فأما أنجم السياسة، فهي قصيدة، من الأدب المغربي القديم، فريدة من نوعها، وحيدة في بابها، حيث لم يشهد الأدب العربي، عبر تاريخه، قصيدة مطلولة كتبت من أولها إلى آخرها في موضوع واحد، وهو أساليب السياسة و طرق الحكم، و الذي نعهده و نعرفه من شعرائنا، اذا تطرقوا لهذا الموضوع في قصائدهم، أن يكون ذلك في بيت أو بيتين، أما أن تكون هناك قصيدة من الطوال الجياد، من بدايتها إلى منتهاها في قواعد التدبير السياسي، فلا تجد ذلك إلا في "أنجم السياسة"، وقد نسبها الأستاذ الأديب "عبد الله كنون"، رحمه الله، في تحقيق بديع، سماه "أنجم السياسة و قصائد أخرى"، إلى الوزير الموحدي "أبو محمد ابن المالقي"، وهو أحد رجالات السياسة والأدب والعلم، في ايام عبد المومن وإبنه يوسف، رحم الله الجميع. و أما المناسبة التي حملتني على ذكر القصيدة، وجعل عنوانها عنوانا لمقالي، هو بيت من أبياتها، يقول فيه ناظمها: هاذي السياسة لاحت بعض أنجمها**ما كل نجم رصدناه قصدناه و المغرب عاش قبل أيام أجواء سياسية، بمناسبة الانتخابات البرلمانية والجهوية والمحلية، فأحببت أن أنشيء هذا المقال، لأقصد فيه نجما من أنجم السياسة، التي أهملها إبن المالقي في قصيدته، وهذا النجم هو عزوف الاغلبية الكثيرة من الشباب المغربي عن الخوض في الانتخابات والانخراط في الأحزاب، وهناك من يعتبره عزوفا وابتعادا وزهدا في السياسة، بينما هو في الأصل أسلوب من أساليب السياسة، و طريق من طرق ممارستها، وذلك أنه موقف سياسي في مقابل موقف المشاركة، فلا يعتبر على كل حال العزوف عن الخوض في الانتخابات، تصويتا و ترشيحا، تركا للسياسة و ابتعادا عنها، و إنما هو موقف سياسي يعبر عن رأي صاحبه، و لعل إبن المالقي أهمل ذكره لغياب المناسبة، وقد قال الشيخ الألباني، رحمه الله، أن من السياسة ترك السياسة، وهذا تعبير موجز، يبين فيه قائله، أن ترك السياسة و الإبتعاد عنها، و عدم الخوض فيها، هو في ذاته جزء من السياسة، وبعض منها ، ونحن لا نناقش هنا صحة هذا الموقف من بطلانه، بقدر ما نبين أنه ليس زهدا في السياسة، و إنما هو أصل من أصول الممارسة السياسية. وقد جرت العادة، أنه كلما إقتربت الإنتخابات، نزحت الأحزاب، و بغية تقوية سوادها والإكثار من مورديها، إلى ترغيب الشباب في السياسة، عن طريق ترغيبهم في العمل السياسي والإنخراط الحزبي، و هذا إن يدل على شيء، فإنه يدل على ضيق أفق هذه الأحزاب، وكأن العمل السياسي ينحصر في شيئين: الانتخابات والتحزب، بينما الأغلبية الكثيرة من المغاربة عندهم عزوف عن الأحزاب، و ليس عزوفا عن السياسة، لأن هذا موقف سياسي منهم إتجاه تلكم الأحزاب. إن العمل السياسي لا ينحصر في التحزب والإنتخابات، و إنما التحزب و الانتخابات لا يعدوان أن يكونا وسيلة، من وسائل كثيرة و طرق متنوعة، إلى ممارسة السياسة، و هذا الطريق و تلك الوسيلة، لم يثبتا بعد نجاعتهما سياسيا، ومن هنا فلا يجب نسب العزوف عن الانخراط الحزبي والمشاركة الانتخابية إلى العزوف عن السياسة. لي صديق، هو متحزب، وفي بدايات تعارفنا، ولقاءاتنا الأولى، سألني عن موقفي من العمل الحزبي، فقلت له لا أومن به، فقال لي متكهما: ((كفى الله المؤمنين القتال))، وفي هذا تعريض بي وحط من قدر رأيي، وهو معذور على كلامه ولا يلام عليه، و ذلك لما يتوهمه، هو وكثيرون، من أن السياسة تنحصر في التحزب، فكان مما قلته له، بعد تهكمه، إن اللعبة الحزبية لا تصنع من صاحبها إلا أحد الرجلين، فإما أن يكون صاحب طبل أو يكون صاحب " بندير"، فقال لي: وما تفسير ذلك، فقلت له: فإما أن يكون حزبه من مكونات الحكومة، فهو يطبل لكل ما يصدر عن الحكومة، وإما أن يكون حزبه في المعارضة، فهو " يبندر" لكل اعتراضات المعارضة، و ذلك أن ((كل حزب بما لديهم فرحون))، بغض النظر عن صحة ما لديهم من بطلانه، ثم بعد هذا ضربت له مثالا، وقلت له: حين أعلنت الحكومة، في بداية جائحة كورونا، عن حظر التجول و العمل بحالة الطواريء الصحية، قامت ثائرة المعارضة بدعوى أنه قرار أحادي لم يتم أخذ رأي المعارضة فيه، مع أنه كان قرارا سليما صحيحا، لا يختلف في سلامته و صحته عاقلا، والجميل في كلام صاحبي أنه جعل تعريضه بي وحطه من قدر موقفي وكلامي، بآية من سورة "الأحزاب". *كاتب مغربي, باحث في العقائد و المدارس الفكرية، و الاستشراق.