أقاوم رغبتي الجامحة في تناول فطور الصباح كما أفعل في سائر أيام الله، من غير رمضان طبعا، وأغادر البيت بخطى مثقلة كأنني أساق إلى حبل المشنقة. أتأسف على قهوة الصباح وكوب الماء البارد والهلالية وكسرة الخبز المحشوة بالمربى والجبن. أتحسس بطني بيدي فأفزع كالعادة من هذه الكرة الهائلة التي تسبقني وتثقل خطوي. طبل يقودني إلى حيث شاء. أتذكر حرقة المعدة التي تتفاقم كلما أكلت أو شربت شيئا، حتى الخبز والماء، فتنتابني بالرغم مني رغبة في القيء وأسأل نفسي لماذا هذا الشره في الأكل ولماذا الاستسلام لهذه العادات اليومية الضارة وأنا ضحية لكل هذا الوجع؟ أوصل الأبناء إلى مدارسهم وأسابق عقارب الساعة كي أصل باكرا إلى عيادة طبيب الجهاز الهضمي أملا في ألا يطول انتظاري هناك فأخلف موعدي مع الأبناء عند خروجهم من مدارسهم في منتصف النهار، ويطول أمد جوعي فينهد جسدي وتخور قواي. سبقني الطبيب الطيب إلى العيادة. هو أول طبيب أعرفه يواظب على عمله بهذا الحزم والصرامة. خلق كثير يملأ قاعة الانتظار، أو على الأصح، قاعتي الانتظار. لأن العيادة تتوفر على قاعتين للانتظار فعلا، الأولى للرجال والثانية للنساء. أخبر موظفة الاستقبال بقدومي وأتهالك على أول مقعد شاغر أصادفه. أنقل بصري المضطرب بين الحاضرين أبحث عن أحد أستطيع أن أتجاذب معه أطراف الحديث، أحد أعرفه ويعرفني. لم أعثر على ضالتي. أغلب هذه الوجوه تشي بأنها جاءت من القرى النائية أو القرى المجاورة لهذه المدينة. نكست بصري مهزوما واستسلمت للصمت والانتظار الممل. سألت نفسي لم تمرض أجهزة الناس الهضمية بكثرة هذه الأيام؟ وتذكرت قول هذا الطبيب وهو يحرر لي وصفة الدواء في آخر مرة زرته فيها: تمرض معدة شخصين اثنين: حار الطعام وحار الطباع. وشرح لي حينها بأن ما يؤثر على جهازنا الهضمي أكثر من أي شيء آخر هو نوع الطعام الذي نتناوله وشخصيتنا أو حياتنا النفسية. فأيقنت أنني جمعت بين الحسنين. فأنا شره سريع البلع قليل المضغ، أهيء اللقمة التالية وأنا لم أفرغ من سابقتها بعد، لا أنتقي أطعمتي بما يتناسب مع سني الذي جاوز الأربعين، ولا أتمتع ببرودة الأعصاب وهدوء الطباع. فجأة غمرني شعور غريب. خفق قلبي وكادت أنفاسي تحتبس في صدري. عينان زائغتان في مكان ما بهذه القاعة تحاصراني وتنخران بقسوة جسدي المتهالك. ببطء وحذر رفعت بصري أجيله بين الجالسين أبحث عن الجاني. لم يخذلني حدسي. لم يكذب شعوري. رجل خمسيني، يحمل كرشا أعتى من كرشي بكثير، يسترخي على كرسي أسود قبالتي تماما، يتسلى بالنظر إلي دون حشمة. احتقن وجهي وفارت أعصابي. واجهته بنظرة معاتبة، غاضبة، ظننتها كافية لصد الهجوم وإعادة الأمور إلى نصابها، لكن ظني خاب. الرجل متماد في نهشي بعينيه الصغيرتين الحادتين. ارتبكت أكثر وتفجر شلال عرق من جسمي المرتعش ولم أعرف كيف أتصرف. أحرجني الموقف، كنت كمن يجلس عاريا أمام أولئك الناس. أولئك المرضى المنهكين ومرافقيهم. أنكس بصري حزينا، أسلطه على حذائي المغبر. يتعب عنقي، أدير بصري يمينا ثم شمالا. أرفع رأسي عموديا نحو سقف القاعة. أعود إلى حذائي من جديد، أفك خيطيه وأربطهما من جديد. أزيل غبارا وهميا عن سترتي الرمادية، أمسد شعري بيدي، أحك رأسي، أقتنص بعض القشرة الكامنة في جذور الشعر. أتنحنح ما لا يحصى من المرات، أفعل أي شيء آخر أشغل به بالي لعلي أنسى هجوم العينين الحادتين الصغيرتين. لكن عندما أمد بصري أمامي أصطدم بالنظرة الحادة، وبعينين تغوصان في أسراري الدفينة وتتوغلان بخبث في قلاعي المتداعية. تدخل موظفة الاستقبال منادية من حان دوره، تشرئب نحوها الأعناق والأبصار بلهفة. يلتقط المرضى أجسامهم ويدلفون إلى قاعة الفحص حيث ينتظرهم الطبيب. يطول غيابهم أكثر من اللازم، أو هكذا يتوهم المنتظرون، ثم يخرجون بوصفات ومواعيد وملفات بيضاء في أيديهم. مرضى جدد يفدون على العيادة، يبحثون عن مقاعد شاغرة. يتأخر دوري ويتأخر دور هذا اللعين الجالس قبالتي. كم تمنيت لو سبقني وغادر مكانه دون رجعة. بدأ غضبي يتفاقم. رحت أبحث عن وسيلة أنهي بها مأزقي في أسرع وقت. هل أصرخ في وجهه أن حول بصرك بعيدا عني أيها الوقح؟ ماذا يكون موقف الناس مني وهو في عرفهم لم يفعل شيئا سوى النظر في وجهي العزيز؟ ليتني أنقض عليه بكل الحقد المتراكم في صدري، أحيط عنقه بيدي فأضغط عليه ملء جنوني وكراهيتي له. أضغط ثم أضغط وأتسلى بفرقعة عظامه وهي تتكسر بين أصابعي المرتعشة. أتلذذ بمشهد عينيه وهما تزيغان وتجحظان ثم وهما تنطفئان وتخمدان إلى الأبد... إلى الأبد، بلسانه وهو يتدلى فوق صدره مثل لسان كلب يلهث في عز الظهيرة. بحشرجته وهو يحتضر بين يدي. تدخل موظفة الاستقبال إلى قاعة الانتظار مرة أخرى. تنادي اسما لم تعثر له على مسمى. تدنو من الرجل الخمسيني، تقول له غاضبة حان دورك فانهض أرجوك. لم يجبها، ظل بصره مصوبا كالسهم نحوي. حركته فلم يتحرك. ارتابت وارتاب الحاضرون في أمره، وضعت يدها على وجهها وصاحت: مات الرجل، مات الرجل. وقفت مزهوا وصحت: أنا من قتله. خرجت منكسا رأسي وسلمت نفسي للشرطة.