ونحن ننطلق في المرحلة الثانية من حالة الطوارئ الصحية، حري بنا أن نفتخر بنتائج المرحلة الأولى التي رفعت الوعي بخطورة وباء كورونا، وكسرت دينامية انتشار العدوى في صفوف المواطنين، وجنبت بلادنا كارثة صحية حقيقية. وعلينا أن ندرك أن الدرس الأول الذي يفرض نفسه، هو أن المجهودات والتدابير التي قررتها الدولة المغربية، بتوجيه من ملك البلاد، و التفاعل المجتمعي الإيجابي مع السلطات العمومية المختصة، هو ما مكننا من التقدم في الاتجاه الصحيح لضبط الوضع والتصدي بفعالية للفيروس الشرس. ولعل أقل واجب، في ما سيأتي من أيام، هو أن نعزز نقط القوة في الخطة الإستراتيجية التي اعتمدناها، وأن نشتغل على تسريع و تصويب ما يستحق ذلك في تنفيذ و تنزيل ما يتقرر من تدابير، و أن نستمر في الانضباط للحجر الصحي والبقاء في المنازل، واحترام الإجراءات الوقائية الاحترازية المتنوعة التي يتم التوعية بها منذ أسابيع. هي مسؤولية مشتركة لكل أطياف المجتمع، في إنجاح ما نحن فيه من تدابير ضرورية. و هي بدون شك، فرصة تاريخية لمسائلة الذات وتقويم “انحرافات سلوكية”، تبث أن لا نفع فيها. ولأنه رب ضارة نافعة، فقد نصل إلى وعي إيجابي عام، نتفق من خلاله على راهنية الولوج إلى مسار مختلف تحكمه معايير عيش مشترك جديدة، يفرض علينا العقل والمنطق أن نلتزم بها ونربي أنفسنا على احترامها بشكل صارم، ليصير مجتمعنا قادرا على أن يصمد بشكل أكبر أمام تحديات المستقبل. ومن تجليات هذا الوعي المأمول، أن يستوعب الناس أن ليس على السلطات العمومية، وليس لنا أن نطلب ذلك منها، واجب إصدار قرارات إدارية بشأن كل صغيرة وكبيرة في الحياة اليومية للناس. من جهة، ذلك مرهق للطاقات وفيه إضاعة لموارد من الأفضل أن توجه لأوراش تدبيرية أخرى. و من جهة ثانية، لا معنى لاستمرار مثل تلك الحاجة إذا كنا حقيقة نعتبر أنفسنا مواطنين مسؤولين و واعين. فعوض استمرار السلبية و الاتكالية، علينا استحضار المسؤولية الوطنية والمواطنة، والتصرف بشكل راقي، وتأطير تفاصيل حياتنا اليومية بوعي أكثر نضجا، وتسهيل شروط بروز عقد اجتماعي جديد فيه حقوق و واجبات، و فيه علاقة بين السلطات العمومية والمواطنين تكون مبنية على مبدأ الشراكة من أجل رفعة الوطن، والتزام المسؤولية المشتركة واحترام القانون. ما من شك في أن هذا الوقت سيمضي بكل ما فيه، و جائحة الوباء إلى زوال لا محالة، وستبقى فقط خلاصات الأزمة والدروس المستفادة منها. وعندما تحين تلك اللحظة، وهي قادمة في أفق قريب جدا، علينا أن نعود لنعانق الحياة بتقدير حقيقي لروعة كل شيء من تفاصيلها، بداية بالأمور البسيطة التي كانت في متناول أيدينا و لم نكن ننتبه إلى درجة أهميتها لتوازننا النفسي وراحة وجداننا. ولعل أبسطها كان أن نخرج من بيوتنا لنمشي قليلا ونتنفس، تحت أشعة شمس دافئة، ونحن أحرار آمنون و مطمئنون في وطن عزيز لم نكن، بكل تأكيد، نعبر له عن حبنا بالقدر الذي كان وسيظل يستحقه منا، و لم نكن نساعد على بنائه بالجدية اللازمة، وتطويره بالتجرد المفروض وبالموضوعية الواجبة، كي ينهض و ننهض. وعليه، لن نستحق الاحترام إذا نحن عدنا للحياة العادية وانشغلنا بسفاسف الأمور ولم ننهمك بقوة وبتفان في بناء الوطن وتعزيز قدرات الدولة الوطنية، الحامية والاجتماعية، باجتهاد واحترافية وإبداع. لن نستحق الاحترام إذا نحن عدنا للعبث ولم نحافظ على انضباطنا للقانون، و على توحدنا حول سمو المصلحة الوطنية عما سواها، وعلى التحامنا بتوابثنا الوطنية، وعلى افتخارنا بأبناء شعبنا. و بدون شك، لن نستحق الاحترام أكثر، إذا عدنا للحياة العادية ولم نجعل أولى الأولويات تحقيق كل ما فيه ازدهار بلادنا، عبر التجرد من الفئوية الضيقة، والابتعاد عن التعاطي مع مصالح أبناء الوطن بمنطق سياسوي بغيض كان متضخما لدى البعض في السابق، والقطع النهائي مع التدافع السياسي الحزبي المسكون بهواجس الذوات و الطموحات الفردية، وطغيان غرور الأنا على واجب تجميع الكفاءات، وفتح باب إبداع حلول للمشاكل وإنتاج سياسات بديلة تعين على تحقيق طموحات المواطنين. لا شك أننا كما نحتاج روح المسؤولية المشتركة في زمن الأزمات الاستثنائية، نحتاجها أيضا في الأزمنة العادية، ونحتاج إلى استمرار التزام الثقة بالنفس و بالذات المجتمعية، والثقة بمؤسسات وطننا، وتتبع ما يتم من تدابير مرتبطة بالشأن العام للإطمئنان بأن إجراءات جادة تتخذ بكل مسؤولية، والوقوف على كل استهتار يتعين أن يعرض أصحابه للمسائلة الصارمة. ويبقى المطلوب منا في المرحلة الثانية من حالة الطوارئ الصحية، هو التجند لتعزيز التواصل العمومي وتكثيف مجهود التوعية بكل الوسائط المتاحة، لتصل الرسائل للجميع على الوجه الأكمل، ويتقوى نزوع المواطنين إلى اتباع تعليمات السلامة واعتماد إجراءات الوقاية بجدية دفاعا عن أنفسنا وعن كل فئات مجتمعنا ضد خطر وبائي شرس. كما علينا، تقوية التضامن مع الضعفاء المحتاجين وذويهم، والعمل على تخفيف الأثر الاجتماعي لهذه الأزمة، والانتباه أيضا إلى معالجة جانب الضرر النفسي المرتبط بوضعية الحجر المنزلي، وتكثيف أشكال رفع همم الناس وإشاعة الأمل والتفاؤل بقرب انتهاء فترة صعبة. وظني أن أيسر السبل لبلوغ ذلك الأمر، هو تذكير الناس بأنهم في لحظة تاريخية، وعليهم أن يفتخروا بأنهم أبطال في ملحمة وطنية كبرى يقودها عاهل البلاد، ويخلص فيها العطاء جنود الصف الأول من نساء و رجال الصحة العمومية والتعليم والقوات المسلحة الملكية والأمن الوطني والإدارة الترابية والدرك الملكي و القوات المساعدة، و عمال النظافة و مصالح البيئة، ومهنيو تجارة القرب، و تقنيو مختلف المصالح والقطاعات الاستراتيجية ببلادنا. أكيد أن دحر الوباء أفق قريب، و سنخرج بأخف الأضرار لنعود إلى استئناف مسيرة الإقلاع الشامل بتتميم الأوراش التي كانت بلادنا قد فتحتها قبل الجائحة الوبائية، وننطلق في أوراش استراتيجية جديدة تفرض نفسها بكل استعجال. بالتأكيد سنعود لنتمم صياغة نموذج تنموي جديد يستحضر خلاصات تدبير الأزمة الوبائية، ويبني أفق تمكين كل جهات المملكة من شروط الولوج إلى الخدمات الأساسية، وسنشتغل على تأهيل شامل للسياسات العمومية في مجال الصحة العمومية والتعليم والبحث العلمي والمختبري، وسنكمل مجهودات الإدماج الاجتماعي والاقتصادي والثقافي للشباب عبر تنزيل البرامج التي هندستها المرحلة الثالثة من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، و برنامج دعم تمويل مقاولات الشباب و تشجيع روح المبادرة، بالإضافة إلى برنامج مدن المهن والكفاءات لتأهيل القدرات المعرفية للشباب. ومن الواجب أيضا إعادة هندسة آليات ومؤسسات التدخل العمومي في مجال محاربة الفقر والتهميش، التي تحتاج شحنة قوية لعصرنة تدبيرها كي تصبح صالحة لما أحدثت لأجله، وتنفع الوطن حقا في زمن الأزمة وخارجه. ويبقى المهم أن تهون كل الصعاب، و أن يصغر في أعيننا كل ضيق، وأن نحافظ على الأمل و نبقي اليقين بأن لطف الله بأبناء وطننا أكيد وأنه لن يصيبنا سوء.