ألح الميثاق الوطني للتربية والتكوين في ثنايا دعاماته على الاهتمام بالقدرات الإبداعية لدى التلاميذ، وسار المخطط الاستعجالي على نهجه حين أنزل المشروع E2 P2 لتشجيع التميز باعتباره دعامة مهمة في تحسين مردودية منظومة التربية و التكوين، من خلال مجموعة من المؤشرات كتوفير مؤسسات مرجعية و ثانويات للتميز، وتحسين خدمات الإطعام بمراكز الأقسام التحضيرية وتأهيلها بشكل جيد، و تقديم جوائز تقديرية للتلاميذ المتفوقين، وحفز المؤسسات المتميزة. هذا كلام جميل و هذه نوايا طموحة، و يهمنا جداً أن يتحقق هذا المشروع في أفق السنوات القليلة القا دمة، لأنه لا تنمية شاملة و مستدامة بدون تميزوتفوق، ودون رغبة ملحاحة في تفتيق القدرات الإبداعية في الصفوف الدراسية. و لكن ما الإبداع؟ و هل المدرسة المغربية في سلوكها الحالي تشجع الإبداع؟ و كيف نضمن تحقيق طموحات المشروع E2 P2 سالف الذكر؟ الإبداع مجموعة من القدرات العقلية التي تميز الأشخاص المبدعين، و ثماره إنتاجات فكرية وابتكارات علمية تحمل سمة الجدة و التفرد، و تنطوي على قيمة مضافة بالنسبة إلى المبدع و المجتمع، و لا يكون الإنتاج إبداعيا إلا إذا تطلب إثارة كبيرة و حمل أصالة متميزة و استعدادا كبيرا، و عمل على حل المشكلات المستعصية في المجتمع. و يمكن القول: إن الإبداع ظاهرة تتوفر عند جميع الأفراد مهما كان تكوينهم، و مهما اختلفت ظروفهم الاجتماعية والنفسية والاقتصادية،أما القدرات الإبداعية فهي التي تميز بين الأفراد من خلال التعبير عنها، ومعنى هذا الكلام أن كل الأشخاص يتوفرون على ما يمكن أن نسميه بالنواة الإبداعية، لكن هذه النواة تذبل أو تشع بفعل ما تمارسه التربية علينا من تأثير معرفي ووجداني و نفسي، و بفعل ظروفنا الاجتماعية وأدوارنا في هذه الحياة. قد يطول بنا الحديث إن أردنا استعراض نظريات الإبداع التي تشمل نظرية الوحي و الإلهام و النظرية السيكولوجية والنظرية الاجتماعية و النظرية الحدسية و نظرية الاستيلاد، و حسبنا أن نثمن ونتبنى جهود النظرية العقلية التي تزعمها عالم النفس الأمريكي غيلفورد G.GUILFORD و التي ترى أن طبيعة التفكير الإبداعي محكومة بالقدرات الأولية في الإنتاج الإبداعي في مجال الفنون و العلوم، و هذا لا يعني أن مصدر كل الإبداعات البشرية في مختلف الميادين تمتح من معين واحد، لأن هناك فوارق كبيرة بين المبدعين رغم استناد الفعل الإبداعي إلى عوامل مشتركة،ومن أهم هذه القدرات الأولية ما أسماه غيلفورد G.GUILFORD بعوامل المحاكمة، وقد عرضها على التحليل العاملي و استفاض في دراستها، و أثبت منها الحساسية للمشكلات و الطلاقة و المرونة و الأصالة و التنظيم و التخييل...فهل عمل أساتذتنا على عبور جسور هذه القدرات الإبداعية للوصول إلى شواطئ الجودة في الجهود التعليمية والتعلمية؟ المدرسة المغربية - شأنها شأن كل مدارس العالم- لا تعلم الإبداع، لأننا حين ندخل أبناءنا في فضاءاتها لا نطلب من الأساتذة أن يخرجوا هذا مهندساً أو أستاذاً و ذاك شاعراً أو موسيقياً و تلك طبيبة أو محامية، فالقدرات الإبداعية كامنة بالقوة في حجر الفكر، و المؤثرات التربوية تخرجها من حيز القوة إلى حيز الفعل، بل إن هذه القدرات قد تم لها الإشراق و التفتق بضعف أو بقوة منذ وجود أقدم التجمعات البشرية، و قبل وجود المدرسة بملايين السنين، ولكن ظهور المدرسة و تطورها عبر التاريخ ،و رغبتنا الأكيدة في الوصول بجهودها الإصلاحية إلى أقصى مدى، أعطى للإبداع معنى رائعاً نجده في شحذ هذه القدرات وصقلها وفي تحسين الجودة و الارتقاء بها في منظومة التربية و التكوين للحصول على المبدعين العباقرة و النوابغ و الأفذاذ و الأذكياء، فلا خير في نظام تعليمي يجتاز فيه التلاميذ السنوات الدراسية و يقطعون المراحل التعليمية بجهود ضعيفة، و لا حاجة لنا بنسب نجاح عالية في مختلف المستويات و بتقديرات ضعيفة أو متوسطة، لأن متطلبات التنمية البشرية في جميع مجالاتها و قطاعاتها تتطلب من المدرسة المغربية تخريج ذوي الخبرات الكبيرة و الكفاءات الممتازة و المهارات الذهنية العليا في العلوم و الفنون و تدبير الأعمال و الخدمات. أما ذوو النتائج الضعيفة و المتوسطة فيمكن أن يجدوا ضالتهم الإبداعية في حجرات التكوين المهني التي ينبغي أن تكون جزءاً لا يتجزأ من المدرسة المغربية، و مرصودة بعناية فائقة بعيون نظامنا التعليمي،إذ لا يعقل أن نفصل التكوين المهني عن التعليم العام. و إنا إذ نبارك تنزيل الوزارة للمشروع الطموح E2 P2، ندعو إلى تمكينه من كل عوامل النجاح، و في مقدمتها إحداث المؤسسات المرجعية و ثانويات التفوق و التميز في كل جهات المملكة، ومراجعة المناهج التعليمية بإضفاء مسحة من الإبداع و الفن على المواد الدراسية مع اعتماد النصوص الخالدة للأدباء القمم في التراث العربي والغربي كما كان عليه الحال من قبل، و اعتبار مواد التفتح كالتربية البدنية و الفنية و التربية النسوية فضاءات للتعلمات الأساسية و ليس حصصا تكميلية،وربط المواد العلمية بالتكنولوجيا وعقلية الإنتاج والاختراع، و تشجيع التفوق و التميز لدى التلاميذ ، و حفز كل رجال التربية والتكوين الذين يكرسون جهودهم في تفتيق القدرات الإبداعية في المدرسة المغربية و المجتمع المغربي ماديا ومعنويا، و أخيراً و هذا هو الأهم: تشجيع البحث العلمي في الظاهرة الإبداعية علماً أن أنواع الإبداع تتوزع بين ثلاثة : الإبداع العلمي و من نتائجه المخترعات و المبتكرات والوصول بالتكنولوجيا إلى أبعد مداها، و الإبداع الفني و من نتائجه المؤلفات و المصنفات الأدبية و التحف الفنية، و إبداع ثالث يجمع بين العلم و الفن و قد نجد تجلياته في الروائع الخالدة التي ينتجها فن العمارة. [email protected]