“العمى الطوعي” توصيف لقرارات ومواقف تتعامى عن الحقائق التي تتفجر في الوجه بمجرد تحرير دائرة النظر من القصور الذي يصيبها. والعمل التطوعي هو أرقى تعبير إنساني وتضامني تسعى شبكات الخير، من شخصيات ومنظمات المجتمع المدني وهيئات مختلفة، لتوسيع ثقافته وأوراشه عبر العالم، لتخفيف المعاناة المختلفة عن الإنسان، بغض النظر عن جنسه ودينه وفكره ولونه وعرقه وانتمائه الجغرافي. والحالة الوحيدة التي ترفض فيها الأمم وشعوبها ونخبها “العمل التطوعي” هو حين يكون مجرد قناع لمشاريع سياسية أو إيديولوجية أو دينية، وهذا البعد الذي يستثمر بسوء نية في العمل التطوعي هو ما يجعل أنشطة التنصير مرفوضة ومنبوذة في كل أنحاء العالم، لأنها أعمال تستغل الحاجة والفاقة لنشر المعتقدات المسيحية. ومناسبة الكلام السابق هو حجم ردود الفعل الطائشة وطبيعتها الصادمة التي أثارها عمل تطوعي لفتيات بلجيكيات في ضواحي إقليمتزنيت. فما هي الحكاية؟ حسب تصريح رئيس جمعية “تويزي للتنمية والأعمال الاجتماعية والرياضة”، لموقع “العمق المغربي” نحن أمام مشروع تنموي محلي تنجزه تلك الجمعية بشراكة مع منظمة “بوورد” البلجيكية يتعلق بتبليط مسالك طرقيةبدوار أضار نوامان، ضواحي إقليمتارودانت. ويؤكد رئيس الجمعية، أن جمعيته تجمعها شراكة مع المنظمة البلجيكية مند 2004، وأن جمعيته تستقبل مند تلك الفترة وفدين كل سنة من متعاوني المنظمة البلجيكية. ويضيف أنه بفضل تلك الشراكة تمكنت جمعيته من إنجاز عدة مشاريع تهم بناء السواقي، وبناء مركز سوسيو اقتصادي وتبليط مسالك طرقية. فنحن أمام عمل تنموي فعال يساهم في فك العزلة عن المناطق النائية، ويدخل في صميم وظائف المجتمع المدني، والقانون المنظم لأنشطة المجتمع المدني ليس فيه شيء يمنع أية جمعية من جلب تمويلات أجنبية قصد تنفيذ مشاريع تنموية محلية. لقد صب الغاضبون جم غضبهم على بعدين أساسيين، الأول يتعلق بالعمل التطوعي نفسه، والذي لم يتقبل منتقدوه بشكل عام أن يقوم به أجانب.والبعد الثاني يتعلق بلباس الشابات البلجيكيات اللواتي شاركن في العمل التطوعي السابق الذكر، حيث اعتبر الغاضبون من لباسهن ذلك إهانة للشعب المغربي المسلم والمحافظ. واستعملت في كلا الأمرين ألفاظ عنيفة وسخرية ماسة بالعمل التطوعي وبالمغرب دولة وشعبا. فبالنسبة للعمل التطوعي يتأكد أن الذين ينتقدون ذلك ليست لديهم أية فكرة عن حجم الأعمال التنموية التي يقوم بها المجتمع المدني المغربي في العالم القروي وفي الجبال بالخصوص، بفضل الدعم الأجنبي. وأن هذا النشاط المدني يدخل ضمن ثقافة التضامن الانساني والعالمي. وأن بإمكانهم أيضا أن يساهموا في أعمال مماثلة في الدول الإفريقية مثلا، حين تقرر جمعية مغربية تمتلك الإمكانات المالية تنظيم نشاط تطوعي فيها. فهذا أمر عادي في الدبلوماسية الانسانية العالمية. فمشاركة الأجانب في العمل التطوعي التنموي أو الاجتماعي أو الانساني أمر عادي جدا، بل أمر صحي لا ينبغي أن تكون لدينا تجاهه أية حساسية، اللهم إذا تأكد، كما أشرنا سابقا، أن مشاريع سياسية أو إديلوجية أو دينية تتخفى خلفها. إن المصيبة إذا وجدنا أغلب المنتقدين للعمل التطوعي للأجانب ربما لم يمارسوا قط عملا تطوعيا، ولا انخرطوا في جمعية أبدا. وقد تجد أكثرهم أيضا تغرق أحياؤهم السكنية في الأزبال ومختلف المشاكل البيئية والعزلة، أو تحيط بهم جيوش من الأميات والأميين يحتاجون متعلمين مثلهم ليمحوا أميتهم، فيكتفون بنقد السلطات في الوقت الذي بإمكانهم خلق ديناميكية مدنية محلية يناضلون في إطارها ويكونون أول المستفيدين منها. أما بالنسبة لمشاركة الشابات بلباسهن القصير في أعمال تبليط المسالك الطرقية، فهذا في الحقيقة يطرح أكثر من علامة استفهام حول طبيعته وخلفياته في بلد يطمح أن يستقطب 20 مليون سائح في السنة! وفي الحقيقة هذه أول مرة يطرح فيها لباس الأجانب في المغرب بهذا الشكل الصادموالغريب. لماذا؟ أولا، لأن المغرب يستقبل ملايين السياح سنويا ولا أحد اشترط عليهم لباسا محتشما ولا بشروط معينة. والأولى لمن أخذته الغيرة على الهوية والدين والتقاليد والمحافظة في هذه النازلة المحدودة في الزمان والحجم أن يعمل على وضع سياسات عمومية تنظم لباس الأجانب في المغربعللى طول السنة وفي كل ربوع المملكة. وبالطبع هذا الأمر سينفر منه حتى أغلب المنخرطين اليوم في الانتقاد المجاني وغير الأخلاقي لعمل الشابات البلجيكيات. ثانيا، اللباس المنتقد لذى الشابات البلجيكيات لباسهن العادي في بلدهن، ولو تبث مثلا أن لباسهن في بلجيكا محتشم وأنهن قصدن ارتداء ذلك اللباس في المغرب لجاز لمن يتحدث عن خلفيات لباسهن ورسائله أن يطلق العنان لعقلية التآمر في رأسه لينتج ما شاء من أفلام التآمر الخيالية. أما ونحن أمام لباس القوم، وأمام غياب شروط تخص لباس الأجنبيات في المغرب، فانتقاد لباسهن فضول ورعونة وتطاول على حقهن وحريتهن. ثالثا، لا أدري أين يعيش هؤلاء المنتقدون للباس الشابات البلجيكيات؟ فالمغربيات أيضا يلبسن مثل ذلك اللباس، بل شواطئنا لا تختلف كثيرا عن شواطئ الغرب، اللهم ما يتعلق بالسباحة الطبيعية التي تعني السباحة كما ولدتك أمك، والتي لم تنتشر بعد عندنا ولله الحمد. فما قيمة كل النقد الموجه إلى لباس تلك الأجنبيات إذا كانت المغربيات أيضا يلبسن مثله وأكثر منه؟ رابعا، لو أن الساكنة المحلية المحافظة قد ثارت ضد لباس تلك الشابات، لكان ذلك متفهما، لما قد يحدثه ذلك من صدمة للرأي العام المحلي المحافظ، أما والساكنة المحلية قد انخرطت بنشاط في العمل إلى جانب البلجيكيات فنقد سكان الفايسبوك لا معنى له، وربما انخرط كثيرون منهم مع الشابات البلجيكيات في ورش تبليط المسالك الطرقية لقراهم لو قدر لهم أن كانوا معنيين مباشرة. خامسا، الذي يجهله المنتقدون أن الغرب ينشئ أبناؤه على العمل التطوعي، وعلى قيم المواطنة والانسانية من خلال إشراك الشباب في أوراش مثل الورش الذي صب عليه المنتقدون جم غضبهم مجانا وظلما وعدوانا. فهؤلاء الشابات، اللواتي تظهر أشرطة الفيديو الخاصة بنشاطهن في ضواحي تزنيت براعتهن في تجهيز المسالك الطرقية، والذي ربما لن يحسن أغلب منتقديهن القيام بمثله أبدا، اكتسبن قيما إنسانية عالية، ومهارات فنية في العمل التطوعي من خلال أعمال يباشرنها بجهدهن الجسدي والنفسي والمالي أيضا لصالح أناس أجانب لا تربطهم بهن سوى الروابط الانسانية، هؤلاء الشابات سيكون منهن قادة ومؤثرات في اتخاذ القرار، وسفيرات لبلدانهن، وخبيرات و… فأي رسالة سلمنها لهن مقابل مبادرتهن الانسانية؟ إن هذا الوجه القبيح الذي عبر عنه المنتقدون غير المنصفين للشابات البلجيكيات ليس هو ما وقفن عليه عند الساكنة المحلية، التي شاركتهن أعمال تبليط المسالك الطرقية، حيث عبرن عن أنهم لطيفون ومنفتحون ونبلاء و… فمن الذي يعبر عن المغرب الأصيل؟ هؤلاء القرويون الفرحون بأعمال الشابات البلجيكيات؟ أم هؤلاء “المتعلمون” الذين “يشرملون” عملا إنسانيا راقيا يعجزون عن إتيان مثله؟ إن البحث عن المنطق الذي يحكم ردود الفعل العنيفة للمبادرة الانسانية للشابات البلجيكيات يوجد في التوجه الذي اتخذته ثقافة منصات التواصل الاجتماعي في العالم بأسره، والذي يؤكد الخبراء في هذا المجال أنه توجه سلبي وعدمي وفوضوي، ينتقد من أجل الانتقاد. ذلك أن الرفض والانتقاد قيمتان خاصتان في منصات التواصل الاجتماعي، ووسيلة لتسجيل البطولات ومصدر ريع معنوي يتشكل من حجم التفاعل الذي يتم حصده عبر “الجيمات”، والمشاركة، والتعليقات المساندة، … والمغرب لا يشكل استثناء. إن الذين يخشون عن هوية المغرب ودينه وقيمه من اثنتي عشر شابة جئن في مهمة إنسانية لأيام معدودات، يشكلون نشازا في المرجعية المجتمعية للمغاربة، وفي خصوصية الانفتاح التي ميزت المغاربة عبر قرون عديدة. فهل يتعلق الأمر بعقدة الأجنبي؟ أم بعقدة الجنس اللطيف؟ أم بمرض النقد من أجل النقد ونقد أي شيء؟