تابعت قول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في قمة منظمة الفرنكوفونية دعوته لاستعادة مكانة اللغة الفرنسية، في ظل تراجع عدد مستخدميها، لا سيما لدى شعوب منطقة المغرب العربي. كيف تقرأون هذا التصريح؟ ما قاله الرئيس الفرنسي عن تراجع عدد مستعملي اللغة الفرنسية في المنطقة المغاربية، وخاصة في البلدان الأربعة (تونس، الجزائر، موريتانيا، المغرب)، مشكوك فيه. ورغم أننا لا نتوفر على إحصائيات ومعلومات دقيقة تتيح لنا المقارنة الصحيحة بين عدد مستعملي هذه اللغة بالبلدان المذكورة، في السنوات الأخيرة، وبين عدد مستعمليها في السنوات والعقود التي قبلها، إلا أن المنطق وواقع الحال لا يقولان بهذا التراجع، وإنما بعكس ذلك تماما. فلو أخذنا معطًى واحدًا وهو معطى النمو الديموغرافي، لوجدنا أن عدد سكان الدول المغاربية الأربع قد تضاعف ثلاث إلى أربع مرات ما بين 1956 و2022، وانتقل من حوالي 25 مليون نسمة إلى حوالي 100مليون. وإذا عرفنا إلى جانب ذلك أن نسبة التعليم قد ارتفعت بدرجة كبيرة، إثر محاولة تطبيق سياسة التعميم خلال العقود الماضية، ولو لم تتمّ بالشكل المطلوب والكامل، وأن اللغة الفرنسية ظلت دائمًا وإلى اليوم، لغةً أساسية ومهيمنة على التعليم المغاربي بكل مراحله، كما ظلت لغة أساسية في الإدارة والتجارة والاقتصاد وقطاع البنوك والخِدْمات، وفي وسائل الإعلام بكل أشكالها، فهذا يدل بحِسبة بسيطة جدا، أن الفرنسية قد توسَّع انتشارها ثلاثة أو أربعة أضعاف عما كانت عليه في بداية استقلال هذه البلدان. هذا بالإضافة إلى معطيات ومظاهر أخرى كثيرة لا يسمح ضيق المجال بذكرها، وكلها تدل بما لا يقبل الجدل، على أن تغلغل الفرنسية في المجتمع المغاربي تقدَّم بخطوات واسعة جدا عما كان عليه قبل الاستقلال وبعده بقليل، حتى تحوّل إلى اكتساح واجتياح جارفين، عكس ما قاله الرئيس الفرنسي الذي لا أجد له تفسيرًا مقبولاً سوى أن يكون محاولة جديدة لتشديد الضغط بقوة على المسؤولين عندنا من أجل جرّ المنطقة مرة أخرى إلى مزيد من الفرنسة والتغلغل الفرنكفوني. بل إلى «إعادة الغزو Reconquête»، وهي العبارة القوية والدالّة التي استعملها ماكرون في كلامه. ولا شك أن الساسة الفرنسيّين قد لاحظوا بقلق شديد ما حدث مؤخرًا في بعض الدول الإفريقية التي بدأت تعلن تمرّدها على اللغة الفرنسية، كليبيريا والغابون والكاميرون، وما يحدث من تململ للشارع الإفريقي في دول أخرى كمالي وتشاد وبوركينافاصو. هذا بالإضافة إلى تململ الشارع المغاربي الذي بدأنا نراه أيضا وقد أصبح يطالب بالانتقال من الفرنسية إلى الإنجليزية. ولذلك صاروا يرسمون خططًا جديدة لمحاولة مواجهة هذا الاحتمال، ويعيدون ممارسة ضغوط قوية على الدول المغاربية تخوّفًا من أن تتحول من الفرنسية إلى الإنجليزية، وهذا لو حدث لكان أكبر ضربة موجعة لهم. وقد كتبت في منشور سابق أنّي لا أستبعد أن يكون تراجع المغرب عن تعريب التعليم في الآونة الأخيرة قد تمَّ تحت ضغوط فرنسية قوية لا تطاق. وخلاصة القول: ليس هناك لحد اليوم تناقص أو تراجع في استعمال الفرنسية بالمغرب الكبير، لكن هناك تخوف قوي من أن يقع ذلك في المستقبل القريب، وأن تتحول المنطقة نحو الإنجليزية على غرار ما وقع في الدول التي ذكرناها، وذلك في ظل الاهتمام الكبير الذي أصبحت توليه مختلف شرائح المجتمع للإنجليزية، والإقبال الشديد على تعلّمها لأسباب كثيرة، منها أهمية الإنجليزية على الصعيد العالمي وما تتيحه لمتعلّمها من فرص أكبر في الشغل والبحث وبناء شراكات واسعة ومتنوعة مع العالم، ومنها تنامي شعور الامتعاض والاشمئزاز من مواقف فرنسا السياسية والاقتصادية المتلوِّنة وغير المستقرة والقائمة على مراعاة مصالحها الخاصة دون مراعاة مصالح الآخرين، ومنها استعمالها للغتها وثقافتها أداةً للضغط على شعوب ودول مستعمراتها القديمة للسيطرة عليها وابتزازها دون أن تسنفيد هذه الشعوب في تقدم بلدانها وتنميتها. ولعلكم تلاحظون أنه على الرغم من خضوع المغرب للضغوط الفرنسية في كثير من المجالات، فإن موقف فرنسا من قضية الصحراء ما تزال لحد اليوم ملتبسة وغير واضحة، لأنها تستعمل هذه الورقة لابتزاز كل من المغرب والجزائر.
ما الإشكال في رأيكم في تراجع الاهتمام والتواصل بالفرنسية في دول المغرب العربي؟ هل يتعلق بضعف اللغة في حد ذاتها أم بتراجع النفوذ الفرنسي في العالم؟ ليس هناك تراجع لحد الآن في استعمال الفرنسية مقابل العربية، لا في التعليم ولا في الإدارة ولا في الاقتصاد والإعلام ولا في المجتمع والحياة العامة، بل هناك عكس ذلك: تقدُّم واجتياح واكتساح كما قلت لك. كيف تتحدث عن التراجع وأنت ترى أننا ندخل مرحلة جديدة من الغزو اللغوي الفرنكفوني في ظل القانون الإطار للتعليم الذي ما يزال مدادُه لم يجفّ والجدل حوله ما زال قائمًا بقوة؟ وهو القانون الذي تمَّ بمقتضاه التراجع عن استعمال العربية في تدريس المواد العلمية بكل أسلاك التعليم بعد أربعين سنة من تعريبها، بالإضافة إلى زيادة حصص تعليم الفرنسية لغةً وثقافة، وبمقتضاه تمَّ أيضًا فرض الفرنسية لأول مرة في تاريخ المغرب، على صغارنا في التعليم الأوّلي منذ السنة الثالثة أو الرابعة من عمرهم، أي قبل أن يتمكّنوا حتى من لغتهم الأم. وهو ما لم يكن موجودًا من قبل؟ ما هي اللغة التي تمَّ فرضُ تراجعها واللغة التي تمَّ فرضُ سيطرتها وهيمنتها، إذن؟ وإذا كان هنالك من تراجع محتمل للفرنسية فهو تراجعها في مقابل الإنجليزية. وتخوّف الفرنسية من الإنجليزية تخوّف قديم صار اليوم يزداد بقوة. ذلك أن هناك وعيا متناميا عند الشعوب الإفريقية عامة والمغاربية على الخصوص، بأن الفرنسية فقدت أهميتها في المجال العلمي وعلى المستوى العالمي، وهناك إقبال على تعلّم الإنجليزية والتسلّح بها لدى المغاربة والأفارقة كلهم، وهذا ما أصبح يخيف فرنسا مما يمكن أن يؤول إليه الوضع مستقبلاً. أما حاليا فوضع الفرنسية لم يتزحزح قيد أنملة عما كان عليه من قبل، بل زاد قوة وانتشارًا. ولو كان لنا المجال الكافي لشرحنا ذلك بتفصيل.
وفي ارتباط بالموضوع ما رأيكم في الحملة الداعية إلى مقاطعة استخدام الفرنسية في التعليم وتعويضها بالإنجليزية؟ في نظركم هل هذا أمر صحي بالنسبة للتعليم في المغرب؟ سلبياته وإيجابياته؟ ما خلفياته؟ مبدئيّا، استعمال الإنجليزية لغةً ثانية في التعليم وغيره، لا اعتراض عليه. فإذا كنا نحتاج إلى إتقان لغة أجنبية ننتفع بها في كل المجالات، فلتكن الإنجليزية لمزاياها الواسعة المعروفة في الوقت الراهن. لكني لست مع الرأي الداعي إلى إحلال لغة أجنبية محل لغة أجنبية أخرى، إذا كان سيُعطَى لهذه اللغة الأجنبية الجديدة ما يعطى حاليًا للفرنسية من سيطرة وتسلُّط وهيمنة تامة على التعليم والإدارة والحياة العامة. ما الفائدة من إبدال لغة أجنبية بلغة أجنبية أخرى، ومن استبدال غزو لغوي بغزو لغوي آخر؟ في بعضٍ من دولنا العربية بالخليج تسيطر الإنجليزية سيطرة تامة أكثر من سيطرة الفرنسية في الدول المغاربية، حتى إن الزائر العربي فيها ليحتاج إلى مترجم وهو في بلد عربي. هذا النموذج الحي يجعلنا نتخوف ونقول: إذا كنا سنتخلص من الفرنسية لنقع في شرّ أكثر مما نحن فيه، فليس من المصلحة ما ينادي به البعض من إحلال الإنجليزية محل الفرنسية. وعوض أن نضيع أعمارنا في التمكين للغات الأجنبية في بلداننا من غير ضرورة تحتّم ذلك، علينا أن نفكّر في تنمية لغتنا، لغة أمتنا العربية والإسلامية الجامعة، ولسان حضارتنا ورمز هويتنا، والتمكين لها، والحرص على مكانتها وسيادتها، وجعلها لغةَ التدريس الأولى والأساسية قولاً وعملاً في كل مراحل التعليم بلا استثناء، لا تمويهًا وكذبًا. ولا بأس بعد ذلك أن تكون الإنجليزية لغةً أجنبية أولى أو ثانية، بل لا بأس من الاستفادة من طاقات اللغتين معًا الإنجليزية والفرنسية معًا ومن الإسبانية أيضًا. فنحن في حاجة إلى هذه اللغات الثلاث كلها لاعتبارات كثيرة.
هذا هو الخيار الصحيح الذي ينبغي أن نختاره بدون تردد، وهذه هي المعركة الحقيقية التي ينبغي أن تخوضها شعوبنا المغاربية والعربية أيضا في مسألة اللغة. وأنا كنتُ دائمًا أقول: إن الخيار الصحيح في مسألة التعامل مع اللغات الأجنبية، هو الانفتاح قدر الإمكان على كل اللغات أو على أقواها وأنفعها لنا، لكن مع التمسّك بمركز السيادة للغتنا لا تنافسها في ذلك أية لغة أجنبية مهما بلغ شأنُها.
كنتم من الأوائل الذين أشاروا إلى الترابط الوثيق بين الفرنسية كلغة ومنظومتها الثقافية، فهل مازالت النخبة المغربية متعلقة بالفرنكفونية أم أنها بدأت تعي بخطورتها؟ وما مظاهر ذلك؟
يمكن أن نقول مع شيء من التجوّز والإجمال، إن النخبة عندنا نخبتان: نخبة فرنكفونية الهوى والثقافة والتكوين، وهي منغمسة حتى النخاع، في هذا الانتماء الفكري والثقافي الذي تحوَّل مع الوقت إلى انتماء إيديولوجي ووجودي. ومصالح هذه الفئة مرتبطة بالمصالح الفرنسية ثقافيا وسياسيا واقتصاديا، ولذلك فهي لا تفكّر ولا ترى العالَم إلا من هذا المنظور، ولاسيما أنها هي المهيمِنة على مراكز القوة والمقرَّبة إلى مراكز القرار. والنخبة الأخرى، هي التي تلقَّت أغلب تكوينها بالعربية، أو بالعربية والفرنسية والإسبانية، وهذه الفئة صار وعيُها يتشكَّل ويتنامى شيئًا فشيئًا في هذا الاتجاه، وأصبحت تشعر أكثر مما مضى، على درجات متفاوتة من الوعي اللغوي، بخطورة الارتباط المتزايد بالفرنكفونية لغةً وثقافةً وتفكيرًا، والتقوقع عليه، والذّوبان فيه، وما يجرّه على البلاد من مخاطر اقتصادية وسياسية، وما يشكّله من تهديد لهويتنا ولغتنا واستقلالنا الثقافي.