نوع «أو وجه» آخر من الإعجاز القُرآني لعله آخر ما توجّهت إليه قرائح العلماء هو الإعجاز العددي أو الرقمي. وتبشر نتائج البحوث في هذا الإعجاز بمستقبل واعدٍ ويُتوقَّع أن يصبح هذا الإعجاز الأوسع انتشاراً وشهرة في القرن الحالي (23) «فعلم العدد هو علم الحقائق، والرياضيات هي اليوم لغة العلوم الكونية والاجتماعية، وهي أيضا لغة عالمية يفهمها كل البشر. كيف لا، والكون كله يقوم على أساسٍ من العدد؟! يقول تعالى: {وأحصى كل شيء عدداً) (24) . وفي هذا الكتاب مقتطفات تقيم البرهان على وجود الإعجاز الرياضي في القُرآن الكريم وصدر كتاب آخر في نفس هذا الميدان وهو «إشراقات الرقم سبعة في القرآن الكريم» للمهندس عبد الدائم الكحيل، وهو يقدم كشفا إعجازيا جديدا في كتاب الله تبارك وتعالى، ألا وهو النظام السباعي لحروف القرآن وكلماته وآياته وسوره. فقد استخرج المؤلف عدداً كبيراً من التّناسقات الرّقمية القائمة على الرّقم سبعة ومضاعفاته وفق منهج علمي وشرعي، وبما ينفي أيَّ احتمال للمصادفة في نتائج هذا البحث. وأثبت بلغة الأرقام وجود معجزة رقمية تدلّ على أنّ الله تعالى قد رتّب كتابه بطريقة لا يمكن لأحد أن يأتي بمثلها. وأنَّ النظام الرّقمي المحكم برهان مادّي على أنّ القرآن كتاب معجزات؛ إنّ التناسقات الرّقمية المذهلة في كتاب أنزل قبل أربعة عشر قرنا لا يمكن أن تكون من عند بشر لأنّها فوق طاقة البشر، وهي دليل رياضي على أنّ الذي أنزل القرآن هو ربّ السماوات السّبع سبحانه وتعالى (25) وهناك كتب أخرى لا نطيل بسرد عناوينها ومضامينها. * الإعجاز العلمي وتجديد علم الكلام: يقدم لنا الإعجاز العلمي منحى قويما في الاستدلال على ثبوت حقائق العقائد الإسلامية من خلال الإشارات العلمية القرآنية والسنّية. ومن هنا لا يبقى علم الكلام مجرد بحثٍ في الأعراض والأجسام والجواهر، وما شابهها من مصْطلحات معقّدة، بل يصبح معتمدا على البرهنة العلمية الدّقيقة بتقديم الشّواهد والأدلّة من الاكتشافات العلمية الحديثة ومطابقتها للآيات القرآنية والأحاديث النّبوية. فيكون الاستدلال على قضايا علم الكلام أو العقائد الإسلامية مُؤَسَّساً على حقائق العلوم الحديثة الثابتة في مختلف المجالات. فإنَّ الكون والقرآن من مصدر واحد. والكشوف العلمية عن الحقائق الثابتة في سنن الكون وطبائع المخلوقات من السّبل العظيمة لإقناع العقل بثبوت حقائق العقائد، بل من أهمِّ طرقِ إثراء المعرفة بِحِكَم الخلق، وعظمة جلال وكمال وجمال أسماءِ وصفاتِ الخالقِ سبحانه. وبهذا يمكن أن يخرج علم الكلام من التّحريم الذي حكم عليه به علماء كبار كابن الصّلاح، نظراً لكثرة ما يكتنفه من شبهات وتأويلات وتعقيدات، إلى بحبوحة البرهنة القرآنية السنية العلمية، على قضايا العقيدة، وذلك ما أشارت إليه عدّة آيات قرآنية كقوله سبحانه: «قُل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق» ، وقوله: «أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت، وإلى الأرض كيف سطحت» (27) وقوله: «قل انظروا ماذا في السماوات والأرض». وطريق الاستدلال بنتائج بحوث الإعجاز العلمي أقرب إلى أفهام عامة المسلمين من طريق المتكلمين. فإنَّ حجّتها حجّة القرآن والسنّة لا غير. والمسلم مطالب باتّباعهما وتلقيهما بالقبول. فالإعجاز العلمي يخدم منهج علم الكلام إذ يجدّده ويقوّمه . وقد ذكر السيوطي رحمه الله في كتابه «صون المنطوق الكلام عن المنطق والكلام» مآخذ فحول العلماء على علم الكلام. وكذلك فعل الهروي في كتابه «ذمّ الكلام». وإذا كان الهدف من هذا العلم كما قال مؤيّدوه الدّفاع عن العقيدة وردّ شبهات خصوم الإسلام، وتقوية الإيمان بالحجّة والبُرهان ، فإنّ الإعجاز العلمي في القرآن والسنّة يحقّق كل ذلك بنحو أفضل وأسلم لأنه يقتبس أدلّته من مشكاة القرآن والسنّة من حيث تصديق العلوم الحديثة لهما، بما يُفحم كل مجادِل، ويُقيم البُرهان على كل مخالف، ويزيد الذين آمنوا إيمانا، مع سلامة المعتقد ومجانبة زلل الكلام التجريدي. * مزج البحث العلمي بالدرس الديني: وختاما، جديرٌ بالمغاربة بما أوتوا من فكر أصيل أن يكون لهم إسهامهم العظيم في مجال بحوث الإعجاز العلمي في القرآن والسنّة ، وأن لا تظل المرجعية في هذا الباب مشرقية في الغالب. وأرى أن السبيل الأقوم إلى ذلك هو مزج البحث العلمي بالدرس الديني كما كان عليه الأمر في عصور حضارة الإسلام الزاهرة. فلا بد أن تهتم جامعاتنا المتخصصة في البحوث العلمية الدقيقة بالمزاوجة بين تدريس الحقائق العلمية الحديثة ونتائج بحوث الإعجاز العلمي من جهة وتدريس العقائد الإسلامية والحقائق الإيمانية من جهة أخرى، ليقف الطلبة على المطابقة الكاملة بين اكتشافات الإنسان العلمية والآيات القرآنية والأحاديث النبوية المتضمنة لإشارات الإعجاز العلمي، فيتمكنون، بعد ذلك، من الاجتهاد في هذا المجال بمزيد البحث عن تلك المطابقات بين نصوص الوحي وكشوف العلم. كما أن هذا هو السبيل الأقوم إلى تقوية الإيمان، وترشيد السلوك، لا لدى الطلاب والباحثين فقط، بل لدى جمهور المسلمين الذين يتلقون منهم نتائج البحث العلمي المُبرهِنة على ثبوت حقائق الإيمان، وضرورة سلوك سبيل الإحسان. إن مبدأ التكامل المعرفي وعدم الفصل بين العلوم في التصور الإسلامي هو الأساس الذي لا ينبغي التفريط فيه عند التخطيط التربوي بمستوياته المتعددة. وذلك ما ييسر الجمع في وعي الطالب والباحث بين الحقيقة العلمية ودلالتها الإيمانية. بحيث لا يفصل المنهج العلمي في مؤسساتنا التعليمية بين الجانبين. بل تُجرى دورات تدريبية لتكوين الأساتذة على الجمع بين الجانبين العلمي والإيماني أو الاستدلال بالعلم الحديث على حقائق الإيمان في كل خطوة من خطوات التعليم خاصة الجامعي منه حيث تقدم البحث في هذا الميدان كثيرا والحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. هوامش (٭) نص المحاضرة التي ألقى الكاتب في إحدى الأمسيات الرمضانية التي دأبت جمعية الإمام البخاري على إحيائها. 23) المقتطف من بيّنات الإعجاز العددي ذ. بسام نهاد جرّار، جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم الطبعة الأولى 1429 ه - 2008 م. 24) سورة الجن: 28. 25) صدر هذا الكتاب عن جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم كذلك. 26) سورة الرعد: 42. 27) سورة الغاشية: 20/18.