تتيح الاستقلالية الوظيفية للموظف قدرا من الحرية في أداء العمل والتحكم فيه من حيث المكان والزمان والكيفية والنوعية. ولئن نظرنا إليها في ارتباط بجهاز التفتيش، فإنها تفيد القيام بمهام مراقبة المنظومة التربوية وتقييمها دون تبعية للمدبر ولا خضوع لسلطته الإدارية؛ بمعنى آخر انتساب هيئة التفتيش والتأطير والمراقبة والتقييم إلى المفتشية العامة. وهذا يقتضي إحداث مفتشيات عامة جهوية يشرف عليها مفتش نقيب ينتمي إلى الهيئة. ولإبراز أهمية الاستقلالية الوظيفية في تحقيق جودة الأداء على مختلف المستويات وجودة التعلمات، فإننا سنتحدث عنها في علاقتها بالمسؤولية والمحاسبة، وبالحكامة الجيدة، لكن قبل ذلك حري بنا الإشارة إلى بعض الأدبيات التربوية المتضمنة لها والدالة عليها في بعض النصوص والوثائق الرسمية. 1- الاستقلالية الوظيفية في بعض النصوص والوثائق الرسمية: في سنة 1999م تم تشكيل لجنة وطنية تتكون من 34 شخصية تمثل مختلف الهيئات السياسية والمدنية ورجال المقاولة والتعليم والإدارة والخبراء برئاسة مستشار الملك، المرحوم مزيان بلفقيه، بهدف وضع ميثاق وطني للتربية والتكوين. ولقد أعلن المغفور له الملك الحسن الثاني في أكتوبر 1999م من قبة البرلمان قبوله بنتائج اللجنة. ويعد الميثاق الوطني للتربية والتكوين أول وثيقة مكتوبة في مجال التعليم بعد حصول المغرب على الاستقلال، وأهم وثيقة للإصلاح التربوي في المغرب، حيث جاء ليساير المستجدات التي عرفتها بلادنا على المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والتربوي، وذلك بعد مجموعة من الأزمات التي عرفها قطاع التربية والتعليم. ولقد ربط الميثاق الوطني للتربية والتكوين التقويم الفعال بالاستقلالية الوظيفية لهيئة التفتيش، حيث تحدث في المادة 135 منه عن تنظيم عمل هذه الهيئة " بشكل مرن يضمن الاستقلالية الضرورية لممارسة التقويم الفعال والسريع، وإقرار أسلوب توزيع الأعمال والاختصاصات على أسس شفافة ومعايير واضحة ومعلنة". تلا ذلك ظهور الوثيقة الإطار لتنظيم التفتيش، التي أصدرتها وزارة التربية الوطنية والشباب بتاريخ 16 أبريل 2004، والتي ساهم في إعدادها أطر من الإدارة المركزية والأكاديميات والنيابات وممثلون عن الهيئات النقابية والجمعيات المهنية المعنية. ولقد اعتبرت هذه الوثيقة أن طبيعة مهام جهاز التفتيش تقتضي اعتماد الاستقلالية الوظيفية لهذا الجهاز، ارتباطا بالمبادئ الناظمة للتفتيش التي حصرتها فيما يلي: "أولا، استراتيجية الدور الذي يقوم به جهاز التفتيش في النظام التربوي؛ ثانيا، الاستقلالية الوظيفية النابعة من طبيعة مهام جهاز التفتيش، والمساعدة على إنجازها وفق مقتضيات تنظيم أعماله؛ ثالثا، الشمولية والوحدة والتكامل في الوظائف والأدوار والمواقع". بعد ذلك أصدرت الوزارة بتاريخ 21 شتنبر 2004 مذكرات ذات أرقام تسلسلية من 114 إلى 118 بشأن تنظيم التفتيش في مختلف المجالات: التعليم الابتدائي، والتعليم الثانوي، والتخطيط التربوي، والتوجيه التربوي، والمصالح المادية والمالية. ولقد قرنت هذه المذكرات جميعها الاستقلالية الوظيفية بالوحدة والشمولية والتكامل، وربطتها بمقتضيات لا مركزية ولا تمركز التدبير، إذ جاء في كل منها ما يلي: "استحضارا لمقتضيات لا مركزية ولا تمركز التدبير الإداري والتربوي، تمارس هيئة التفتيش [...] مهامها التخصصية الأساسية، كما تساهم من جانبها في نسج شبكات تنظيمية مندمجة ومرنة بين مختلف هيئات التفتيش، تراعي مقومات كل تخصص وكل مجال وتضمن تحقيق مبادئ الاستقلالية الوظيفية والوحدة والشمولية والتكامل"، إلا أنها لم تحدد هذه المبادئ التي أشارت إليها باللفظ لا غير. ولقد كان للمجلس الأعلى للتعليم رأي في موضوع تطوير مهنة ومهام التفتيش التربوي، وذلك من خلال مشروع أعده في شهر يوليوز 2009، يتوخى منه تحقيق جملة من الأهداف أهمها: "جعل الأدوار المناطة بالتفتيش التربوي أكثر انسجاما وملاءمة مع خيارات ومتطلبات الإصلاح التربوي وديناميته، ولا سيما بتمكينه من جهاز فعال للتقويم والافتحاص الداخلي متمتع بالاستقلالية اللازمة لأداء هذه المهمة على الوجه الأمثل، بشكل يهدف إلى الارتقاء المطرد بمحصلات عمليات التدريس والتعلم في مختلف المؤسسات التعليمية". وهذا يفيد أن المجلس الأعلى للتعليم لا يفصل فعالية التقويم والافتحاص عن الاستقلالية الوظيفية لجهاز التفتيش. إن الاستقلالية الوظيفية أحد المبادئ الأساسية التي يستند إليها مشروع تطوير مهنة ومهام التفتيش التربوي، ومن ثم تأتي الدعوة إلى اعتماد "الاستقلالية الوظيفية في المبادرات البيداغوجية والتقويمية على أساس التعاقد، وتخويل المسؤولية المبنية على المحاسبة" (المرجع: المشروع المذكور). ويرى المجلس الأعلى للتعليم أن اعتماد الاستقلالية الوظيفية يندرج في إطار تطوير مهام التفتيش التربوي، كما أنه من مستلزمات التقويم الموضوعي، إذ أكد على "ضرورة تدقيق مهام وكفايات التفتيش التربوي وتطويرها ضمن المرجعيات التشريعية والتنظيمية والبيداغوجية والتكوينية، مع ملاءمتها لمتطلبات التخصصات التعليمية، بما في ذلك التبريز والأقسام التحضيرية. وعلى هذا الأساس التمييز بين نوعين من المهام: * مهام المراقبة التربوية والتأطير والتكوين والبحث والاستشارة؛ * مهام الافتحاص البيداغوجي للمؤسسة التعليمية بواسطة فرق متعددة التخصص للتفتيش تتمتع، في الاضطلاع بهذه المهمة، بنوع من الاستقلالية الوظيفية التي تستلزمها مقتضيات التقويم الموضوعي" (المرجع نفسه). هكذا يقترح المجلس الأعلى للتعليم إدراج الافتحاص البيداغوجي "ضمن برنامج عمل سنوي أو متعدد السنوات لنشاط التفتيش التربوي على مستوى المناطق التربوية للجهات والأقاليم، وينجز بنوع من الاستقلالية الوظيفية اللازمة لممارسة التقويم الفعال والسريع والموضوعي، مستثمرا في ذلك تقارير التفتيش المنجزة من قبل مفتشي المناطق التربوية. وتتولى المفتشية العامة للتربية والتكوين تتبع سير أعمال الافتحاص البيداغوجي، ولا سيما من خلال مجالس التنسيق الجهوية والمجلس المركزي للتنسيق"(المرجع نفسه). من جانب آخر، أعدت المفتشية العامة للتربية والتكوين الدليل المهني للتفتيش في شهر دجنبر 2010، ربطت فيه الاستقلالية الوظيفية بالتطوير المتجدد لمختلف مكونات التأطیر التربوي، والارتقاء بأداء المنظومة والإسھام النوعي في تجوید منتوجھا، كما أكدت على أهمية "خلق دینامیة تأطیریة جدیدة، تتحمل فیھا هيئة التفتيش دور القیادة التربویة والتنسیق الفاعل بین مختلف المكونات والمجالات، أفقیا وعمودیا، سعیا إلى الرفع من تحسین طرق التعلیم وأسالیبه وتقویمھا، وتطویر جودة التعلمات ونجاعة المردودیة الداخلیة للمدرسة المغربیة، مما یستوجب تركیز عمل الھیئة على ما له صلة بالتقویم والتتبع الوظیفي والمنتظم لأداء المؤسسات التربویة، وتأطير الأطر العاملة بھا وتكوینھا، مع ما یتطلبه ذلك من ضرورة رسم خریطة واضحة للمسؤولیات حتى یكون جھاز التفتیش جھازا متمتعا بالقدر الملائم من الاستقلالیة لیقوم – في سیاق التطویر المتجدد لمختلف مكونات التأطیر التربوي -بالأدوار المنوطة به بفعالیة، وینخرط بقوة في صمیم العملیات الھادفة إلى الارتقاء بأداء المنظومة والإسھام النوعي في تجوید منتوجھا" (المرجع: الدليل المهني للتفتيش). ولقد دعت المفتشية العامة إلى "تمكین كل الفاعلین في مجال التأطیر والمراقبة والتفتیش والتوجیه من عدة وظیفیة ومنسجمة، تسھم في توضیح مھامھم وضبط مجالات تدخلھم، بناء على قواعد واضحة للمھننة والمرونة والاستقلالیة، والتقویم بناء على النتائج" (المرجع نفسه). 2- الاستقلالية الوظيفية وربط المسؤولية بالمحاسبة: ينص الدستور المغربي لسنة 2011 في فصله الأول على ربط المسؤولية بالمحاسبة، إذ ورد فيه ما يلي: "يقوم النظام الدستوري للمملكة على أساس فصل السلط، وتوازنها وتعاونها، والديمقراطية المواطنة والتشاركية، وعلى مبادئ الحكامة الجيدة، وربط المسؤولية بالمحاسبة". فأما المسؤولية فهي حال أو صفة مَنْ يُسْأَلُ عن أمر تقع عليه تبعَتُه. يقال: أنا بريء من مسؤولية هذا العمل. وتطلق أخلاقيا على التزام الشخص بما يصدر عنه قولا أو عملا. وتطلق قانونا على الالتزام بإصلاح الخطأ الواقع على الغير طبقا لقانون. وقيل: المسؤولية حالة يكون فيها الإنسان صالحا للمؤاخذة على أعماله وملزما بتبعاتها المختلفة. (المرجع: الموسوعة الحرة)؛ وأما المحاسبة، فإنها تحيل على تقديم الحساب، وهنا ينبغي التمييز بين نوع الحساب وطبيعته، إذ هناك الحساب الفردي من حيث كونه حصيلة الأنشطة الفردية أو حصيلة الإنجازات الفردية، والحساب المؤسسي الدوري الذي يمكن الحصول عليه من خلال المراقبة الداخلية للتدبير والتسيير، وتتحقق منه آليات التتبع والتدقيق الداخلي وتكشف عنه التقارير الدورية. وهناك الحساب السنوي الذي يجسده التقرير السنوي. ومن أجل تأمين مصداقية الحساب المقدم لا بد من التحقق منه من لدن جهاز رقابة مستقل، ولا بد للنتائج والمنجزات المقدمة من تقييم خارجي مستقل أيضا (المرجع: المجلة الدولية لنشر البحوث والدراسات، العدد 20، يونيو 2021 ). لذا فإن الاستقلالية الوظيفية لجهاز التفتيش بوزارة التربية الوطنية هي من الأهمية بمكان لتحقيق مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة على مستوى التدبير الإداري والمالي والتربوي إقليميا وجهويا ومركزيا. والحق إنه قبل عقد من الزمن كانت هناك مبادرة تسير في اتجاه إرساء شكل من أشكال الاستقلالية الوظيفية، إذ تمت صياغة أرضية بتاريخ 17 يناير2013 حول تنظيم التفتيش متفق عليها بين المكتب الوطني لنقابة مفتشي التعليم والمفتشية العامة للوزارة، وذلك بطلب وتوجيه من الوزير محمد الوفا رحمه الله خلال لقائه بالمكتب الوطني بتاريخ 23 نونبر 2011 من أجل اعتمادها إطارا عاما يؤطر عملية إصلاح منظومة التفتيش، علما أنها لم تتجاوز الحسم في الانتساب الإداري لهيئة التفتيش، بالإضافة إلى القبول بفكرة إحداث مفتشيات جهوية وإقليمية، وتوسيع اختصاصات جهاز التفتيش. واقترحت هذه الأرضية هيكلة جديدة لوزارة التربية الوطنية من قطبين أساسيين ومتكاملين هما: جهاز تدبيري، وجهاز رقابي. أما الجهاز التدبيري، فيضم الكاتب العام والمديريات المركزية والأكاديميات والنيابات، ويسهر على تنفيذ السياسة العامة للوزارة وتحقيق الحكامة وجودة التعليم، ويعمل على ضبط السير العام للمنظومة التربوية. وتم اقتراح أن ينتسب إليه 10c/o من المفتشين، نظرا لصعوبة قيام الجهاز التدبيري ببعض المهام ذات الطابع التخصصي، وذلك لمدة معينة، وفي إطار تعاقد واضح ومحدد. وأما الجهاز الرقابي، فيضم المفتشية العامة وهيئة التفتيش، وتكمن أدواره في المساهمة في التأطير والمساندة والدعم، والسهر على التتبع والتقويم والافتحاص والتفتيش، وتقديم الاستشارة واقتراحات التطوير والتحسين. وينتسب إليه 90c/o من المفتشين حيث يرتكز منطق التوزيع على أساس المناطق التربوية، لكن الوزارة تراجعت عن هذا المشروع المتفق عليه لأسباب لا تزال غامضة. ولقد كان بمقدور هذا المشروع أن يضبط إلى حد ما الانتساب الإداري لهيئة التفتيش، ويحقق الفعالية والموضوعية لمهام التفتيش والمراقبة والتقييم، ويفعل آليات المواكبة والتتبع المنتظم والمستمر للمنظومة التربوية. لذلك فإنه قد لا يتحقق إرساء مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة في ظل عمل هيئة التفتيش والتأطير والمراقبة والتقييم تحت الإشراف الإداري لمدير الأكاديمية أو للمدير الإقليمي، لا بل إن المادة 53 من النظام الأساسي المنتظر صدوره قريبا تنص على أن تقييم الأداء المهني لأطر هيئة التفتيش والتأطير والمراقبة والتقييم يتولاه مدير الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين المعنية والمدير الإقليمي التابع له المعني بالأمر، كل فيما يخصه وفق النصوص الجاري بها العمل. إن هذه المادة تسعى إلى تكريس تبعية جهاز التفتيش لجهاز التدبير بدل التأسيس لمبدأ الاستقلالية الوظيفية، الذي تحدثت عنه بعض الأدبيات التربوية المرتبطة بالتفتيش كما مر بنا أعلاه. وتقتضي علاقة التبعية الإدارية قيام المفتش بأداء المهام تحت إشراف المدير/المدبر الذي له صلاحية إصدار التكليفات والأوامر المتعلقة بالعمل، وترتيب الجزاء في حالة الإخلال به. ولتوضيح صعوبة تحري الموضوعية والدقة في عمل جهاز التفتيش في ظل وضعية التبعية هاته نشير إلى أنه من مهام أطر التفتيش وفق القرار الوزاري رقم 3521.17 الصادر بتاريخ 17 دجنبر 2019 بشأن تدقيق وتفصيل المهام المسندة لأطر التفتيش هناك المساهمة في تقييم أداء ومردودية مؤسسات التربية والتعليم، وتتبع تنفيذ المقتضيات التنظيمية المتعلقة بتنظيم السنة الدراسية لضمان وتأمين موسم دراسي منتظم. لا شك في أن للمدبر دورا في مستوى أداء المؤسسات التعليمية سواء أكان هذا المدبر محليا أم إقليميا أم جهويا، والشيء نفسه يقال عن تنفيذ المقتضيات المشار إليها، لكن السؤال المطروح: كيف يمكن لجهاز التفتيش القيام بهذا التقييم بشكل فعال وسريع وموضوعي وفق ما ورد في مشروع تطوير مهنة ومهام التفتيش التربوي الذي أعده المجلس الأعلى للتعليم، وأصدره في شهر يوليوز 2009، في ظل التبعية الوظيفية، علما أن التقييم بهذا الشكل مرتبط بمبدأ الاستقلالية الوظيفية. وجدير بالذكر أن الاستقلالية الوظيفية لجهاز التفتيش لا تعني مطلقا عدم خضوع أطر التفتيش لتقييم أدائها المهني، بل هذا يتعارض كليا مع المبدأ الدستوري المتعلق بربط المسؤولية بالمحاسبة، الذي هو ملزم لكل مسؤول أو مؤسسة. ولعل أي إخلال بهذا المبدأ يستدعي المساءلة طبقا للنصوص والتشريعات الجاري بها العمل. والمساءلة هي القدرة على تقديم الإجابات، واستحقاق اللوم، وتحمل المسؤولية، وتوقع تقديم الحساب (المرجع: الموسوعة الحرة)؛ أي أن المسؤول يتحمل تبعات ما قام به في حالة الإخلال بالواجب أو الإخفاق في تحقيق النتائج والأهداف المسطرة. ولقد قلنا سابقا إن الاستقلالية الوظيفية تقتضي، في البدء، انتساب هيئة التفتيش والتأطير والمراقبة والتقييم إلى المفتشية العامة إداريا، وذلك من خلال إحداث مفتشيات عامة جهوية يشرف عليها مفتش نقيب ينتمي إلى الهيئة. وتتولى هذه المفتشيات العامة الجهوية تقييم الأداء المهني لأطر التفتيش بدل المدير الإقليمي أو مدير الأكاديمية، لأنه لا يمكن الجمع بين جهاز التدبير وجهاز التفتيش في يد مسؤول واحد، بل سيكون هذا المسؤول هو الخصم والحكم في الوقت نفسه. ولقد كان أبو الطيب المتنبي بليغا حين قال: يا أَعدَلَ النّاسِ إلاّ في مُعامَلَتي /// فيكَ الخِصامُ وَأنتَ الخَصْمُ وَالحَكَمُ 3- الاستقلالية الوظيفية والحكامة الجيدة: استعمل مفهوم الحكامة لأول مرة من قبل البنك الدولي سنة 1989 وعرفها أنها "أسلوب ممارسة السلطة في تدبير الموارد الاقتصادية والاجتماعية للبلاد من أجل التنمية" (المرجع: مجلة مفكر للدراسات القانونية والسياسية، المجلد 4، العدد 3). وعرفتها الأممالمتحدة أنها "الأسلوب التشاركي للحكم ولتدبير الشؤون العامة الذي يرتكز على تعبئة الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين بهدف تحقيق العيش الكريم والمستدام لجميع المواطنين (المرجع نفسه). هكذا فالحكامة هي أولا وقبل كل شيء تعبير عن ممارسة السلطة السياسية وإدارتها لشؤون المجتمع وموارده. وهي مفهوم تبناه المنتظم الدولي لتجاوز حالة الخلل القائم في نماذج التنمية التي لا يجد فيها المجتمع الفرصة المناسبة للتعبير عن رأيه ومواقفه وحمولته الثقافية في المشاريع التنموية التي تهدف إلى تحسين مستواه المعيشي. إنها دعوة صريحة إلى تجاوز حالة اللاتوازن الناتج عن أحادية صنع القرار دون مراعاة المنطق العلمي المؤسس على عناصر المشاركة في مختلف مراحل إعداد المشروع من التشخيص الى البرمجة والتنفيذ، ثم التقييم والمحاسبة في إطار سيرورة تمتاز بالشفافية والعقلانية. وشروط الحكامة الجيدة حسب برنامج الأممالمتحدة الإنمائي تتمثل في: أولا المشاركة، وهي حق المواطنين في الترشيح والتصويت وإبداء الرأي ديموقراطيا في البرامج والسياسات والقرارات. ثانيا حكم القانون؛ أي أن القانون هو المرجعية وله سيادة على الجميع دون استثناء، إلى جانب فصل السلط واستقلالية القضاء ووضوح القوانين وشفافيتها وانسجامها في التطبيق. ثالثا الشفافية؛ تعني توفر المعلومات الدقيقة في وقتها وإفساح المجال أمام الجميع للاطلاع على المعلومات الضرورية مما يساعد في اتخاد القرارات الصالحة، وكذلك من أجل توسيع دائرة المشاركة والرقابة والمحاسبة قصد التخفيف من الهدر ومحاصرة الفساد. رابعا حسن الاستجابة؛ يعني قدرة المؤسسات والآليات على خدمة الجميع دون استثناء. خامسا التوافق، وهو القدرة على التحكيم بين المصالح المتضاربة من أجل الوصول إلى إجماع واسع حول المصلحة العامة. سادسا المحاسبة؛ أي محاسبة المسؤولين عن ادارتهم للموارد العامة وخصوصا تطبيق فصل الخاص عن العام. سابعا الرؤية الاستراتيجية؛ أي الرؤية المنطلقة من المعطيات الثقافية والاجتماعية الهادفة إلى تحسين شؤون الناس، وتنمية المجتمع والقدرات البشرية. إن الحكامة الجيدة، باختصار شديد، هي الحكم القائم على المشاركة والمساءلة ودعم سيادة القانون، كما يعرفها البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة. ومن مبادئها حسب الدستور المغربي 2011 المحاسبة، إذ ينص الفصل 154 على خضوع المرافق العمومية للمراقبة والمحاسبة كما يلي: "تخضع المرافق العمومية لمعايير الجودة والشفافية والمحاسبة والمسؤولية، وتخضع في تسييرها للمبادئ والقيم الديموقراطية التي أقرها الدستور". ولقد أناط الدستور ببعض الهيئات مهمة ترسيخ مبادئ الحكامة الجيدة، كل هيئة حسب مجال اختصاصها واهتمامها، كما ترك الباب مفتوحا لإمكانية إحداث هيئات أخرى تتولى المهمة نفسها، حيث جاء في الفصل 159 ما يلي: "تكون الهيئات المكلفة بالحكامة الجيدة مستقلة؛ وتستفيد من دعم أجهزة الدولة؛ ويمكن للقانون أن يحدث عند الضرورة، علاوة على المؤسسات والهيئات المذكورة بعده، هيئات أخرى للضبط والحكامة الجيدة". ومن هذا المنطلق، يمكن لجهاز التفتيش أن يساهم في تحقيق الحكامة الجيدة وترسيخها على مستوى تسيير وتدبير شؤون منظومة التربية والتكوين، وذلك من خلال توسيع اختصاصاته لتطال تأطير وتقييم البنيات الإدارية والمراكز والمؤسسات التعليمية، وعدم الاقتصار على تأطير وتقييم الأطر فقط. ولئن اشترط الدستور أن تكون الهيئات المكلفة بالحكامة الجيدة مستقلة، فلا بد أن يتوافر شرط الاستقلالية الوظيفية لجهاز التفتيش حتى يتسنى له القيام بالمهام المرتبطة بالحكامة الجيدة، ولا سيما الحرص على سيادة القانون وتطبيق التشريعات والنصوص الجاري بها العمل في مختلف الإدارات والمؤسسات المنتمية لقطاع التربية الوطنية، وتكريس البعد التشاركي والشفافية في تسييرها، وتوسيع دائرة الرقابة والمحاسبة للتخفيف من الهدر بمختلف أنواعه، وغير ذلك. ولقد أكد المجلس الأعلى للتعليم سنة 2009 أن " تطوير مهنة ومهام التفتيش التربوي يعد مكونا فاعلا في ورش إنجاح المدرسة المغربية ورافعة أساسية للارتقاء بجودة عمل المدرسين والفاعلين التربويين، ولا سيما في النفس الجديد للإصلاح التربوي" (المرجع: مشروع تطوير مهنة ومهام التفتيش التربوي). وتحظى هيئة التفتيش بموقع استراتيجي في منظومة التربية والتكوين حسب المفتشية العامة، ومن ثم تأتي "ضرورة صیاغة وثیقة تعرض بدقة مختلف الأبعاد المھنیة والوظیفیة لھیئة التفتیش، اعتبارا لموقعھا الاستراتیجي في منظومة التربیة والتكوین من جھة، واستحضارا لكونھا حلقة مركزیة في تطویر الوظائف الأساسیة للمدرسة المغربیة وتفعیل مقتضیات إصلاح المنظومة من جھة أخرى" (المرجع: الدليل المهني للتفتيش، دجنبر 2010). ولعل أهم مدخل لتطوير مهام جهاز التفتيش هو الاستقلالية الوظيفية التي تكررت مرات عديدة في الأدبيات التربوية المتعلقة بالتفتيش كما مر بنا سابقا. – خاتمة: إن إرساء الاستقلالية الوظيفية لجهاز التفتيش ليس هدفا في حد ذاته، وإنما هو خطوة في اتجاه تمكين هيئة التفتيش من الاضطلاع بمهامها وأدوارها بشكل موضوعي ودقيق وفعال، ليتسنى لها المساهمة في تحقيق الجودة؛ أي الكفاءة و الفعالية في الأداء، وبذل الجهود و استثمار الطاقات المختلفة لكل الموارد البشرية بشكل تشاركي لتحقيق النتائج وبلوغ الأهداف المسطرة. ولقد نادى الميثاق الوطني للتربية والتكوين بالجودة منذ ما يزيد عن عقدين، وما تزال المشاريع والبرامج الإصلاحية التي جاءت بعده تنادي بذلك، غير أن منظومة التربية والتعليم ببلادنا تعاني غياب الجودة على المستويات جميعها، وقد لا أبالغ إن قلت إنها تعاني غياب المعنى.