إنّ تفحص مسار التسوية منذ 1988، سيتيح الوقوف على جملة من القرائن حتى لا أقول الأدلة التي تؤكد استدراجنا “خطوة خطوة” للوقوع في الفخّ القانوني والدبلوماسي الذي نصبته بِمكر الجارة الشرقية، بتآمر مقصود أو تواطؤ غير مقصود من المنتظم الدولي. ويكفينا أن نطالع لُغة القرارات الأممية وتقارير الأمين العام لِنرى كيف تحوّل قاموسها الاصطلاحي مثلاً من “ساكنة الصحراء” إلى “الشعب الصحراوي” المزعوم؛ وكيف تمّ القفز على إعلان كوفي عنان عام 2004 عن استحالة تنظيم الاستفتاء بسبب انسحاب جبهة تندوف من لجان تحديد الهوية منذ 1992 بإيعاز من حاضنتها الجزائر، ليعود اليوم الحديث عن الاستفتاء من جديد، وكأنّ 28 سنة من المفاوضات المباشرة وغير المباشرة كانت عبثيةً؛ أو كأنّ مسلسل التسوية ليس تراكمياً، بل دائرياً ولا متناهياً يعود إلى نقطة البداية مع كل مبعوث جديد يُحاول ضرب الخطّ في الرّمال ليجرب حظّه. والأخطر في هذا الاستدراج هو تسرّبه إلى خطاب وزير خارجيتنا ذاته، حين قال بأنّ تقرير المصير لا يعني “الاستقلال” عوض أن يقول “الانفصال”، وقد كرّرها مراراً في تصريحه الصّحافي عقب انتهاء “مائدة” جنيف الثانية. والحديث عن “الاستقلال” يعني ضِمنا وجود “الاحتلال”، وأكيد أنّ السيد الوزير لا يقصد ذلك.. وفي نفس الندوة الصحافية، استمعنا إلى مَعاليه يُبرّر جلوسنا مع “جمهورية تندوف” في الاتحاد الإفريقي، في حين أنّ عليه توضيح سبب تأخره في تجسيد مضامين الرسالة الملكية الموجهة إلى القمة الإفريقية في كيغالي سنة 2016، والتي ربطت عودة المملكة المغربية “بتصحيح الخطأ التاريخي” أي طرد أو تجميد كيان وهمي لا تتوفر فيه شروط العضوية. وكم أتمنى ألاّ يكون مؤتمر وزراء خارجية 37 دولة إفريقية في مراكش الذي ينعقد الاثنين 25 مارس، مُجرّد ردّ فعل على مؤتمر إفريقي مماثل في جوهانسبورغ، دعت إليه الجزائر وجنوب إفريقيا لدعم كيان تندوف. وهل نملك غير التمني ألاّ تبقى خارجيتنا في منطق ردود الفعل وتخرج إلى فضاء الفعل الاستراتيجي المخطط له! لقد تحدث وزير الخارجية عن أنّ لقاء جنيف الأول ليس بمفاوضات، وإنما مجرد “مائدة مستديرة”! وها نحن بعد انتهاء “المائدة الثانية” نتحدث عن مائدة ثالثة من أجل “بناء الثقة لتسهيل حلّ سياسي يفضي إلى تقرير المصير”.. فما الفرق بين “الموائد” وبين المفاوضات المباشرة وغير المباشرة التي جالت عواصم أوربا وأمريكا من برلين ولندن فلشبونة ثمّ مانْهاست؟ أو ليست هذه الموائد وجْها آخر لنفْس العملة التي سمّاها كريستوفر روس سنة 2009 “بالجولات المكوكية”؟ هل العبرة بالمُسمّيات أم بالأسماء؟ كنا ننتظر أن يتم في اللقاء الأوّل أو الثاني بجنيف تحديد شروط استئناف مسلسل التسوية الذي أصبح سُرْيالياً وبغير معنى في غياب أرضية للحوار متفق عليها، وفي غياب أجندة زمنية محدّدة، وفي غياب تحديد المسؤولية عن عرقلة مسار التسوية. ووقعنا في فخّ الجزائر باستئناف “المفاوضات” تحت عنوان “الموائد المستديرة” دون تحقق أيٍّ من الشروط الموضوعية، ونسينا أنّ ما تبحث عنه جارتنا هو إعطاء الشرعية المفقودة للجبهة من خلال جلوسنا معها على مائدة واحدة، وهو ما يُعيد لها المصداقية الدّولية لدى داعِميها، ويَمنحها مِنبراً أُممياً لإذكاء جذوة الانفصال في المخيمات وداخل أقاليمنا الجنوبية.. كنا ننتظر في جنيف أن يتم اشتراط رفعِ يد الجزائر عن الملف، وأن يتمّ إلزامها بتطبيق اتفاقية 1951 في إحصاء اللاجئين والذي ترفضه بعناد وتعنّت؛ كنا ننتظر أن يتم اشتراط عودة اللاجئين من تندوف إلى أرض الوطن تنفيذا لبروتوكول بعثة الأممالمتحدة إلى الصحراء عام 1998 والذي وقّعت عليه جميع الأطراف؛ كنا ننتظر أن تُساءل الجزائر وجبهة تندوف عن سبب تجميدها تبادل الزيارات العائلية، وهي جوهر “إجراءات بناء الثقة” التي سيبحث عنها السيد كوهلر في مائدته الثالثة؛ كنا ننتظر أن تُجبر الجزائر على الانصياع للقانون الدولي بتطبيق قانونها داخل مخيمات تندوف بوصفها البلد المُضيف؛ وأن تُساءل عن جريمة إخضاع ساكنة المخيمات “لأحكام” وقبضة المليشيات الانفصالية؟ وكنا ننتظر أيضاً أن يُسحب البساط من جبهة تندوف، وأن يَتم إشراك “تيار خط الشهيد” و”تيار العائدين”، ليس في الوفد المغربي وإنما كأطراف على قدم المساواة مع الجبهة الانفصالية في المشاورات، كمخرج من المأزق الحالي من جهة، ولأنّ المعطيات تغيّرت على الأرض منذ عودة القيادات المؤسسة للجبهة والآلاف من الساكنة بعد 1991، من جهة أخرى؛ كنا ننتظر أن يضع المغرب أجلاً لانسحاب الميلشيات من المنطقة العازلة في تفارتي وبير لحلو ومّيجك وامهريس وغيرها قبل أي حديث عن “مائدة” أو “مفاوضات”؛ وأن يضع المغرب أجلاً لتلقي الأجوبة عن تساؤلاته ومذكراته أو أن يطالب بإنهاء تواجد المنورسو في الصحراء، مستغلاً فرصة دعوة مستشار الأمن القومي بالبيت الأبيض جون بولتون إلى ذلك. وبدل استعمال كل هذه الأوراق الرابحة، رأينا في الندوة الصّحافية لوزير الخارجية حديثا عن الحكم الذاتي ولا شيء غير الحكم الذاتي، ممّا يُعطي الانطباع للعالم وكأننا نحن من عرقل الاستفتاء وتهرّب من هو يخشى نتائجه، أو كأننا لسنا أصحاب حقّ وشرعيّة وإنما نبحث عن حل ترقيعي.. بينما يستمر الانفصاليون والجزائر في نعت المغرب “بالمحتل”، كذبا وزوراً وضداً على الشّرعية التاريخية والقانونية وقرارات مجلس الأمن. وأخشى أن تتسرب هذه الافتراءات إلى قاموس الأممالمتحدة ووثائقها تحت ضغط البروبكاندا الجزائرية مثلما تسرّب غيرها في غفلة منا. وأمام إصرار الجزائر على هدم وحدة المغرب وتسميم علاقاته مع إفريقيا، ومع مخططات سوداء بهذا التعقيد، وبطول نفس استغرق نصف قرن من الزمن، لا يمكن أن نستمر في التعاطي مع ملف وجودي كملف وحدتنا الوطنية في غياب إستراتيجية شاملة، تعرف من أين انطلقنا وأين نريد الوصول لتفادي التنازلات المجانية والمنزلقات الخطرة. إنّ المعركة حول الصحراء سياسية بامتياز وينبغي أن يتم الإشراف عليها من قبل الهيئات السيّاسية الدستورية، مَسْنودة بلِجان فرعية فيها الحزبي والدبلوماسي والأمني والتقني، وتشتغل على مدار الساعة وليس في المناسبات والمواسم. وأخيراً، لا بدّ من التذكير بأنّ الذي ترأس الوفد الجزائري هو نائب الوزير الأول رمطان العمامرة الذي خبر كواليس السياسة في دواليب الحزب الحاكم، وتمرّس داخل المنظمات الدولية حتى أصبح من كبار مستشاري الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتريس، وكان أوّل رئيس لمجلس السلم والأمن الإفريقي، ولازال “الممثل السّامي” للاتحاد الإفريقي لحل النزاعات، كما أنه عضوٌ في المنظمةالأوربية «crisis group». لعلّ الصورة بذلك تكون قد اكتملت والأمور قد اتّضحت في أذهاننا، لعلّ.. *باحث في القضايا الدولية والاستراتيجية 1. وسوم