كان الطرب ولا يزال أحد مظاهر حياة الشعوب الفنية ، فمنذ قديم العصور ملكت النغمة مسامع عشاق ألوان الطرب وغيرهم ، فهزت المشاعر ، وأمالت الرؤوس ، وأرقصت القدود ، يدل على ذلك الموروث الفني الهائل الكم ، الذي تزخر به الساحة الفنية من كل جهات المعمور ، وبكل اللغات واللهجات ، وبتنوع آلات العزف شكلا ونغمة ، وباعتماد النوتة في حركة الأوتار ، وما إلى ذلك مما يدخل في عناصر الطرب ومجالاته . وقد كان كل من الغناء والموسيقى ، وإلى الماضي القريب ، يقتصر على المناسبات ، والمجالس الخاصة لدى طبقات من المجتمع ، كي ترفه عن نفوسها وتلون ظروفها بلون من ألوان النغم ، فتبدد هموم انشغالاتها ، أو تملأ فراغا تعتقد أنه يلحقها دون سواها . أما الآن وبعد اختراع المذياع وما تبعه من مستجدات فقد صار الطرب يملك حصة من الحصص اليومية في الإعلام السمعي أولا ، ثم تلاها البصري مع ظهور السينما وشاشة التلفاز ، ولم تسلم منه حتى لقطات الإشهار السريعة الخاطفة بالنغمة والرقصة التي تحشر بين الفينة والأخرى في صميم الأحداث . ثم ظهرت مدارس ومعاهد ذات تخصصات في المجال الفني بكل ألوانه الغنائي والسينمائي والمسرحي ،وألحقت في كثير من الدول بمصالح رعاية الثقافة والفنون الجميلة،وأصبح كل ذلك يسابق مجالات الآداب والعلوم والاقتصاد إبداعا وتألقا . وها هي الأغنية التي كانت بالأمس تدور في فلكها الخاص بها،غدت دون خجل مطية لذِكر آهات كل الأجيال، وأنس الشعوب على السواء، وملاذ المتفائلين والمتشائمين، وقبلة الموهوبين والهواة والمحترفين ومن تستهويهم حياة المرح والطرب. من كل قطر نسمع ونرى فنونا تتأرجح بين الجيد والرديء ، المستحسن والمستهجن ، ومنافسات على قدم وساق لكسب الجمهور وجذب الانتباه بالكلمة والنغم والحركة ، حتى أصبح كل قطر له لونه الخاص سواء في اللحن أو الصوت أو الكلمة ، وأخذت دور الموسيقى تتسابق نحو الإنتاج والتسويق ، وتحديد تكلفته انطلاقا من شهرة مبدع في لحن أو صوت أو مكان . لقد تحول مجال الطرب والغناء من فرصة الاستمتاع والإمتاع كي تطرب النفس وتخرج عن المألوف ، إلى صناعة ، مثله في ذلك مثل باقي الصناعات التي تبحث عن مصادر الربح وتتجنب مواطن الخسارة ، بل وغدت مجال استثمار واستيراد وتصدير ، لها إدارة وخطة عمل ، وتعتمد على استقراءات شرائح من الجمهور . إلا أن تحوله هذا عن وجهته الأصلية ، حبا في الربح السريع ، جعل ألوانا منه سرعان ما تخبو بمجرد تكرارها ، بل منها ما أصبح عبئا على الأذن والعين معا . ورغم هذه الطفرة الهائلة في مجال الطرب ، وهذا الزخم من الألحان والأصوات ، فلن تؤثر في قمم من الفن الموسيقى والغنائي التي تظل خالدة مع الزمن ، لأصالة أصواتها ، وروعة ألحانها ، ونبل كلماتها ، وجمال شاعريتها ، ذلك أن هدف روادها إمتاع الروح أولا ، واستقطاب الجماهير المحبة للفن ، بعيدا عن الكسب السريع على حساب أذواق الناس وحسهم المرهف .