أمام الأحزاب “الوطنية” مهمة مفصلية في تاريخ وجودها، فهي في مفترق طرق ولحظة صفاء مع الذات ومع مرجعياتها.لا مكان للحياد في قضايا الهوية: إما أن تدافع عن مبادئها التي شرعت وجودها أو تغدوأحزابا وظيفية وترتهن في يد المتحكمين في القرار التربوي والثقافي والاقتصادي المغربي. فاللحظة هي لحظة الوضوح مع الشعب والبحث عن الرشد السياسي. فإذا كان الاصطفاف السياسي تمليه في كثير من الأحيان الضرورة “الانتخابوية” والعلاقة مع السلطة،فإن الاصطفاف الهوياتي تحدده الرؤية المجتمعية التي تبرز الانتماء الحقيقي لكل هيئة سياسية فنغدو أمام تصنيفي حقيقي للأحزاب بين: الوطنية المنبثقة من رحم الشعب أو التي تريد إعادة رسم وضعها داخل المجتمع، وبين التي خلقت لتكون هيئة وظيفية تقنية بيد اللوبياتلأغراض معينة مرحلية واستراتيجية، كيفما كانت العناوين والأسماء والتاريخ والمرجعية، فتراها تتراقص بين الحبال حسب الأدوار، فتدافع عن الأمازيغية تارة، وعن الفرنسية تارة أخرى، وعن العاميات تارة أخرى، دون أن تكون منشغلة بأي منها، مادام انشغالها الرئيس هو مصالحها الفئوية ولو كانت على أشلاء ثوابت المشترك المغربي. كانت المدرسة،ومازالت،ميدانا لتجاذب المشاريع المجتمعية المختلفة، كما كانت اللغة منذ بدء الوجود الإنساني تعبيرا عن سلطة.وكما قال بارت “إن اللغة، ما ان ينطق بها، حتى وان ظلت مجرد همهمة، فهي تصبح في خدمة سلطة بعينها”. لذا عمدت الأنظمة والدول، منذ فجر التاريخ، إلى صياغة تداولها للغات وفق سياسات ورؤى معينة تعبيرا عن سلطتها ودفاعا عن سيادتها، فكان الجواب عن سؤال الهوية اللغوية ضروريا لضمان العدالة السياسية والوحدة الوطنية والتنمية المجتمعية. لذا ” أصبحت السياسات اللغوية جزءا لا محيد عنه في كل سياسة، نظرا لارتباط اللغة بالسيادة، وبحدود الدولة وبالسياسات الثقافية والاقتصادية والحقوق الفردية والجماعية، الخ”(الفهري،2013م). لكن تصطدم، في متابعة النقاش الجاري للقانون الإطار، بتصريحات بعض السياسيين، سواء في التدبير الحكومي أو داخل الفرق البرلمانية، والطريقة “الشعبوية” التي يناقشون بها قضية حاسمة مثل قضية لغة التدريس. فبعضهم يحاول بث الترهيب بربط النقاش بقرارات فوقية”سيادية”، وآخر يمثل بتناقض ذاتي بين الدفاع عن اللغة الوطنية وتدريس الأبناء باللغات الأجنبية في محاولة لتنزيه الدولة عن أخطائها، وآخر يأتيك بتجربته الشخصية ليعلق عليها موقفه السياسي، وآخر يستند إلى تقارير مصنوعة على المقاس من طرف الوزارة الوصية…وهكذا دواليك. لكن الغائب عن هؤلاء جميعا أن قضية لغة التدريس ليست قضية إيديولوجية تستحضر فيها الاصطفافات الحزبية بل هي قضية وجودية تعالج من خلال دراسات علمية ومرجعيات واضحة لا يمكن القفز عنها من أجل رغبات ذاتية. فالنقاش السياسي داخل أروقة المؤسسة التشريعية ينبغي أن يكون مخرجا من مخرجات البحث الأكاديمي والتفاعل المجتمعي، وليس الانطلاق من انطباعات ذاتية أو أجندات خفية أو أحداث خاصة من أجل تبرير اختيارات خاطئة. كما أن اختيار لغة التدريس ليس اختيارا آليا، والنقاش حولها لا يماثل النقاش حول القوانين الاجتماعية الأخرى بل يحمل أبعادا حضارية وثقافية ترتبط بكون اللغة في جوهرها هي منظومة قيمية. فهدف دعاة اعتماد اللغة الفرنسية في التعليم المغربي، سواء وعوا بالأمر أم لم يعوا،هو الحرص الشديد على ربط التنمية المحلية بالنموذج الكولونيالي المؤسس على استيراد التمدن، ومن ثمة خلق هرمية اجتماعية مبنية على الاستفادة من العلاقة بالمركز الاستعماري. وهذه الاستفادة مادية واجتماعية. فالعلاقة مع النموذج الفرنسي ليست انتماء إيديولوجيا فقط وإنما تجنى من ورائه منافع مادية تتجلى في المكاسب التي تربحها النخبة الفرنكفونية من فرض الثقافة الفرنسية في الاقتصاد والتعليم والإعلام. فاستعمال اللغة ليس مجرد قناعة ثقافية وإنما لهأيضا عائد استثماري. فتعلم الفرنسية في المغرب ينتج عنه استثمارات في التعليم الفرنسي وفي نشر الكتاب والتعلق المادي بالمركز، دون نسيان دور النخبة “المصنوعة” في قيادة البلد وولائها الدائم للمركز سياسيا وهوياتيا.ويكفي التذكير بالحرب التي شنها هؤلاء على دفاتر تحملات القطب العمومي للاتصال السمعي البصري التي هددت وجودهم المعنوي والمادي، وحركيتهم حين بدأ الحديث عن الإنجليزية في التعليم إبان التداول حول الرؤية الاستراتيجية للتربية والتكوين. كما يمكن ملاحظة تصاعد الإقبال على المراكز الثقافية الفرنسية منذ بدء وزارة “أمزازي” في فرنسة التعليم المغربي. وإذا كان النقاش حول لغة التدريس قد حسم، على الأقل نظريا، في بداية الاستقلال، فإن تلكؤ الدولة في الحسم الإجرائي، كتلكؤها في العديد من الملفات السياسية والاقتصادية، هو المسؤول عن تراكم الإشكالات التي تتجاذب الأطراف السياسية من أجل حلها، لدرجة أن يتجرأ برلماني داخل مؤسسة دستورية على اتهام سياسة التعريب وقذفها أمام أنظار الأمة دون محاسبة أو متابعة. بأي لغة ندرس؟ قد يبدو السؤال ساذجا ونحن نعيد طرحه بعد سنوات الاستقلال، وتناسل الدراسات العلمية والأكاديمية التي تؤكد أن نجاح المنظومة التعليمية مرتبط إلى أبعد الحدود بالاختيار اللغوي. لكن طرحه من جديد هو لتنبيه المتعاطين للشأن العام إلى خطورة الموضوع ومركزيته في السيادة الوطنية. فالجواب الذي يفرض نفسه على المتداولين داخل أروقة البرلمانللقانون الإطار لا يمكنه أن يخرج عن ثلاثة خيارات: خيار الفرنسة: الذي اختطته وزارة أمزازي ومن وراءه من الأحزاب”الإدارية” والقائم على مفهوم التناسب بين المستويات الدراسية وأن لغة موليير هي لغة الانفتاح على المعرفة والعلوم الكونية. هذا من حيث الطرح النظري المعلن، وإن كان الخفي هو الارتماء المطلق في أحضان المركز الفرنسي اقتصادا وسياسة وثقافة، مما يضيع يوميا على المغرب فرصا كبيرة للانفتاح على دول وقوى عالمية أخرى،بل الأكثر أن هذا الخيار يطرح إشكالات عديدة يمكن إيجازها في القول بأن الفرنسية ليست لغة العلم، وفرنسا ليست نموذجا للتعليم الراقي،فقد غابت عن المراكز العشرين في تقرير تمبس لجودة التعليم، بينما تفوقت نماذج تعليم لدول كانت حتى الأمس القريب متخلفة مثل سنغافورة التي حققت قفزة نوعية في التعليم. وقد نبهت جريدة لوموند في افتتاحيتها يوم 7 ديسمبر 2016 للأمر تحت عنوان: لماذا لا يتقدم التعليم الفرنسي؟.وهذا لا يعني رفض الفرنسية باعتبارها لغة مُدَرسة ذات تراث معرفي وأدبي يمكن الاستفادة منه، لكن الحاجة إليها لا ينبغي أن يكون على حساب مستقبل المدرسة المغربية ومعها مستقبل الدولة. الخيار الرواندي: في منتدى الحوارات الأطلسية حول التحديات التي تجابه القارة الإفريقية، الذي احتضنته مدينة مراكش، لخص سيلاس لواكابامبا، وزير التعليم الرواندي السابق، سبب التطور الذي شهدته بلاده خلال عشر سنين وهي التي كانت قبل 2008 نموذجاللفقر والحرب الإثنية بقوله: “قرر المسؤولون في بلدي رواندا تطبيق إصلاحات شاملة وجذرية للنظام التعليمي للبلد، وتوظيف خبرات أجنبية في هذا الإطار، واعتمدنا في البداية على ازدواجية اللغة الفرنسية والإنجليزية، ليتم فيما بعد إلغاء الفرنسية ابتداء من المستوى الرابع ابتدائي، وهو ما سمح لنا بتحقيق نتائج باهرة، والشروع في تقليص الهوة الرقمية في رواندا”. وهو نموذج رائد يمكن الاستفادة منه. لكن الأمر المحسوم فيه علميا أن الإبداع العلمي لا يمكنه أن يكون إلا باللغة الوطنية، لأن هناك دولا اختارت الإنجليزية ولم تستطع تحقيق النمو المراد. وكما عبر عنه أحد الخبراء:” ان كثرة المنشورات العلومية في لغة من اللغات مكانه ان يكون دليلا على وجوب تقوية وتعزيز تعليم تلك اللغة لا دليلا على وجوب التدريس بها،فرق بين تعلم اللغة للوصول الى منشوراتها العلومية وبين تدريس العلوم بتلك اللغة، تدريس العلوم بتلك اللغة لا يوصل الى منشوراتها، وانما يوصل الى تعليم مبادئ العلوم بتلك اللغة0وذلك ليس شرطا للوصول الى منشوراتها ولا موجبا لذلك فان الوصول الى منشوراتها العلومية شرطه رغبة المريد الذي يريد الوصول اليها ويتعلم لغتها”(أحمد العلوي2019)0 الخيار الوطني: بعيدا عن المزايدات الإيديولوجية التي دفعت البعض إلى استغلال النقاش حول التعليم الجاري حاليا لفرض الفرنسة من جديد، فإن الاختيار المنطقي ينبغي أن يكون ليس بين لغة أجنبية وأخرى وطنية، وإنما بين لغتين وطنيتين: العربية والأمازيغية، في تطبيق حقيقي للدستور المتوافق على مقتضياته. وفي انتظار التأهيل الكامل للأمازيغية واستيضاح مواطن الاستعمال وأولوياته وفق خريطة وظيفية فإن الأولى الآن هو الاشتغال بجدية على جعل العربية لغة التعليم في جميع مسالك الدراسة. واستعمال العربية في التعليم لم يعد قضية هوياتية فحسب، وإنما بات شرطا أساسيا لتنمية أدوات التفكير وتنمية القدرات الذهنية والملكات الإبداعية، فضلا عن استيعاب المعرفة المتسارعة المتجددة. لذا فإن إبقاء العلوم رهن الاحتجاز في الدائرة الفرنكفونية يمثل عقبة في طريق إقامة جسور التواصل بين التخصصات العلمية وفضاء التنمية. وكما قال الدكتور الجابري:” إذا أريد لشعار “دمج التعليم في المحيط” أن يكون له مدلول ملموس فيجب أن يفهم منه أولا وقبل كل شيء جعله باللغة التي يفهمها المحيط. يمكن للمرء أن يستقبل العولمة أو التحديث والمعاصرة بأيد مفتوحة بدون حدود، ولكنه لا يستطيع أن يجعل الشعب الذي ينتمي إليه يتكلم لغة غير لغته”. لذا، فالرهان على الفرنسية أو أي لغة أجنبية لغة لتدريس العلوم والمعارف باسم العلمية له انعكاسات علمية واجتماعية وغير مقبول منطقيا. فلو أخذنا أي كتاب تقني يضم مئة ألف كلمة تقريباً. وجمعنا عدد كلمات المصطلحات الأجنبية فيها لوجدناها لا تتجاوز 600 كلمة؛ أي اقل من 1%، حسب بعض الإحصائيات التي جرت على بعض الكتب العلمية. فهل يجوز أن نترك 99700 كلمة من أجل 300 كلمة قد يوجد اختلاف على ترجمتها؟. ولن يبقى أمامنا إلا خيارا واحدا لولوج مجتمع المعرفة هو اعتماد اللغة العربية في تدريس العلوم في التعليم العالي وتكوين الأطر وفي تعليم التقانات والحرف في جميع المستويات. هذا هو الطريق. لذا ستظل قولة علال في 1952حاملة لراهنيتها ومشروعيتها وأي تجاوز لمقتضياتها لن يعدو اجترارا للفشل مع ما يكلف المغرب حضاريا وماديا وسياسيا:”إن لغة التعليم في المغرب يجب أن تكون واحدة، يجب أن تكون هي اللغة العربية، فإذا أخذت لغتنا مركزها من كل المدارس لم يعد علينا بأس بعد ذلك إذا أضفنا لها لغة أو لغات حية تفتح لنا آفاق الاتصال بالعالم الغربي الذي نتطلع إلى الاقتباس من تجاربه وفلسفاته”. واعتماد هذا الخيار هو الذي يعطي لأي هيئة مشروعيتها الوطنية وحقها في الحديث باسم الشعب الذي ينتفض كلما مست لغته العربية. وبهذا يكون الوضوح المبدئي.