العين القديمة هو عنوان المتن الروائي الجديد للروائي المغربي محمد الأشعري. يقع هذا المتن في مائتين وخمس وخمسين صفحة من القطع المتوسط، وقد صدر عن دار المتوسط في طبعته الأولى برسم سنة :2019 ، وسنحاول من خلال هذه القراءة الوقوف بين يدي بعض القضايا التي تثيرها الرواية من حيث المعنى والمبنى. وسنبدأ أولا بالمتن الحكائي مرورا بالفضاءين العام والخاص وحقل السمات وانتهاء بالبناء الروائي والتركيب. – في المتن الحكائي: تتناول رواية العين القديمة حكاية مسعود، وهو ستيني مغربي متزوج من فرنسية اسمها هيلين ، وله منها أبناء . وحسب الرواية فإن الرجل قضى أكثر من ثلاثين سنة في فرنسا، وبالرغم من الانتقالات التي شهدتها حياته ظلت هذه الأخيرة تشكل له مصدر قلق وتوجس واستهامات مرضية. فبعد عودة الرجل إلى المغرب للاستقرار وما سيرافق ذلك من تحولات نفسية واجتماعية وسياسية، ستتدهور وستضطرب حالته النفسية لتدخل بعد ذلك في متاهات قاتلة وسيناريوهات منشرعة على المجهول. إن الوضع النفسي الذي أصبح عليه مسعود لا يختلف عن مرض الشيزوفرينيا الذي ولد لديه رغبة كبيرة في القتل، قتل الآخر أو القرين الذي كثيرا ما يشاكسه ويجبره على الإيمان والاعتقاد ببعض الأوهام التي تنتجها ذات مسعود المريضة والمكبوتة والمنهزمة. وطوال كل أحداث الرواية، سيلاحظ القارئ كيف تمكنت هذه الوساوس- التي ظلت تطارده أينما حل وارتحل- من إعادة تشكيل شخصيته وتحويلها إلى أخرى مرضية وبطيئة ويائسة ومنهزمة تقتات من التذكر وتعبث بها الرغبات والكوابيس والهواجس. وتركيز الروائي المغربي محمد الأشعري على هذه الشخصية المريضة واقتفاء سرديا كل ما يصدر عنها من أفعال و أقوال يدفعنا إلى التأكيد على أن رواية العين القديمة من الروايات السيكولوجية التي من شأنها أن تحقق بصمة في مشهد الكتابة الروائية المغربية من حيث القيمة الفنية والتنويع الذي يميز هذا المتن السردي. وبهذا المعنى فهي – العين القديمة – لا تختلف من حيث القيمة عن بعض الروايات الإنسانية التي سارت في هذا الاتجاه، ونفكر هنا في رواية الحمامة للألماني بارتريك زوسكيند التي تنتقل بالقارئ إلى العوالم النفسية المريضة والمتناقضة ل”جوناتان نويل” بطل الرواية، وكذا رواية أغنية هادئة للروائية الفرنسية والمغربية الأصل ليلى السليماني التي تقرب القارئ من النفسية المريضة لخادمة فرنسية تدعى “لويز” تشتغل مربية أطفال لحساب عائلة “آل ماسي”. وفي حال عقد مقارنة بين لويز ومسعود بطلا الروايتين فإننا سنجدهما يختلفان من حيث الجنس ويلتقيان في المرض. ومهما كان الأمر فإننا لن نبالغ إلى أشرنا إلى أن القارئ للعين القديمة سيدرك القيمة التي تحظى بها هذه الرواية المتميزة التي ستعزز مكانة الرواية المغربية أمام نظيرتها العربية وتخلخل أفق انتظار متلقي هذا النوع الأدبي. – من الفضاء الخاص إلى الفضاء العام: تتعدد الموضوعات التي تخوض فيها العين القديمة ، وكما لا يخفى فإن هذا التعدد هو نتاج تعدد في القراءات، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار طبيعة ونوعية وطريقة هذه القراءات وكذا المرجعيات التي تعتمدها. ووفق هذا المنظور، فإننا سنتوقف عند فضاءين أساسيين يرتبطان بالرواية. والأمر هنا يتعلق ب: – الفضاء الخاص والفضاء العام. وقبل الخوض فيهما، نشير إلى أننا نتبنى وجهة نظر الفيلسوف الألماني يورغان هابرماس حول الفضاءين التي تقسمه إلى فضاء خاص مغلوق ويهم كل ما هو حميمي وفردي ، وفضاء عام مفتوح ويرتبط بالاتصال والتعايش. – أ – الفضاء الخاص: رأينا في قراءتنا للمتن الحكائي كيف أن الرواية تنحو منحى ذاتيا وهي تستعرض جانبا مهما من حياة مسعود في فرنسا والدار البيضاء، كما تعرض لعلاقاته مع الزوجة الفرنسية هيلين وكذا الأبناء والأصدقاء. وهي علاقة تخضع دوما للتجاذب والشك والتأويل نتيجة النفسية المهزوزة والمنكسرة لبطل الرواية. وبناء على هذا المعطى، تظل شخصية مسعود الحلقة المفقودة داخل هذه العلاقة وغيرها من العلاقات الأخرى. ب – الفضاء العام : إلى جانب رصد الملمح النفسي لبطل الرواية وتتبع محطات الفضاء الخاص من حياة مسعود سواء في فرنسا أو المغرب، فإن الرواية قد خاضت أيضا في الفضاء العام ، وهو بالمناسبة لا يقل شأنا من حيث القيمة عن الفضاء الخاص في ظل التداخل القائم بينهما. – إذن ماذا عن الفضاءين معا وماذا عن خلفيات هذا الاستدعاء؟ للاقتراب من هذا الأمر،نقرأ:”حتى عندما كان مشاركا فاترا في الحياة العامة إبان مرحلته الطلابية، فإنه لم يكن مصارعا ثوريا يلفت الانتباه باندفاعاته وتضحياته الباهرة”.ص11. وفي نفس السياق نقرأ أيضا:”وتأكد كل درب عمر أن بوشعيب أو”وحيد” لدى الخاصة، قد لقي حتفه في فندق لنكولن، أي في أحد أمكنة الماضي الذهبي للدار البيضاء، ضحية نزاع طويل بين الدولة التي صنفت الفندق تراثا وطنيا وذوي الأطماع الذين سلطوا عصابات على البناية لتهريب أحشائها كلها، وتخريب السقوف والجدران والأعمدة، حتى يبقى للتراث الوطني سوى ركام ضخم في الحجارة والأتربة”.ص:14. يبدو واضحا من خلال هاتين القرينتين السرديتين أن الرواية تستدعي الفضاء العام وتحتفي به على طريقتها الخاصة كما هو الحال عليه بالنسبة للفضاء الخاص.ففي القرينة الأولى يكتشف القارئ الوجه الآخر لمسعود أيام وزمن النضال في الجامعة، وهو وعي يكشف عن قناعته ومشاركته السياسية والنقابية التي تنتصر لليسار بالرغم من حضوره الرمزي الدال، بخلاف القرينة الثانية التي تكشف عن المخاطر التي باتت تتهدد الآثار من قبل سماسرة العقار والإسمنت الذي يسعون إلى محو الهوية المشتركة والجمعية المتمثلة في الفندق باعتباره تراثا وطنيا. ولن نبالع إن أشرنا إلى أن الفندق هو كناية عن باقي الفضاءات التراثية الأخرى التي تثير شهية هؤلاء السماسرة بعيدا عن كل ماهو جماعي أو مشترك. وغني عن البيان أن رواية محمد الأشعري تروم – من خلال توظيفها لهذا الفضاء – إثارة انتباه القارئ بكل أنواعه إلى أن التراث المغربي بما في ذلك البيضاوي ما زال محط تجاذبات بين فئة غيورة تسعى إلى الحفاظ على الذاكرة المشتركة وصونها وفئة أخرى لا تعير هذا المشترك أي اعتبار، مرجحة في ذلك مصالحها. وفي ظل هذا الوضع، لابد من تضافر وتوحيد جهود الجميع من مؤسسات وصية وجمعيات المجتمع المدني من أجل تحديد وحصر هذا التراث والعمل على تأمينه سواء كان ماديا أو غير مادي من أجل صونه وحفظه. وعلى العموم، فمن خلال تأمل الفضاءين معا ، سنلاحظ طبيعة التداخل القائم بين الفضاء الخاص والعام، وهو ما يعني أساسا أن الأشعري بقدر ما يستدعي في هذه الرواية الفضاء الخاص ( حالة مسعود الذي بحث عن نفسه ) ويحتفي به سرديا كما رأينا، فهو يستدعي بعض القضايا الأخرى التي تندرج ضمن الفضاء العام ، والأمر هنا يتعلق بقضايا نذكر منها ميألة فندق لنكولن، هدم المدينة القدينة، أحدث 1981… وغيرها من الأحداث التي تضمر مواقف سياسية نقدية تعتمد لغة واصفة بالمعنى الخطابي كما يتجلى ذلك من خلال بعض الوضعيات السردية. – حقل السمات : تحفل العين القديمة بكثير من السمات المتنوعة والمختلفة، وهكذا يمكن الحديث عن سمة الرغبة والتذكر والتشظي وغيرها من السمات الأخرى التي تميز هذه الرواية ، وتجعل منها كونا سرديا جميلا قائما بذاته ، إلى جانب ما يمكن أن يثيره من أسئلة نفسية ووجودية لدى القارئ. – إذن ماذا عن سمة الرغبة في هذه العين؟ – سمة الرغبة: من السمات التي تميز رواية العين القديمة سمة الرغبة.والرغبة باعتبارها معطى نفسيا تختلف حسب الوضعيات، لكن الأهم فيها هي رغبة القتل التي تكشف عن نفسية مسعود المريضة والميالة إلى العنف والقتل خاصة، وهذا أمر طبيعي سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار إقامة هذه الأخيرة – النفس – في العوالم الوهمية أكثر من المادية. وللاقتراب من هذه الرغبة الغير المتعقلة نقرأ:”أيقظته الرغبة في القتل.كان مستلقيا على ظهره في ظلام الغرفة، ولكن الشخص الذي أيقظته رغبة القتل كان واقفا”.ص:5، ونقرأ في سياق آخر:” كانت رغبة مسعود في القتل،كما ألحت عليه في جوف الليل، شبيهة برغبة جنسية حادة”.ص:19. يلاحظ هنا أن السارد يبرز حجم هذه الرغبة القوية من خلال وضعها في منزلة الرغبة الجنسية، ولا يخفى ما للرغبة الجنسية من سلطة على الجسد، فهي نادرا ما يتم كبح جماحها. والغريب أن مسعود يلبي هذه الرغبات مكتفيا فقط باللجوء إلى بعض السيناريوهات. يقول السارد عن هذه الحالة:” لايدخل مكتبه حتى يكون قد أشبع تلك الرغبة الملحاحة بعشرات السيناريوهات..” وعن تجليات هذه السيناريوهات نقرأ: مسعود ما زال مستلقيا على ظهره في ظلام الغرفة،ويستلذ بهذه الرغبة الجديدة التي لم يذق طعمها أبدا”.ص:5. وإذا كان مسعود قد تخلص من بعض رغباته البسيطة والعارضة ( السيناريوهات ) ، فإن لعنة الرغبة/ القتل ظلت تلازمه وتعكر صفو مزاجه طوال فصول الرواية. إن ما يصدر عن هذا الرجل من سلوكات مرضية تدفعنا إلى الحديث عن تشظي هذه الذات التي تحتاج إلى المزيد من التأمل بغية فهما ووضعها في سياقاتها النفسية والاجتماعية . – سمة التشظي: من خلال قراءتنا للصور السردية التي خصت بها رواية العين القديمة شخصية مسعود بطل الرواية ، فقد انتهينا مجازا إلى رصد الصورتين التاليتين : – الأولى: كلية/ تتمثل في ذات مريضة مسكونة و متثاقلة بالرغبات. يقول السارد في إشارة إلى مسعود:”لم يخطئ موعدا مع أية رغبة ممكنة أو مستحيلة”.ص:7. – الثانية: جزئية/ تكمن في الانفصال، انفصال الذات عن بعضها البعض. وفي حال تأمل واستقراء الصورتين معا، فإننا سننتهي إلى أن الصورة الأولى ( المرض ) هي المولدة للثانية ( الانفصال ) ، ومن دونها لن يتحقق أي انفصال.بمعنى آخر، فإن الأمر يتعلق من الناحية الدلالية بتشظ تعيشه وترتهن إليه ذات مسعود المريضة، وهو عمليا نفس التشظي الذي أدى إلى انفصال ذات البطل عن نفسها وجعل منها قرينا أو آخرا ( حسب الرواية ) يقف ضد رغباتها واستيهاماتها. – سمة التذكر: يلجأ السارد في سرد محكياته إلى أكثر من معين بما في ذلك التذكر. والتذكر في الرواية يستدعي الكثير من الأحداث التي طواها النسيان ويعرضها أمام القارئ كما هي وفي سياقات مختلفة. والطريف في الأمر هنا، أنه بالرغم من نفسية مسعودة المعطوبة والمنشطرة فإن ذاكرتها ما تزال تحافظ على حيويتها وتسعف على السرد كلما دعت الضرورة إلى ذلك. ولتمثيل هذا المعطى نقرأ: يتذكر مسعود أن جماعة المستحمين الذين كانوا يرتاحون من قيامة الحمام، ضحكوا جميعهم بطريقة، وجدها زائدة عن اللزوم، بل لا لزوم لها”.ص:9، وفي سياق آخر نقرأ:”تذكر مسعود وهو يستفيق سيئا أنه قضى يوما صعبا بالأمس”.ص:13. إن توظيف الذاكرة سرديا ينطوي على الكثير من الخلفيات الفنية، فهو ينشط السرد ويدفع به إلى الأمام كما يساهم في التنويع في الأحداث ويرحل بالقارئ إلى ماضي مسعود السيئ للغاية لأنه يرتبط ببعض المحطات التي تكشف عن مأساته سواء مع نفسه أو غيره من العباد بما في ذلك القرين. وبهذا المعنى، فالتذكر بقدر ما ينظر إليه باعتباره تقنية تساعد في توليد السرد ، فهو أيضا يزيد من تسليط الكثير من الإضاءات على الواقع النفسي والاجتماعي لمسعود الذاكرة. – في الكتابة الروائية: إن تركيز الروائي المغربي محمد الأشعري على رسم جانب من سيرة مسعود ورصد قلقها وهمها وحماقاتها وتقديمها للقارئ في قالب سردي ممتع يجعلنا نتساءل عن الآليات التي توسل بها الكاتب للانتقال بالقارئ إلى عوالم مسعود؟ وللاقتراب من هذه التقنيات نشير إلى أننا سنعرض لبعض العينات كما بدت لنا في الرواية. وهكذا، سنتوقف عند البناء الروائي و الحوار أو ما يسمى بالديالوغ بنوعيه. – البناء الروائي: يلاحظ أن الرواية السابقة لمحمد الأشعري ( ثلاث ليال ) قد جاءت مقسمة إلى ثلاثة فصول، الليلة الأولى: مومياء دار الباشا. / آخر اللقالق الليلة الثانية: توافق الأزمنة. / الطريق إلى الجنة الليلة الثالثة: الكرة الحديدية. /الحب على مشارف القيامة وبخلاف هذه الرواية، فقد جاءت العين القديمة مخالفة لهذا التقسيم، بحيث تعمد الكاتب السرد من دون تبويب أو تقسيم ، باستثناء التوظيف الكثيف لبعض العلامات (نجوم ). وإذا كانت استراتيجية السرد في ثلاث ليال قد اقتضت فنيا التقسيم السابق بالنظر إلى طبيعة الموضوع التي تنشغل به ( نافذة على المغرب )، فإن العين البعيدة قد اعتمدت الشكل السالف الذكر للتأكيد على المعاناة النفسية المزمنة لمسعود مع الواقع و المرض الذي لا ينتهي. وإذا أخذنا بعين الاعتبار تشظي ذات بطل الرواية ومتاهاته وغربته عن الذات والعالم والزمن.فإننا لن نبالغ إن أشرنا إلى أن مسعود هو المعادل الموضوعي لكل شخص عربي مهزوم وجريح لم ينل حظه من الطمأنينة والحرية ، فيما يرمز الآخر إلى الواقع بكل ما يحفل به من قساوة ومرارة. – الحوار أفقا سرديا: الحوار فعالية تواصلية تتم بين طرفين أو أكثر لغايات ما. إلى جانب هذا، فهو يقرب القارئ من عوالم شخصيات الرواية ومواقفها وأفكارها وسماتها. ووعيا منه بأهمية هذه الفعالية على المستوى السردي ،يلاحظ أن الروائي المغربي محمد الأشعري قد وظف الحوار في العين القديمة، والحوار هنا يتخذ الكثير من المظاهر والتجليات، وسنعرض لنوعين هما: – أ – المونولوغ: ( الحوار الداخلي): يقول مسعود متحدثا إلى نفسه:” أنا وجود بطيء في حياة الناس:”.ص:9، ويضيف:”يقول مسعود في نفسه محتدا، إنني لست خرابة، لست بناية سرقت أحشاؤها وحضرت على مهل للانهيار..”.ص:17. يلاحظ من خلال العينة السردية الأولى أن مسعود يعاتب نفسه ويتهمها بالبطء ، ولم يكن هذا يتحقق إلا من خلال عقده لمقارنة بينه وبين وجود الناس في حياة الآخرين. والقارئ للرواية يدرك جليا أن حجم هذه الاتهامات والشعور بعدم الرضى عن النفس يزداد تفاقما كلما انفصل مسعود عن ذاته واختلى بها بعيدا، وهو ما يعني دلاليا أنه غير راض عن نفسه وعن ما يصدر عنه لأنه لا يجلب له سوى التعاسة والسخرية. ومقابل هذا تكشف لنا القرينة الثانية عن موقفه من نفسه بحيث يعتبر ذاته كونا قائما ، ولذلك فوضعه في منزلة بناية على مشارف الانهيار هو إجحاف في حقه لأن جوهره أقوى. بالرغم من تباعد السياقين الذين وردا فيهما الشاهد الأول والثاني فإنهما يكشفان عن ضمير مسعود الذي يقوم بمراجعات ونقد ذاتي بعيدا عن الصورة المختلة التي ترسخت في ذهن القارئ. و كما لا يخفى فإن هذا الأمر يعكس قدرة مسعود العجيبة على القفز عن أكثر من حاجز. – ب – الديالوغ: ( الحوار الخارجي المباشر): وبموازاة مع هذا النوع من الحوار، تطالعنا الرواية بحوارات خارجية أخرى مختلفة ومتنوعة، وللوقوف عندها نتوقف قليلا عند الحوار الذي دار بين أسامة و منى بعد أن التقيا في قلب الدارالبيضاء وهي تهم بالبحث عن قفطان بلدي .نقرأ:”وفي أزقة المدينة تضطر منى إلى التشبت بذراع أسامة، لتجبره على تخفيف الإيقاع.نمشي هكذا، تقول منى، هكذا يرد أسامة، كأننا لا شغل لنا ولا مشغلة، نمشي فحسب، لأننا توحشنا المدينة، ونحب أن نفاجئها في غرفة النوم”.ص:242. ومع التوالي السردي لأحداث الرواية يطول الحوار ولا يظل منصبا على الحميمية، لينتقل إلى مجالات أخرى نذكر من بينها التحولات التي تعرفها الدار البيضاء وما يرافق ذلك من هدم وطمس لمعالم وبناء معالم أخرى. تقول منى:” في المدينة الهدم ليس قتلا، إنه فقط ضخ دم جديد..إذا كانت هناك أطراف مريضة، فإما أن تعالج أو تستأصل قبل أن تهلك ما حولها”.ص:245. هكذا يكشف لنا هذا الحوار عن الوعي المديني في الرواية كما يطرح نفسه عند أسامة ومنى، ومدى تعلق الإنسان البيضاوي بمدينته، وانقسامه ما بين مؤيد ومعارض حول ما يحدث في المدينة القديمة من أشغال وأوراش. ، وهكذا فالمدينة القديمة بالنسبة لمنى مدهشة ورائعة ولا بأس إن طالها التغيير، أما بالنسبة لأسامة فالعكس ،إذ يقول:”نحن نريد أن يتركوها لنا هكذا”.ص:244.على الرغم من محدودية هذه العينات الحوارية فإنها كفيلة لتقريب شخصيات العين القديمة من القارئ ، إلى جانب مواقفها من أسئلة الذات والوجود والمجتمع والعالم، إلى جانب قضايا أخرى. – تركيب: رواية العين القديمة من الروايات المغربية الجديدة التي تستدعي الإنسان وتحتفي به من داخل رؤيا إنسانية كاشفة الضوء على ما يعيشه هذا الأخير من قلق وجودي وانفصام يؤدي به في كثير من الأحيان إلى متاعب نفسية واجتماعية، وكما رأينا فإن حال مسعود الإنسان هو المعادل الموضوعي للشخصية العربية التي باتت تعيش غربة نتيجة تبدل القيم.كما لا تفوت الرواية الفرصة للبحث في وعي ولا وعي الإنسان، وكذا علاقاته بذاته وبمجتمعه وباقي المحيطات الأخرى التي تفهم من سياق الرواية. ولتحقيق هذا الرهان توسل الأشعري ببعض السمات من قبيل الرغبة و التشظي والتذكر، واعتماد تقنية الحوار بنوعيه، إلى جانب اجتراح شكل روائي جديد يعكس الإيقاع الجديد الذي بات يميز الحياة المعاصرة وما يرافقها من كبوات وأمراض.إن العين القديمة، عين روائية تحقق المتعة للقارئ بما تقترحه عليه من مادة سردية جديرة بالقراءة والتأمل، وهذا لا يمكنه أن يتحقق سرديا وجماليا إلا في هذه العين الراصدة لتفاصيل الذات والمجتمع. * محمد الأشعري، العين القديمة، رواية، دار المتوسط، ميلانو ،إيطاليا. الطبعة الأولى ، السنة :2019. والقارئ للرواية سيجد نفسه أمام تعدد للأ صوات ونماذج بشرية استدعاء الأسماء: – تركيب: قدمت العين القديمة نفسها باعتبارها رواية د. حسن اليملاحي – المغرب