الإجراءات، إلى تعزيز وضوح الرؤية الدولية تجاه كازاخستان وليس إلى إضعافها. وبطبيعة الحال فإن نجاح تلك القرارات المصيرية يتطلب اتخاذ مثل هذا القرار الرائد الاستثنائي الحاسم الذي يرتكز على قدرة تحمل وذكاء رجل دولة محنك وحس زعيم واع استطاع أن يصل بالتدريج لحل مشكلة تحول كازاخستان إلى دولة خالية من الأسلحة النووية دون المساس بأمنها وأمن العالم. لقد سلك الرئيس الكازاخستاني نهج الزعيم الذي يحمل على عاتقه المسؤولية كاملة تجاه مصير بلاده، بل دعنا نقلْ مصير البشرية بأكملها. وتلك هي الخلفية المتعددة الأبعاد التي تقف وراء السياسة الجادة التي تنهجها كازاخستان في مجال تعزيز الحوار بين أتباع الأديان من أجل السلام في الأرض والتعايش بين الأمم والشعوب. وهي تجربة إنسانية رائدة بكل المقاييس. أما مبدأ التسامح الذي تأخذ به كازاخستان، فقد أصبح ليس فقط معيار الثقافة السياسية، بل من مبادئ الدولة الرئيسَة وقابلا ً للتطور الدائم. ولذلك فإنه ليس من قبيل المصادفة أن تصبح مدينة أستانة ميداناً لحوار الزعماء الروحانيين للمجتمع الدولي، وقد أثارت مبادرة الرئيس نورسلطان نزارباييف الخاصة بانعقاد مؤتمر زعماء الأديان العالمية والتقليدية في بلاده، اهتماماً كبيراً في المجتمع الدولي. وقد قدر لي أن ألمس جانبًا من هذا الاهتمام في مناسبتين اثنتين. لقد دعا الشعب الكازاخي بهذه المبادرة، شعوب العالم إلى الحفاظ على السلام والتعاون بين أتباع الأديان والتوافق والتفاهم فيما بينهم. وقد ناقش القادة الدينيون خلال الدورات الأربع لمؤتمرهم، طرق مكافحة الخطر المشترك، ودعموا الحوار المبني على التعاون والوحدة والثقة المتبادلة. وأعلن القادة الدينيون بأن الدين لا علاقة له بأعمال التعصب والتطرف والإرهاب والأشكال المختلفة من العنف. في سبتمبر من عام 2003عقد في أستانة أول مؤتمر لزعماء الأديان العالمية والتقليدية، وتم إنشاء الهيئة الدينية الدولية الدائمة التي يقع على عاتقها التنسيق وإجراء الحوار بين الثقافات والحضارات واتخاذ القرارات التي يتم الاتفاق عليها، وإصدار البيان الختامي والتوصيات. وفى المؤتمر الأول المنعقد في عام 2003، اشترك ممثلون عن 17 ديانة من مسلمين ومسيحيين ويهود وبوذيين وهندوس وغيرهم. ونالت كازاخستان اعترافاً دولياً من قبل المجتمع الدولي باعتبارها المثل الأعلى والقدوة الرائدة في السياسة الموجهة للحفاظ على توثيق الروابط بين الديانات والأعراق من أجل السلام. وقد تم في المؤتمر الأول تبادل الآراء حول دور الأديان في العالم المعاصر، وفي حل المشاكل المتعلقة بدراسة أسباب النزاعات الدينية وضرورة تحسين التوافق بين الأديان والاحترام المتبادل وتأثير ذلك على حياة الشعوب. وكانت من أولويات جدول أعمال المؤتمر الأول، تعزيز السلام والتوافق والتسامح باعتبارها من أهم المبادئ الإنسانية السامية، والتوافق حول الاحترام المتبادل بين أتباع الأديان والمنتمين إلى الأعراق المتعدد، ومواجهة محاولات المساس بالمشاعر الدينية للشعوب بهدف إشعال النزاعات والحروب بينها. أما عن التوصيات التي خرج بها المؤتمر الأول، فكانت تهدف إلى توثيق تقاليد الحوار بين أتباع الديانات في شكل مؤتمرات دينية، وإنشاء سكرتارية المؤتمر بمقر دائم فى جمهورية كازاخستان. أما المؤتمر الثاني، فقد انعقد بعد ثلاث سنوات فى سنة 2006، وشارك فيه 29 وفداً دينياً من كل أنحاء العالم، اجتمعوا في مبنى السلام والوفاق المخصص لاستقبال مثل هذه المؤتمرات الدولية الكبرى. وقد شارك في هذا المؤتمر عدد من الشخصيات الدينية والسياسية المرموقة من مختلف أنحاء العالم. وشارك في المؤتمر الثالث المنعقد سنة 2009 سبعة وسبعون وفدًا من 35 دولة. وعُقد المؤتمر الرابع عام 2012، الذي شاركتُ فيه كما أسلفت، والذي حضره 85 وفدًا من 40 دولة بما في ذلك عدد من ضيوف الشرف ومندوبون عن المنظمات الدولية مثل الأممالمتحدة ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبى ومنظمة اليونسكو ومنظمة الإيسيسكو وجامعة الدول العربية ورابطة العالم الإسلامي. وعقد المؤتمر في يومه الأول جلسة عامة بعنوان : «دور زعماء الديانات في بناء السلام القائم على التسامح والاحترام المتبادل والتعاون»، شاركتُ في المناقشات التي دارت فيها. وفي الجملة، فإن التجربة الكازاخستانية في تعزيز الحوار الجاد والهادف والمسؤول بين أتباع الأديان، تستحق التأمل فعلا ً، في عالم يضطرب بالصراعات والنزاعات والحروب الأهلية وتتنامى فيه النزعات الأصولية المنحرفة الضالة المتطرفة التي يسيء أصحابها إلى الدين ويستخدمونه لأغراض ليست بريئة. ومما يزيد من أهمية هذه التجربة الرائدة أنها جاءت من دولة حديثة عهد بالاستقلال، ومن قيادة قاست الأهوال في العهد الاستبدادي السوفياتي المنهار، ولكنها صممت على أن تعطي للعالم النموذج الأرقى للتسامح وللتعايش وللحوار بين أتباع الأديان من شتى الأعراق والأجناس.