يتتبع الرأي العام الوطني باهتمام بالغ مجريات ملف الحسيمة الذي يتابع فيه عدد من المسؤولين المتهمين بتورطهم في جرائم الإخلال بالواجب العام والفساد. وتأتي أهمية هذا الملف الذي اعتبره المتتبعون زلزال الثلاثاء الاسود في كونه يشكل رسالة من جلالة الملك محمد السادس شخصيا لكل المسؤولين الذين لم يستوعبوا بعد اختيارات وتوجهات العهد الجديد الذي دشنه جلالة الملك محمد السادس ومتطلبات الانتقال الديمقراطي ومضامين المفهوم الجديد للسلطة الذي عرضه جلالته بمناسبة الخطاب السامي الذي وجهه إلى المسؤولين عن الجهات والولايات والعمالات والأقاليم من رجال الادارة وممثلي المواطنين يوم 12 اكتوبر 1999، أي مباشرة بعد اعتلاء جلالته عرش أسلافه الميامين ليجعل جلالته من المفهوم الجديد للسلطة دعامة أساسية للانتقال الديمقراطي عندما اعتبر جلالته هذا المفهوم الجديد للسلطة مبنيا على رعاية المصالح العمومية والشؤون المحلية والحريات الفردية والمحافظة على السلم الاجتماعي. ورأى جلالته في هذا التوجه الجديد مسؤولية جسيمة لايمكن النهوض بها داخل المكاتب الادارية التي يجب أن تكون مفتوحة في وجه المواطنين، بل إنها تتطلب احتكاكا مباشرا بهم وملامسة ميدانية لمشاكلهم في عين المكان واشراكهم في إيجاد الحلول المناسبة والملائمة. وفي نفس السياق اعتبر جلالة الملك أن مسؤولية السلطة في مختلف مجالاتها هي أن تقوم على حفظ الحريات وصيانة الحقوق وأداء الواجبات وإتاحة الظروف اللازمة لذلك على النحو الذي تقتضيه دولة الحق والقانون. إن هذا المفهوم الجديد للسلطة الذي أقره جلالة الملك لدعم الانتقال الديمقراطي جاء ليشكل خارطة طريق أمام المسؤولين الموكول إليهم أمر السهر على المصالح العمومية والقائمين على الشؤون المحلية لإعطاء السلطة أبعادها الحقوقية والاجتماعية والتنموية لما فيه تعزيز الحكامة الجيدة في تدبير الشأن العام والاستجابة لانتظارات المواطنين الذي يتطلعون لحلول ملموسة لمشاكلهم وقضاياهم الواقعية الأساسية وتجسيد ديمقراطية القرب والمشاركة بشكل يضمن توطيد الصرح الديمقراطي وترسيخ دولة الحق والقانون التي تعد صيانة حقوق الانسان كما هو متعارف عليها دوليا إحدى ركائزها الأساسية. تأتي الحملة التطهيرية الشاملة التي عرفتها مدينة الحسيمة لتفعيل مضامين المفهوم الجديد للسلطة بشكل يؤكد القطيعة مع الممارسات السابقة التي جعلت من السلطة وسيلة لتحقيق الأغراض الشخصية ولو على حساب التنمية ومصالح المواطنين وحقوقهم واستغلالها بشكل يضر بالواجب العام والشطط في استعمال النفوذ والتعسف في ممارسة السلطة إلى حد وجد أصحاب السلطة أنفسهم فوق القانون يفعلون «بسلطتهم» ما يشاؤون ويتصرفون فيها حسب مزاجهم وهواهم وما تمليه عليهم مصالحهم الذاتية دون مراعاة للقوانين الجاري بها العمل، بما فيها أحكام الدستور التي جعلت المواطنين سواسية أمام القانون كيفما كانت مسؤوليتهم. إن هذا الدرس الذي وجهه جلالة الملك من قلب الريف النابض لكل أصحاب السلطة الذين لم يواكبوا متطلبات الانتقال الديمقراطي يعطي للمفهوم الجديد للسلطة مدلوله الحقيقي بجعل مضامين هذا التوجه نبراسا لممارسة مهامهم والقيام بالأمانة الملقاة على عاتقهم والمسؤولية المنوطة بهم بعيدا عن سوء استعمال السلطة وتوظيفها في خدمة المصالح الضيقة واستغلالها بصورة غير مشروعة لمصادرة حقوق وحريات المواطنين الفردية منها والجماعية بشكل يساهم في سيادة ثقافة الفساد بكل أشكاله وما يترتب عن ذلك من نتائج خطيرة على الفرد والمجتمع والدولة. إن الطريقة التي تم بها تفعيل مضامين المفهوم الجديد للسلطة انطلاقا من مدينة الحسيمة تعتبر بحق ثورة ضد الفساد والانحراف والتسيب لتشكل بذلك الحسيمة نموذجا لإعمال دعامة أساسية من دعائم العهد الجديد حتى تكون عبرة للمدن المغربية الأخرى التي لازال القائمون على الشؤون المحلية فيها لم يستوعبوا بعد أنهم مطالبون بالاهتمام بمصالح المواطنين والعناية بشؤونهم والنهوض بالمسؤولية، يتحملون أعباءها الجسيمة بكل ما تستلزم من صدق وإخلاص ونزاهة واستقامة ومثابرة على مواصلة الإصلاح الذي يسعى جلالة الملك إلى تحقيقه من أجل تطوير الديمقراطية المحلية باعتبارها دعامة أساسية لتحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي المنشود والمواطنة الكريمة والمسؤولية المتوخاة كما جاء في الخطاب الملكي السالف الذكر. وهنا أستحضر مداخلة رئيس الفريق الاستقلالي للمشروعية والتعادلية الأستاذ عبد الخالق الطريس في جلسة أول مجلس نيابي يوم 20 فبراير 1964 أكد فيها: «أن الشمال قد يفلح في كل الصمود وأنه لم يأخذ نصيبه وحقوقه منذ فجر الاستقلال. ويلاحظ ميز كبير في معاملته في ميادين التعليم، الصحة، الأشغال العمومية، الوظيفة العمومية، العدل، وأن كثيرا من المسؤولين الذين حكموا الشمال لم يحسوا أن واجبهم هو السهر على مصالح الناس وخدمة تلك الأقاليم المتخلفة، وإنما كان همهم تتبع عورات الناس. فهذا الإقليم ينبغي أن يأخذ نصيبه وينبغي أن يرفق به وينبغي أن يعتنى به وينبغي على المسؤولين الذي يبعثون إلى ذلك الإقليم أن يراعوا الناس وأن يساهموا بمجهودهم وبفكرهم وتصرفاتهم على خلق جو من طمأنينة النفوس وعلى رفع مستوى الناس..