لم يهدأ بعد الجدل السياسي والقانوني والحقوقي الذي أثاره قرار فرنسا بترحيل إمام مغربي حتى انخرط وزير الداخلية الفرنسي في إعداد لائحة تضم عشرات الأئمة مرشحين للترحيل أيضا، مما يطرح أسئلة حول الخلفية السياسية الحقيقية لهذا "المشروع" الجديد، ويثير الشكوك حول مصداقية التهم التي وجهت للإمام المغربي. والمثير للاستغراب في هذا "المشروع السياسي" الجديد هو أنه جاء شهورا فقط عن الانتخابات الأخيرة، والتي نشط فيها هؤلاء الأئمة كداعمين لعودة ماكرون لسدة الحكم، ومعارضة اليمين المتطرف، مما يطرح أسئلة حقيقية حول ما إذا كانت الحكومة الفرنسية تواصل سياستها ضد الوجود الإسلامي على الأراضي الفرنسية، واستكمال ما انخرط فيه ماكرون سابقا من إجراءات اعتبرتها الجالية المسلمة تستهدف وجودها وحريتها في فرنسا. وزير الداخلية يعد قائمة المرشحين للترحيل بعد اتهامه بالفشل في إتمام عملية ترحيل الإمام حسن إيكويسن، الذي حول بين عشية وضحاها إلى "عدو للجمهورية"، حسب الجزيرة نت، يعمل وزير الداخلية الفرنسي على إعداد قائمة برجال دين مسلمين آخرين لإبعادهم، وفقا لموقع ميديا بارت Mediapart الفرنسي. وفي هذا الإطار، حسب نفس المصدر، يقول الموقع إنه اطلع على ما يظهر أن جيرالد دارمانان حدد العديد من الأئمة الذين سيسعى لاستبعادهم، بما في ذلك الرئيس السابق لاتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا، الحليف التاريخي لوزارة الداخلية، حسب ميديابارت. فعلى من سيكون الدور القادم؟ تتساءل ليو سيراه في تحقيقها الذي أعدته للموقع، مبرزة ما كشفه دارمانان في ظهور إعلامي يوم الجمعة (2 سبتمبر الجاري) من أن وزارته تعمل بالفعل على صياغة "قائمة" تشمل "أقل من 100 شخص"، تضم دعاة ورؤساء جمعيات، قد يعانون مصير إيكويسن نفسه، حسب قول الوزير. ولفتت سيراه إلى أن دارمانان رحب بحكم مجلس الدولة الذي جعل من الممكن طلب طرد شخص حتى لو كان مولودا في فرنسا ومتزوجا فيها ولديه أطفال، مما يفتح الباب، حسب الوزير، للبت في قضايا مماثلة، وأوضح الوزير أن "734 أجنبيا متطرفا" تم طردهم منذ انتخاب الرئيس إيمانويل ماكرون، بينهم "72 في الأشهر السبعة الماضية". غير أن محامية إيكويسن، مي لوسي سيمون، استنكرت "المطاردة" التي تخدم فقط "سياسة عرض العضلات" لجيرالد دارمانان، معتبرة أن ما يقوم به هذا الوزير يدخل في خانة التمثيل، خصوصا أنه يحرص على أن تكون المداهمات أمام الكاميرات، إذ يريد أن تنتشر صور رجال الدين المستهدفين وهم مكبلو الأيدي مباشرة على القنوات الإخبارية، وهو ما لم ينجح في تحقيقه حتى الآن، وفقا للمحامية. "إلى أي مدى سيذهب جيرالد دارمانان؟ يبدو أن حملة الوزير بدأت تطال حتى اتحاد المنظمات الإسلامية المعروف بتأييده لماكرون ومطالبته بالتصويت له في الانتخابات، فضلا عن كونه الحليف التاريخي للحكومة الفرنسية. فوفقا لمعلومات يقول ميديا بارت إنه اطلع عليها، يبدو أن الوزير يتوجه لاستهداف أحمد جاب الله الرئيس السابق لهذا التنظيم الإسلامي والذي يعيش على الأراضي الفرنسية منذ الثمانينيات، وينتظر منذ 20 سبتمبر/أيلول 2019 تجديد إقامته. فمنذ 3 سنوات والسلطات الفرنسية تتلكأ في تمديد إقامته وتكتفي بإعطائه 3 أشهر، ليفتح ذلك المجال أمام طرده متى ما قررت وزارة الداخلية ذلك. فكم عدد المستهدفين بهذه الإجراءات؟ يتساءل ميديا بارت، قبل أن يرد بأنه من المستحيل تحديد عدد معين فهناك طيف من "أعداء الجمهورية"، الذين تربطهم بما تسميه "النظام البيئي الإسلامي"، الواسع النطاق. وقبل أن تختم تحقيقها تساءلت سيراه "إلى أي مدى سيذهب جيرالد دارمانان؟ لترد بأن ثمة مخاوف في الأوساط الإسلامية من أن يقدم دارمانان على حل تجمع مسلمي فرنسا، وهو مطلب قديم لحزب لتجمع الوطني المتطرف (RN). ماكرون يعيد "أخطاءه" الأولى مع الجالية المسلمة قبل الدور الأول من الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة، بدأت الجالية الإسلامية في فرنسا الحشد للتصويت لصالح جون لوك ميلانشون، مرشح اليسار الراديكالي، فالرجل وإن كان له موقف سابق مُعادٍ لأحد مظاهر الإسلام وهو الحجاب، حيث تعجَّب من أن "الله" مهتم به لهذه الدرجة، إلا أن برنامجه الانتخابي كان الوحيد الذي لا يستهدف المسلمين، بل يدافع عنهم ضد ماكرون واليمين المتطرف. وفي الدور الأول من تلك الانتخابات كان اختيار جون لوك ميلانشون من طرف 85% من المصوتين المسلمين عاديا ومتوقعا، فالجالية الإسلامية في فرنسا لا تبحث عن مرشح يدافع عنها، بل هي قنوعة بمرشح يعاملها بعدل ليس إلا، ولا يُفرِّق بين المسلم وغير المسلم في الحقوق والواجبات. بيد أن رغبات الجالية الإسلامية ضاعت بعد أن فشل ميلانشون في الوصول إلى الدور الثاني إثر تخلُّفه بنسبة ضئيلة عن مارين لوبان، زعيمة التجمع الوطني اليميني التي فازت ببطاقة الدور الثاني رفقة إيمانويل ماكرون. وقد عادت هذه النتيجة بعجلة الزمن إلى سنة 2017، حيث بات الخيار الوحيد أمام المسلمين هو إيمانويل ماكرون، رغم أنهم أدركوا أن الاختيار لم يكن سهلا هذه المرة، فقد تغيَّر الرئيس الفرنسي في السنوات الخمس الماضية، وأظهر ميولا يمينية مضادة للمسلمين. في سنة 2017 قدَّم ماكرون نفسه بوصفه مرشح صوت العقل أمام التيارات الفاشية، وأتت مشاركته في حكومة هولاند الاشتراكية لتُظهِره بمظهر اليساري الذي توقَّع الجميع أن تكون مشكلاته أقل مع الجالية الإسلامية، لكن ما حدث في الأخير هو عكس المنتظر حينئذ، فلم يُضيّع ماكرون الوقت، وسرعان ما بدأ العمل بسرعة على خطة تركز وتراقب الأقلية المسلمة عبر التضييق على فعاليات المجتمع المدني الإسلامي؛ ما جعل عمل هذه الجمعيات (وتحتها عدد من المساجد) شبه مستحيل. وانطلقت في عهد الولاية الأولى لماكرون حملة إغلاق كبرى للمراكز الإسلامية والمساجد في شتى الجهات، وتشير أحدث الأرقام إلى وجود أكثر من 718 مسجدا ومركزا إسلاميا ومدرسة مستقلة تم الإجهاز عليها بعد أن فُتِحت تحقيقات تستهدف 24 ألف مؤسسة إسلامية، فيما بلغ حجم الأموال التي وضعت السلطات الفرنسية يدها عليها حوالي 50 مليون دولار، ونحن نتحدث هنا عن جالية تعيش أعلى معدلات الفقر والعوز الاقتصادي في البلاد، وتجد صعوبة كبيرة في الإبقاء على مشاريعها قائمة في ظل العجز المالي الكبير. ومن ثَم ضاعت وعود ماكرون بالعمل على خلق مجتمع أكثر انفتاحا وسط الحسابات السياسية. واليوم أيضا يبدو أن ماكرون لم يضيع الوقت أيضا، ويكافئ الجالية المسلمة التي أنقدته من خسارة محتملة أمام لوبن، بمواصلة حملة التضييق عليها، ما يجعل عمليات الترحيل التي يرجح أن ينخرط فيها وزير الداخلية، شكلا من أشكال مواصلة مشروع ماكرون التضييقي تجاه الجالية المسلمة في فرنسا وفق ما سبق لهذه الأخيرة عن عبرت عنه.