انعقد اللقاء الثاني الشهري لثلة من المثقفين والفاعلين السياسيين والجمعويين، بمقدمة للأستاذ عيسى الورديغي الذي ذكّر بأهمية النقاش بالنسبة لبلاد تحتاج لحوار جاد، مستقل وصادق حول إشكالات استراتيجية وتنموية مصيرية. وأشار مسير اللقاء، إلى سلسلة الدفاتر التي عممها الباحثان نور الدين السعودي وعبد العالي بنشقرون في محاور شتى، تتقاطع مع إشكالية ما يسمى بنموذج التنمية، قبل لأن يتناول الكلمة الجامعي والباحث الاقتصادي نور الدين العوفي الذي سجل أن دفاتر الباحثين، شكلا اجتهادا مهما ومتعدد الجوانب والمحاور، وقدما إطارا هاما للنقاش والحوار المطلوب وطنيا، وأن مساهمتهما هذه تشكل أرضية غنية يلتقي مع أهم مضامينها، ملاحظا أنه في عرضه في هذا اللقاء الثاني سيضيف بعض الأسس النظرية لهذه الرؤى بشكل تكاملي، على أساس تطوير الحوار العام من خلال مساهمات الأخوات والإخوة الفاعلين والمثقفين في المغرب. وافتتح الأستاذ العوفي مداخلته المعنونة ب”النموذج التنموي الوطني: الرؤية والخطوات”، بمحاولة تحديد مفهوم النموذج، ومفهوم البديل، مشيرا إلى أنه قد يكون مثالا أو تمثيلا للواقع، أو مثالا يقتدى به، أو يُعمل به وأن المقصود بالنموذج التنموي في النقاش الدائر اليوم هو ما يصطلح عليه في اقتصاد التنمية منذ النشأة في الستينيات من القرن الماضي باستراتيجية التنمية، أي جملة التوجهات، والاختيارات الكبرى المحددة لها في المجالات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والجمالية، إلخ. وقال إن التنمية تندرج في المدة الطويلة، ولها علاقة بالبنيات، وبالأنساق العامة، بخلاف النمو الذي يرتبط بالسياسات الظرفية، وبالمدة القصيرة. أما مفهوم البديل فيعني، في نظره، الخيار الآخر لما هو سائد. وقد يكون خياراً شاملا ومطلقاً، أو يكون جُزْئياً، يمس بعض المناحي ويحافظ على أخرى. واعتبر أنه في الحالة الأولى نكون أمام قطيعة تامة مع النموذج السائد، وتشييد نموذج جديد، على أنقاض القديم، بمُرتكزات وآليات جديدة مشيرا إلى أنه في التاريخ توجد أمثلة كثيرة لقطائع مع الماضي سياسية، وإيديولوجية، وعلمية. وتابع أنه في الحالة الثانية، “نكون أمام صيغة جديدة، صيغة قد يعلو فيها منسوب التغيير والتجديد والإصلاح، أو قد ينخفض” معتبرا أن المغرب لم يعرف منذ الثمانينيات من القرن الماضي من البدائل سوى التقويم، ثم “الإصلاح من أجل الخروج من التقويم” (حكومة التناوب التوافقي)، ثم الإصلاح من أجل العودة إلى التقويم، لتأْدِيته هذه المرة، بالإرادة الطوعية للحكومة (الحالية والسابقة)، بدون ما حاجة إلى إملاءات، ولا إلى توصيات مباشرة من المؤسسات المالية الدولية. وخلص أن لكل هذه المسارات التاريخية آثار مسجلة في الواقع، ساهمت في تكييف الاقتصاد الوطني، وأرست ما يسمى، في الاقتصاد التطوري، ب”تبعية الطريق”. وقال من “تبعية الطريق” هذه جاءت مقولة “الواقعية الاقتصادية”، والإصلاح من أجل الخروج من التقويم تحت حكومة التناوب التوافقي. الإصلاح في هذه الحالة يعني انعطافاً في المسار، وتحولاً في السياق، وتفرعاً في النسق. البديل الاقتصادي هنا يعني بديلا في النموذج، وليس بديلا للنموذج السائد. ولإثبات ذلك تناول حوارا لإدريس بنهيمة في إحدى الجرائد الإلكترونية بتاريخ 21 يناير 2019 حول “النموذج التنموي الجديد”، حيث ركز على بضعة أفكار منها أن النموذج الحالي، الذي هو في جوهره نموذج ليبرالي، لم يفشل، بل بناءً عليه تمكَّن المغرب من تجنب السكتة القلبية، ومن تحقيق نتائج اقتصادية مُرْضية أمست، اليوم، مكتسبات قابلة للتطوير. إلا أن النموذج الذي استنفذ طاقاته وبلغ حدوده القصوى، لم يعد بوسعه أن يستعيد إنتاجيته ونجاعته سوى بتجديد مضامينه، وآليات انتظامه، وأساليب اشتغاله. كما تناول السيد بنهيمة، حسب نور الدين العوفي، فكرة أن المضي في الطريق الليبرالي يعنى، بالأساس، العودة إلى أساسيات الليبرالية، والتي يختزلها في ضبط الأسواق (تنزيل قانون المنافسة)، والإنصاف الجبائي (تخفيض الضريبة على الشركات إلى أقل من 30 ٪، وتوسيع الوعاء الضريبي) والحكامة الجيدة. في غياب هذه الأساسيات لن يكون باستطاعة المغرب أن يحقق معدلات النمو التي يتطلبها الإقلاع الإقتصادي والتي ينبغي أن ترتفع إلى 7٪ -9٪. وتابع أن الفكرة التالية مؤداها أن الوضعية الاقتصادية هي اليوم أفضل بكثير من التمثلات الناتجة عن تراجع القدرة الشرائية للطبقات المتوسطة (التي يتراوح دخلها بين 7000 درهماً و 000 20) والناجمة بدورها عن تدني الخدمات الاجتماعية، وعن تدهور المرافق العمومية (من تعليم وصحة ونقل وسكن). أما الفقر فهو، في تحليل ادريس بنهيمة، ليس نتيجة للنموذج الليبرالي السائد بقدر ما يعود إلى “الآثار الجانبية”، أو “الآثار الضارة” المرتبطة بالعولمة، وهو ما أمسى يقتضي استدخال أنماط من الاقتصاد التضامني لإدماج الفئات الهشة والمناطق المهمشة. وأوضح المحاضر أن مثل هذه المواقف المتباعدة والمتضاربة، بل والمتناقضة هي التي تفرض اعتماد منهجية غنوصية، تعتمد مقاربة توافقية لبلورة النموذج الجديد، وهندسة تشاركية لاختياراته، وتصميم تداولي لأولوياته، وذلك لأن الأمر يتعلق بلحظة تأسيسية، بنائية، أو بلحظة إعادة بناء الرؤية التنموية ولأن المجتمع مجتمع مُركَّب (بورجوازية، طبقة وسطى، طبقة عاملة، ملاكون كبار، فلاحون فقراء)، ولأن أنماط الملكية أصبحت متعددة (عمومية، خصوصية، مشاعية)، ولأن العيش المشترك يتطلب التحكيم بين المصالح المتضاربة. واعتبر أن المقاربة التوافقية هي تركيب لثلاث دوائر متشابكة، ومتكاملة فيما بينها، تتألف من الخبرة الوطنية بالنسبة للجوانب العلمية، والتقنية، والفكرية، والمداولة العمومية، والمشاركة الشعبية في تحديد الحاجيات، والتعبير عن التطلعات، والطموحات، محلياً، وجهوياً، ووطنياً، والمشروعية الديمقراطية بالرجوع إلى الأجهزة التمثيلية، أو عن طريق الاستفتاء الوطني. وأبرز أن موضوع التوافق، يكون هو الخيارات الاستراتيجية، أو الإطار المرجعي للنموذج التنموي الموجه للسياسات العمومية الحكومية. وبالنسبة إلى نور الدين العوفي هناك أربعة شروط لا بد أن تكون حاضرة في الصياغة التوافقية تتضمن شمولية الاختيارات وتكامليتها (النموذج لا ينبغي أن يُجزَّأ)، وانسجام الخيارات الاستراتيجية، والتقائيتها، واندراجها في الدينامية الوطنية والدولية، وإمكانية التحقيق باعتبار الدينامية التنموية. وحدد شروط الخيارات الاستراتيجية في التنمية الوطنية والمستقلة (استثمار وطني، التكوين الخام لرأس المال الثابت، الأمن الغذائي، الأفضلية الوطنية في الصفقات)، والتنمية البشرية والمستدامة (التحول البيئي)، والتصنيع المتوازن، الإدماجي، والتنافسي، والحماية الاجتماعية، والعدالة الاجتماعية (إعادة توزيع ضريبي، نظام تصاعدي، منتج) والمجالية، والتحول البيئي. وبخصوص الأولويات، قال إن التنمية لا تتم سوى بالوقوف على القدمين كما يعنيها كل من ماو تسي تونغ وبول ريكور، وأن التوازنات الماكرواقتصادية التي تأخذ بعين الاعتبار الدورات الاقتصادية كعجز الميزانية، ومعدل التضخم، والدين العمومي (عجز الخزينة بلغ 65٪ من الناتج الداخلي الخام والعجز العام 82٪، 45٪ من نفقات المقاولات يغطيها الاستيراد)، يجب تحقيقها مع التوازنات الاجتماعية والمجالية والنوعية (عند اعتماد الاستثمارات، وعند صياغة السياسات العمومية والميزانية)، والاستثمار في الضروري من التنمية (التعليم، الصحة، السكن اللائق، العمل اللائق)، مع الاستثمار في البنيات التحتية، وفي البنيات الفوقية (الثقافية، والسلوكية، والجمالية)، وتحسين مناخ الأعمال (شفافية، منافسة)، مع تجويد الخدمات الاجتماعية. وخلص إلى أن الدولة هي المنمية والضابطة للأداء الاقتصادي الماكرو والميكرواقتصادي في إطار الاختيارات الكبرى والأولويات المتحركة، والمحفزة للمقاولة الوطنية، المنتجة، والمسؤولة اجتماعياً، والخلاقة (لمناصب الشغل اللائق، والمبتكرة لأساليب التنظيم والتدبير، والمساهمة في البحث للتطوير)، والتخطيط الاستراتيجي، الاستشرافي والاستباقي، وضبط السوق والمنافسة. وقد تلى هذه المحاضرة نقاش غني تراوح بين من يعتمد النموذج الليبرالي ولا يري عنه مناصا وبين من يشير إلى الأهمية الكبيرة التي تكتسيها الصناعة الثقافية على الصعيد الدولي، وبين من يحاول تلمس نماذج أخرى، ووضع قطيعة مع النموذج السائد الذي أبان عن فشله، مشيرين إلى وجود نماذج كانت ناجحة كنموذج الصين وسنغافورة، مبرزين أن هذا النموذج لا يمكن تحقيقه إلا في إطار دولة ديمقراطية تحترم القانون، وتعتمد التنافسية والشفافية والمحاسبة.