ولي العهد الأمير مولاي الحسن يستقبل الرئيس الصيني    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    جامعة عبد الملك السعدي تبرم اتفاقية تعاون مع جامعة جيانغشي للعلوم والتكنولوجيا    سفير ألمانيا في الرباط يبسُط أمام طلبة مغاربة فرصا واعدة للاندماج المهني    بوريطة: المقاربات الملكية وراء مبادرات رائدة في مجال تعزيز حقوق الإنسان    ولي العهد الأمير الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء الذي يقوم بزيارة قصيرة للمغرب    تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب    رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'        أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره        أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة        رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من الديمقراطية التشاركية إلى الديمقراطية التعاقدية
نشر في العمق المغربي يوم 05 - 04 - 2021

بكثير من التحفظات الابستيمولوجية، ودون الإغراق في التفاصيل النظرية والمفاهيمية فلذلك مقام اخر، سنناقش في هذا المقال بعض الاشكالات التي تطرحها "الديمقراطية"، باعتبارها أفضل آلية توصل إليها الفكر الانساني لتدبير الفضاء العمومي، لكنها تطرح العديد من العثرات على المستوى الاجرائي العملي والنظري أيضا.
لتدبير اختلاف الرؤى في تدبير الشأن العمومي اهتدى الإنسان المعاصر إلى الديمقراطية العددية، على أساس الخضوع لقرار الأغلبية العددية بالية التصويت، فيكتسب القرار، أو الشخص، مشروعيته من خلال عدد المصوتين لصالحه، أي من عدد مسانديه، يكفي إذن أن تحشد أكبر عدد ممكن من الأصوات لصالح فكرة ما حتى تكسب مشروعيتها.
بعد ذلك، ظهرت دعوات لحفظ حقوق "الأقليات" وحمايتها من "دكتاتورية الأغلبية" ، بعد أن برزت بعض سلبيات ديمقراطية الأغلبية العددية، التي قد تتعسف على حقوق الأقليات وتصادر حتى حقها في الاختلاف والوجود، خاصة في ظل التطور الهائل في آليات الاستقطاب واللعب بالجماهير واللوبيات الإعلامية التي قد تخل بتكافؤ فرص جميع الأطراف للتعبير عن توجهاتها واستقطاب المصوتين، والتلاعب بالرأي العام من خلال الإشاعات والسيطرة على وسائل الاتصال … إلى جانب ظاهرة العزوف عن المشاركة ( عدم توفر النصاب، مقاطعة التصويت … )، وظهور المجتمع المدني الصامت أو السلبي … بالتالي كان من اللازم التفكير في طريقة لضمان إشراك أكبر عدد ممكن من أطياف المجتمعات في القرار من خلال "الديمقراطية التشاركية" في محاولة لعلاج وتدارك نقائص الديمقراطية العددية، وهي مقاربة يقول منظرو الفكر الإسلامي أنها أقرب إلى نظام "الشورى" رغم اختلاف المنهجية والآليات.
قبل مساءلتنا لنظام الديمقراطية التشاركية، نتساءل هل استوفينا أصلا مستلزمات الديمقراطية العددية، وهل وفرنا شروطها، وأولى شروطها هو وجود فضاء عمومي مدني حر، غير مقيد باعتبارات عرقية أو دينية أو فئوية …، فلا يستقيم انتظار نجاح الديمقراطية في مجتمع يعاني من هول الفوارق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، فكما قيل قديما، الحرية، بمعناها العام، شرط أساس للمشاركة في "التصويت".
لقد انتشرت حالات تزوير النتائج وتصويت الموتى واخطاء التصويت بسبب الأمية … أصبح بإمكان "الرعاع" الفوز بالانتخابات في مواجهة "النخب الانتلجينسية"، كما فظهرت دعوات لفرض النظام "الشيوعي" أو "الإشتراكي" أو "الجماهيري" أو "الخلافة" في أفق المجتمع الديمقراطي، لكن تلك المحاولات لم تنتج سوى حروب وإبادات للحجر والبشر، كأن البشرية حاولت تغيير الديكتاتوريات بالديكتاتوريات بالحديد والنار.
كما الشأن للديمقراطية التمثيلية، كذلك تفعيل/تنزيل الديمقراطية التشاركية يواجه العديد من المعيقات والتحديات؛ منها ما يتعلق بالفاعلين وبالفضاء الاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي، لكن أيضا على المستوى النظري ذاته.
نضرب مثلا بأننا في المغرب، لم نستوفي حتى الفرص التي تمنحها آليات الديمقراطية التمثيلية في البرلمانات والمجالس الترابية، فكانت نسب المقاطعة مرتفعة، نتج عنه مثلا مجالس بمنتخبين بدون شواهد التعليم الابتدائي تسير شؤون جماعات ومدن تعرف نسب مهولة من بطالة حملة الشواهد العليا، وبرلمان ثلث أعضائه بدون شهادة البكالوريا، وننتظر منهم تشريع قوانين تساير التطورات والرهانات.
لقد قعد دستور 2011 للديمقراطية التشاركية من خلال التشاور العمومي، على أساس أن ينتقل المواطن من المتفرّج إلى الفاعل والمتابع والمقيم للشأن العام، وذلك عبر الهيئات الاستشارية المتمثلة في هيئة المساواة وتكافؤ الفرص ومقاربة النوع التي تشترك فيها الجماعات الترابية الثلاث، وهيئتين تنفرد بهما الجهات دون باقي الجماعات الترابية الأخرى وهي الهيئة المختصة بقضايا الشباب وأخرى مختصة بالقطاعات الاقتصادية، وكذلك من خلال الملتمسات في مجال التشريع للمشاركة في تقييم السياسات العمومية على المستوى الوطني.
لكن الديمقراطية التشاركية أيضا تعرف تعثرات ليس فقط على مستوى التطبيق والممارسة، بل أيضا على المستوى النظري، إذ نتساءل كيف يمكن الجمع بين ربط المسؤولية والمحاسبة بالديمقراطية التشاركية، على أساس أن القرار مشترك بالتالي فالخطأ خطأ الجميع، بالتالي تكاد تكون المحاسبة مقتصرة على محاسبة مسؤولين في عدم تفعيلهم للمقاربة التشاركية وفي مدى تنفيذ المتفق عليه وليس على أساس النتائج أو حسن التدبير. لماذا سيحاسب مسؤول ترابي مثلا وهو لم ينفذ سوى ما أشرنا به عليه؟
في الحقيقة نعتقد أن "الديمقراطية التشاركية" تواجه الكثير من الاشكاليات، من أبرزها أنها محاولة لتقاسم "سلطة القرار" لكي تنتفي شروط المحاسبة واثبات المسؤوليات، حيث يتفرق "دم الفشل بين القبائل"، ولا يحاسب أحد فالمسؤولية حينها تكون مشتركة، فتبدو بذلك "الديمقراطية التشاركية" كنوع من التنصل من مسؤولية اتخاذ القرارات الجريئة مخافة المحاسبة، فيكون الحل هو إشراك الجميع في القرار، فينفد المتفق عليه حتى وإن كان غير صائب، بل قد "يقتل" التوافق والإجماع أفكارا صائبة ووجيهة فقط لأنه لم يتم التوافق عليها، وغالبا ما ينتصر ذكاء "الحشد" على ذكاء الفرد حتى وإن كان هو الأصوب، ومعلوم أن ذكاء الحشد ليس بالمطلق حاصل مجموع ذكاءات الأعضاء.
هكذا أصبحت البرامج التنموية مثلا، غير مبنية على الدراسات الاستشرافية والتحليل العلمي … وتوجيهات الخبراء، بل تكاد تكون مجرد تجميع وتركيب لما يقترحه أكبر عدد من الفرقاء ليتم التوافق عليها، فتحظى بتصويت الأغلبية أو الإجماع.
لقد أنتجت المقاربات "التشاركية" في المجالس الترابية برامج عمل للترضية والمجاملات، خوفا من "الجماهير"، تضطر مجالس لبرمجة مشاريع بمنطق المحاصصة والاستجابة لمطالب المواطنين حتى وإن لم تكن تلك المطالب محققة للتنمية الحقيقية.
في كثير من المواقف عندما يريد أحدهم أن يبسط معنى الديمقراطية التشاركية، يستشهد بمثال لنسوة في قرية نائية كن يقطعن مسافة طويلة طلبا للماء … جاءت منظمة إلى القرية وقررت أن تنشئ لأهل القرية ساقية تقرب لهم الماء … لكن بعد أيام قليلة كسرت الساقية وخربت … وبعد بحث تبين أن هؤلاء النسوة هن من حطمن الساقية لأن تلك المسافة التي كن يقطعنها كانت بالنسبة لهن متنفسا … وهذه القصة تبرز ضرورة أشراك المعنيين في المشاريع … وهو مثال يبرز معنى الديمقراطية التشاركية … فيراد أن تكون الخلاصة أن "كل تخطيط لصالحي بدوني فهوي ضدي"، وهي في الحقيقة مقولة ليست دائما صحيحة، فأحيانا "ما أقوم به لأجلي قد يكون ضدي"، فالكثير من المشاريع الفاشلة والتي لم يكن لها أي تأثير إيجابي على المواطنين كانت في الواقع محصلة اقتراحات المواطنين ذاتهم.
وإضافة إلى إشكال الشروط الموضوعية والذاتية للعمل بالمقاربة التشاركية … كآلية، كلها أشياء تسائل خيار الديمقراطية التشاركية من الناحية الابستيمولوجية، متى وكيف وبأي طريقة يجب أن تمارس المقاربة التشاركية! مثلا هناك من "قد يكسرون الصنابير والسواقي" فقط لأنهم يحبون كثرة الثرثرة بعيدا عن الرقابة … في حين أن ذلك المشروع المرفوض والمخرب بمنطق غياب الديمقراطية التشاركية، هو الخيار التنموي الأسلم، وذات الجماعة من الناس، بنفس المقاربة، قد يجمعون على إنشاء دار طالبة في قرية، فقط لأن قرية مجاورة تتوفر عليها، بالرغم من أنهم لن يتركوا أي من بناتهم لتقطن فيها، وقد يجمعون على منع أبنائهم من متابعة الدراسة في مدرسة لأنها بنيت في أرض قرية أخرى، وقد يجمعون على إعادة اقتناء فراش جديد للمسجد عوض بناء قاعة دراسية … مع الأسف كثيرة هي الحالات التي تجمع فيها الأمة على ظلال.
لقد أصبح الحكم على البرامج والمخططات التنموية رهين بمقدار الإجماع الذي يحاط بها وليس بالأثر التي تحدثها أو بالإشكالات التي تجيب عليها وبأي طريقة وبأي تكلفة وبأي خسائر، وفي نزعة "شعبوية" أصبح التوجه نحو الخيارات التوافقية والتوليفية، هروبا من القطائع والقرارت الحاسمة والفاصلة، احتماء بدفء الإجماع، وخوفا من وصم ولعنة الخروج عن "الجماعة" و "السرب"، و لا ننتبه إلى متى تكون الجماعة سربا ومتى تكون قطيعا.
في حياتنا اليومية، المهنية أو الخاصة، نتعامل مع الكثير من المواقف بمنطق "كن وسط الجماعة وقل يا قاطع الرؤوس"، و "لا يأكل الذئب من الغنم إلا القاصية" و "لا يخرج من الجماعة سوى الشيطان" و "اشتري من البائع الذي يتزاحم عليه الناس" و "صوت على الحزب الذي تجد رمزه منتشرا في كل مكان" … في انسياق عاطفي مع "الحشود والجماهير" دون إعمال للعقل والمنطق، هروبا من قساوة أو التفكير المجهد، نركن إلى الخيار السهل بتقليد ما تقوم به "الجماعة" الكثير العدد أو الخضوع لقرار "أنا مع الأغلبية"، فقط للنجاة من قهرية مخالفة "الاجماع المصطنع"، والتعرض للوصم الاجتماعي من طرف "الأغلبية"، حتى وإن كانت "الجماعة" غثاء كغثاء السيل، إذ تتجاوز الجماعات وعيها الفردي فينجح في تحريكها الخطاب العاطفي والمهوس والأهداف المطلقة …
حتى إن كنت مدركا ومقتنعا بعدم صواب قرار معين، فيكفيك أن تغلفه بإجماع معين حتى يصبح "شرعيا" ومبررا، حينها ستقول لأي مستفسر هذا ما قررناه واتفقنا عليه بالإجماع، … في ما يسميه علماء السيكولوجيا ب "عقلية القطيع/ الحشد"، إذ يؤكدون علة أن كل ما هو فردي أو معقلن ينزوي في هياج القطيع، أو يتحول إلى ضحية للهياج العاطفي، والقطيع هنا لا يستعمل كحكم قيمة قدحي، بل كتشبيه تفسيري، وهذا ما توصل إليه العديد من الباحثين في مجال سيكولوجيا الجماهير، من أمثال جوستاف لوبون في كتابه "سيكولوجية الجماهير".
من البارادوكسات والمفارقات العجيبة، أنه عندما يتساوق اجماع ما مع موقفنا الخاصة نسميه "سربا"، أي أنه إجماع مرغوب، والخروج عنه بمثابة تغريد خارج السرب، فهو إذن شذوذ عن الجماعة، لكن عندما يكون اجماع ما مخالف لموقفنا الخاصة نسميه "قطيعا"، أي أنه إجماع غير مرغوب، بالتالي فالخروج منه هو بطولة وانفلات، إنها تشبيهات أدبية لكنها تبرز اشكالية التلاعب ولي المفاهيم لأغراض ومصالح متضاربة، قد نتحجج وندافع عن إحدى سلوكاتنا بحجة أن الأغلبية تقوم بنفس الشيء، فالموقف هنا يكتسب شرعيته وحجيته من أن أغلبية الناس يتخذون نفس الموقف.
لا ننتبه عاد إلى أن المهم هو كيف نعرف هل "جماعة" أو "إجماع" هل هو "سرب" أم "قطيع"، السرب، أولا يشترط الحرية من خلال دلالة الطيران الحر، وكذا التداول والتناوب والعمل الجماعي، على أساس تناوب الطيور في قيادة مقدمة السرب، وضوح الهدف لأن الطيور المهاجرة تعرف مسبقا مساراتها… فكأن القيادة هنا منهجية وعقلانية، ّأما القطيع فيتصف بالارتجالية وعدم وضوح الوجهة، قيادة بالقوة بمنطق التبعية والاتكال والانانية، وكما يرى هاملتون، عالم الأحياء، في مقالته "هندسة القطيع الأناني"، فالاحتماء بالجماعة هنا يكون من منطلق أناني وليس حبا في العمل الجماعي ذاته، فكل فرد يخدم نفسه بالدرجة الأولى حيث يقلل الخطر عن نفسه بالدخول مع الجماعة والتطبع بطباعها وسلوكها، "دير راسك بين الريوس وقل يا قطاع الريوس"، فإذا عمت هانت، بالمنطق العقلاني، لا يمكن أن نقول عن كل إجماع بأنه "سرب"، فقد يكون مجرد "قطيع".
لم ننتبه أيضا، إلى إحدى أهم مستلزمات وشروط "الديمقراطية التشاركية" وهو أن يكون المجتمع مجتمعا مدنيا بشكل حقيقي والدولة دولة مؤسسات، إذ لا زال المجتمع لم يحسم قطيعته مع "العرق" و "الدين" و "العائلة" و "القبيلة" و "لوبيات الريع" … كيف يمكن تفعيل الديمقراطية في مجتمع "مركب ومزيج" بمعناه الباسكوني، نسبة إلى السسيولوجي بول باسكون، إلا سننتج ديمقراطية مزيجة، تولف بين التقليدانية والاقطاعية والليبرالية والديمقراطية التمثيلية والفصائلية والمحاصصاتية …
في كثير من الأحيان، تحولت اليات الديمقراطية التشاركية إلى كوابح للفاعل السياسي المنتخب أكثر منه مكملا، كيف سنفهم أن نمنع "منتخبا" من تنفيذ برنامجه الانتخابي، باليات التشاور العمومي، لنفرض عليه تنفيذ مخططات أخرى مختلفة عن تلك التي انتخب على أساسها أو تلك التي يرى أنها الأصلح، إذ أصبح الأمر يتعلق بنوع من "الأقليات" التي تمارس دكتاتوريتها.
من الغريب أن نظام "الانتخاب الطبيعي" في مجتمعاتنا مقلوب رأسا على عقب، ففي الجهاز المنتخب، "الأقل كفاءة"، مع وجود استثناءات، هم من ينتخب ليخطط للتنمية، منذ مفترق الطرق الأول، بعد البكالوريا يذهب المتفوقون إلى الأمن والصحة والتعليم أو الهندسة، ومن لم يتمكن من النجاح في تلك المباريات يتوجه إلى الجامعة أو الجيش، والمتفوقون في الجامعة، يتجهون إلى التعليم أو بعض الوظائف في الجماعات والمقاطعات والأمن، ومن لم يتمكن من النجاح يتوجه إلى البرلمان ليشرع القوانين لكل هؤلاء. المشاركة في جميع المباريات تتطلب دبلومات وشروط وامتحانات … فقط الوصول إلى سلطة القرار السياسي يحتاج فقط إلى حشد عدد معين من الأصوات.
نحن في حاجة لديمقراطية لا تنفي الفرد، ولا تذوب المسؤولية فى بوتقة الاجماع والجماعة والأغلبية، فالديمقراطية تشترط وجود المواطن الحر والدولة الوطن، بالتالي الحاجة إلى نظام تعاقدي بين المواطن والمرشح المسؤول الكفء، وفق حوافز مادية ومعنوية، فالمفروض في ذلك الشخص الذي سننتخبه ليدبر شؤون "المدينة" أن يتوفر على شروط معينة وليس فقط أن يحصل على دعم أغلبية عددية، وأن يكون عمله هذا ليس "تطوعيا" بمعناه الأخلاقوي، بل مهمة تتطلب تحفيزا ومسؤولية ومحاسبة.
هكذا تصبح الانتخابات مثلا عقد يلتزم به المرشح الفائز أمام ناخبيه بتحقيق بنود يتم الاتفاق عليها وقت الترشح ويتم مكافأته حال الالتزام بها، هكذا نكون بصدد ديمقراطية تعاقدية، تتأسس على دفتر تحملات وإلتزامات تتبعها محاسبة بتحفيزات ومسؤوليات مادية ومعنوية، هكذا تصبح المجالس المنتخبة مجالس إدارية وليس مجالس تمثيلية، وهو أقرب إلى معنى المفهوم الذي صاغه عالم الاقتصاد السياسى السويسرى هانز جيرسباش فى محاولة للتغلب على معضلات تطبيق الديمقراطية حتى فى الدول الراسخة فى التجربة، ورغم أن المصطلح مازال قيد التطوير ومازال هناك جدل فى مدى إلزامية العقد وفى الجهة التى ستتمكن من مراقبته والتحقق من التزاماته، لكن المبدأ هو أن الشرعية الحقيقة يجب أن ترتكز فى مدى الالتزام بالتعهدات ولا تقتصر الشرعية إذن على مجرد أصوات حصل عليها ليتكلف بمهام تطوعية غير ملزمة.
بهذا البراديغم، لن يشتغل مدبر الشأن العام بمنطق الخضوع لضغوط لوبيات الضغط أو ابتزاز "الحشود" … بل وفق برامج تعاقدية واضحة الأهداف والشروط والظروف، وبهذا لن تعمل الدولة كجهاز "تيرمومتر" يقيس درجة الاحتقان الاجتماعي، أو جهاز انذار لا يتفاعل إلا مع القضايا الحارقة التي تحدث ضجيجا، لأن الدولة التي تشتغل بمنطق "التيرومومتر أو البارومتر" تدخل نفسها في دوامة خطيرة لا مخرج منها، إذ تتحول إلى الدولة الإطفائي، وتصبح ضحية للابتزاز والحرائق المفتعلة.

كريم إسكلا – باحث في قضايا التنمية والتغيير الاجتماعي.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.