التعامل الرسمي مع الحراك .. المراحل الخمس المرحلة الأولى: جاء الحراك في ظل مرحلة تعددت فيها أوجه الاحتجاجات على المستوى الوطني، لكن الريف عرف هزة قوية بعد مقتل محسن فكري. النظام اختار، في هذه المرحلة، الانتظار والترقب والمتابعة مع الأمل في أن الوضع سيعود إلى طبيعته، وأن الحراك سيخفت ويخبو، تدريجياً. لكن لوحظ، على العكس من ذلك، أن الحراك ازداد وهجاً واتقادا، وانضم إليه عشرات الآلاف وأصبح له قوة ملفتة. وباشر النظام القيام ببعض مبادرات التهدئة والزيارات والاستماع إلى الناس، ومحاولة طمأنتهم إلى أن الدولة ستأخذ بعين الاعتبار مطالبهم. محاولة عزل الحراك المرحلة الثانية: أصبح الاتجاه الرسمي، فيها، يميل إلى محاولة عزل الحراك عن المحيط العام، وإظهاره كمولود غير طبيعي وغريب عن النسق السياسي المغربي. وهنا شُرِعَ في الترويج لأطروحة الانفصال وأطروحة الخارج. وكان الهدف هو خلق شبه إجماع وطني ضد الحراك، وبناء جبهة عريضة لمواجهته. وكانت الخطوة الأولى هي محاولة البدء بخلق إجماع حزبي، واسْتُنْفِرَت الكثير من وسائل الإعلام لتعزيز الأطروحة المُسَفِّهَةِ للحراك. وأغلب تلك الأطروحات هي من النوع الجاهز الذي يتم الترويج له في كل المناسبات التي يجد النظام نفسه فيها أمام حركة جماهيرية احتجاجية. وأصبح يُضاف إليها استغلال الوضع المأساوي الذي يخيم على عدد من البلدان التي تأثرت بموجة "الربيع العربي"، ويتم تحميل المسؤولية للخارج أكثر من الداخل. وهذا التوجه يحاول ما أمكن أن يخفي مركزية الدور الذي لعبه وجود الاستبداد في حصول كل ما حصل. والسلطوية، عندنا، لا تبذل أي مجهود لتعليل أطروحاتها. فنظرية المؤامرة موجودة، دائماً، وكذلك اعتبار النقد والاعتراض والمعارضة خروجاً عن الدين، وادعاء تصلب المتظاهرين وعرقلة التجارة والتنقل والسياحة والإضرار بالاقتصاد. بينما يلاحظ أن المتظاهرين قد راعوا تباعد مواعيد المظاهرات، فقبل الشروع في حملة الاعتقالات، كان موعد التظاهر المبرمج سيحل بعد عدة أسابيع. لقد تَمَّ شن هجوم دعائي شديد على الحراك ونشطائه. وهكذا، استُعملت أطروحة الانفصال وتم تفنيدها من طرف النشطاء بشكل صارم. وتَمَّ الاستناد إلى أطروحة الفتنة، وهذه الأطروحة يتم استخراجها لفرض نوع من الحظر العملي على أشكال النضال المشروعة ولو استندت إلى أقصى درجات السلمية. وتَمَّ استظهار أطروحة الخارج ولكن مع نوع من التذبذب والارتباك، فأحياناً يجري إسناد مسؤولية التحريك إلى جهة أوروبية، وأحياناً جزائرية، وفي تحليلات أخرى إلى إيران، الشيء الذي يفتقد للجدية. وتَمَّ اللجوء، أيضاً، إلى الأطروحة التي تعتبر بأن نشطاء الحراك يريدون زعزعة ولاء المغاربة، وأهل الريف خصوصاً، لدولتهم كما لو أن هؤلاء النشطاء قد طالبوا بالتحاور مع ممثل عن الأممالمتحدة وليس مع ممثل عن الملك. إذا كان النشطاء يطالبون بتدخل الملك، فهل هناك جهة أخرى لتمثيل السيادة المغربية أسمى منه؟ واستُخرجت أطروحة العنف، أيضاً، وقيل إن الحراك ليس سلمياً، لكن الصور والفيديوهات، المنتشرة في كل مكان، عن المسيرات الهائلة والناجحة التي عرفتها الشهور الأولى من الحراك، كانت كافية لإثبات الطابع السلمي. هنا انتقل المعادون للحراك إلى الأطروحة القائلة بأن الحراك بدأ سلمياً ثم زاغ عن مساره. لكن إذا كنا نعتقل القادة الذين يضمنون السلمية، فكيف نقول إنه وقع انزياح بينما القادة، الذين يُعتبرون مسؤولين عن السلمية موجودون رهن الاعتقال. ورغم ذلك، فالحراك لم يخرج عن السلمية، هذا مع العلم أننا يجب أن نحكم على السلمية انطلاقاً من مشهد التظاهرات العامة المبرمجة، والتي يقوم نشطاء معروفون بتحمل المسؤولية عنها. أما بعض الأحداث التي يمكن أن تقع خارج لحظات التظاهر العام المبرمج، أو الاحتكاكات التلقائية التي لا تخضع لقرار مسبق، وتكون "خارج السياق"، فإنها لا تنهض حجة للحكم على الحراك. إن الشعب لا يمكن أن يكون له مؤطرون ذاتيون يتابعون حركاته وسكناته، يومياً، علماً بأن هذا النوع من الاحتكاكات، التي وقعت على هامش الحراك والتي ليست في الواقع جزءًا من الحراك، كانت محدودة جداً، لأن الوعي يزداد، يوماً عن يوم لدى المتظاهرين، بضرورة التزام السلمية. طبعاً، عندما يخرج الناس بعشرات الآلاف، فقد نعثر على من يريد أن يجد في هذا الحراك ضالته، فنجد صاحب توجه عرقي، أو انفصالي، أو سلفي يحلم بأن يتحول هذا الحراك إلى قومة كبرى عارمة تنتهي بإقرار ما يعتبره شرع الله، أو راديكالي يعتبر الحراك إيذانا بانطلاق ثورة تبشر بالمساء الكبير، وتدك قلاع الدولة القائمة، وتسقط أركان النظام، وتقضي على كل البنيات السياسية القائمة بالمرة، وتحيلنا إلى وضعية بياض ثوري يخرج نظاماً جديداً من القمقم، على حين غرة، ومن حيت لا نحتسب. ولكن الموضوعية تقتضي منا الحكم على الحراك في إجماله من خلال المادة التي تشكل، جوهرياً، كيمياء هذا الحراك، وتحدد مقوماته العميقة والبارزة. لقد أضاع النظام فرصة السعي لخلق حوار مباشر مع قادة الحراك متصوراً أنه عندما يتحاور مع الزفزافي ورفاقه فإنه يمنحهم المشروعية، وينزعها بالتالي عن المؤسسات. والحال أن المؤسسات لها مشروعية قانونية لن تزول بمجرد منح قادة الحراك مشروعية سياسية. الزفزافي ورفاقه هم، ربما، نموذج لنخب مقبلة، والأجدر أن يكون هناك توجه –في نظرنا- يروم إتاحة الفرصة لهؤلاء لكي ينقلوا فعالياتهم ونضالاتهم من حقل الشارع إلى حقل المؤسسات حتى تصبح هذه المؤسسات قادرة على التقاط نبض الشارع وحتى لا يستمر الشرخ الكبير القائم بين المشهد المؤسسي من جهة، ومشهد الشارع، من جهة أخرى. فمن نجح في إخراج الناس إلى الشارع هو من يستطيع إدخالهم إلى بيوتهم وإقناعهم بأن التسويات أو الحلول التي يتم التوصل إليها مفيدة ويمكن المراهنة عليها هذه المرة. مصدر شرعية الزفزافي صحيح أن قيادة الحراك لا تتوفر على ذلك التمرس السياسي الذي يجعلها محصنة ضد بعض التجاوزات اللفظية، ولكن المشروعية الحقيقية التي أصبح يمتلكها الزفزافي ورفاقه، متأتية من موارد ومصادر متعددة، وعلى الخصوص، من شعبيتهم والجماهيرية التي اكتسبوها، وثانياً من قدرتهم على ضمان سلمية المظاهرات والاحتجاجات والمسيرات التي أشرفوا على تنظيمها، وثالثاً من وضوح مطالبهم، وهذا الوضوح يعني أن تلك المطالب لها قاعدة ولها سقف، ورابعاً من كونهم يتوفرون على عزيمة وإرادة قوية، واستعداد للتضحية. فحتى على مستوى الخطاب، يمكن لأي متتبع موضوعي أن يلاحظ بأن هناك نضوجاً تدريجياً في ذلك الخطاب. فالأمر، في نظرنا، يتعلق بنخبة يجب في الأصل أن نفتخر بها ونعتز بها، فبفضلها لم نجد أنفسنا أمام الفراغ، وأمام شارع يعبر عن غضبه بكل الطرق. نحن، اليوم، أمام شارع يعبر عن غضبه بطرق تتوفر لها الحدود المطلوبة من السلمية ومن التأطير. اختار النظام أن يستبدل الحوار مع قادة الحراك بحوار مع آخرين، وارتكب سلسلة من الأخطاء في هذا المسار. ما معنى، مثلاً، أن يضم الوفد الوزاري، إلى الحسيمة، عدداً من المُوَّرَطِينَ في الملف الذي سُمِّيَ بملف "خدام الدولة". بغض الطرف عن التقديرات المختلفة، التي يمكن أن تُعتمد في النظر إلى هذه القضية، فإننا لا يمكن، في جميع الأحوال، أن نتجاهل الأثر الذي خلفته قضية خدام الدولة لدى الرأي العام، والذي جعل الكثير من المواطنين المغاربة يعتبرون بأن كل من ارتبط اسمه بهذه القضية هو غير مؤهل لتقلد أي منصب عام، فبالأحرى أن يكون مؤهلاً للعمل على إخماد حراك اجتماعي من حجم ما وقع ويقع في الريف. وبالإضافة إلى هذا، فإن النظام، في طريقة معالجته لهذا الملف، يحاول أن يجعل المشكلة التي يعتبرها مصدراً للغضب الشعبي في المنطقة تتلخص فقط في التباطؤ أو سوء تنفيذ البرنامج الذي يحمل إسم (الحسيمة : منارة المتوسط). النظام، اليوم، ينطلق من أن البرنامج هو برنامج صالح، بدون منازع، ويقدمه على أنه كان كافياً لحل كل مشاكل المنطقة، وأن كل ما هناك هو أن مجموعة من المسؤولين لم يسهروا على تنفيذه بشكل كامل. حادث المسجد المرحلة الثالثة: بدأت هذه المرحلة بحادث المسجد، حيث بدا لناصر الزفزافي، قائد الحراك، أن يتدخل، أثناء الصلاة، ليُعَقِّبَ على خطبة الجمعة التي ألقاها خطيب بأحد مساجد الحسيمة. بعد حادث المسجد انطلق مسلسل الاعتقالات التي ستطال قادة الحراك. اعتبر النظام بأن سكان الحسيمة سينسون مع مرور الوقت مشكلة قادة الحراك، وأن النجاح في إظهار بوادر "الحل" التدريجي للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية، سيسمح بتهدئة الأوضاع ورجوع الناس إلى بيوتهم ووقف كل الأشكال الاحتجاجية. البعض اعتبر بأن الزفزافي ارتكب خطأ لا يُغتفر وسقط في اللعبة، ومنح خصوم الحراك مبرراً للتدخل القمعي، مادامت هناك قاعدة قانونية تقضي باحترام حرمة المساجد وبعدم مقاطعة خطيب الجمعة، أو عرقلة العبادة. ولكن مع ذلك، يجب ألا نتجاهل مسؤولية النظام والمحتوى الخطير الذي انطوت عليه تلك الخطبة. حيث يتجلى بشكل سافر استثمار مؤسسة دينية عمومية، واستثمار الدين في تعطيل وتجميد حق المواطنين المغاربة في الاعتراض وفي الاحتجاج وفي تفعيل حقوقهم. إن الخطبة في النهاية تمارس نوعاً من التشطيب شبه المبدئي والكامل على أية آلية من الآليات الديمقراطية المخولة للمواطنين لإسماع صوتهم وممارسة حقوقهم في التنظيم والتجمع والتعبير لتغيير السياسات والبرامج التي يعتبروها ضارة بهم. تضمنت الخطبة اتهاماً صريحاً للحراك؛ لقد جاء فيها أن لا شيء في الدين يبرر أو يسمح بتخريب الممتلكات ونهب الأموال وتعطيل مصالح الناس وإغلاق الطرقات وتفريق الكلمة وضياع البلاد في نهاية المطاف؛ فهي، هنا، تتهم الحراك بما لم يصدر عنه، وبالتالي تقدم صورة مخالفة لحقيقة مجريات الحراك. وهي تعتبر بأن الفتنة إذا أقبلت يعرفها العلماء وإذا أدبرت يعرفها العامة ولكن بعد فوات الأوان، والعلماء هم ورثة الأنبياء. معنى هذا أن خطيب الجمعة عندما يحسم ويفصل بأن الحراك فتنة، فحتى وإن لم يلمس الناس شيئاً من ذلك، فإن "إدراك" الخطيب لها لوحده كاف لكي يوقع على عاتق الناس واجباً دينياً، ليس فقط بوقف الحراك، بل بمحاربته. إذن معنى هذا أن الحقوق يجب أن تمر، قبل ممارستها، عبر العلماء، إذا أجازوها جازت، وإذا عارضوها حُرِّمَتْ. هذا وجه من أصولية الدولة التي تلتقي مع أعتى الأصوليات المتطرفة التي ترى بأن انتماءنا الإسلامي يحرم علينا استعمال الآليات الكونية للديمقراطية. ومن جهة أخرى، تعتبر الخطبة أن علاج أي وجه من أوجه القصور، أو التعبير عن المعاناة، أو تبليغ المطالب أو شيء من هذا القبيل، يجب أن يتم باستعمال الطريق التي تتماشى مع مبادئ ما يُعتبر شرعاً إسلامياً وأن يستند إلى الكتاب والسنة. وهذا يتناقض مع الدعوات في المواقع الاجتماعية، أو التعبئة من خلال الفضائيات أو من خلال خطاب يستصغر النعم والمنجزات والمكتسبات. وعليه، فكل من يستعمل الأنترنيت أو يمارس حق الاختلاف أو يعترض على سياسات عمومية أو يبرز خطأ بعض القرارات، إنما يركب سبيلاً مخالفاً للدين. والخطبة، أيضاً، تنتصر لفكرة مؤداها، أن عدم الجحود بنعمة الأمن في البلاد، يعني الصمت والسكوت، بكل بساطة، أي عملياً إبقاء الأوضاع كما هي وتعليق كل أدوات الضغط، واعتبار أن وجود الأمن "في حد ذاته" كاف لكي يفرض علينا التخلي عن تقديم مطالب أخرى تهم حياتنا، وهذا فيه تجاهل حتى للتوجيهات الواردة في المتن الديني الإسلامي، هناك حديث أخرجه الترمذي في سننه قال فيه رسول الله (ص) : "من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه ، فكأنما حيزت له الدنيا"، فهذا يعني أن الأمن كل لا يتجزأ، وأنه لا يمكن الحديث عن نعمة الأمن منفصلة عن تحصيل التعافي في الجسد وتحصيل القوت الذي يضمن المعيشة، فالأمن دينياً كل لا يتجزأ. دائرة القمع المرحلة الرابعة: اتسمت بتوسيع دائرة القمع، والانتقال من اعتقال قادة الصف الأول للحراك، إلى اعتقال قادة الصف الثاني، ثم اعتقال عناصر من عموم النشطاء، ومن مرتادي ونشطاء الفايسبوك ومواقع التواصل الاجتماعي، وقمع مختلف أشكال التضامن الوطنية مع الحراك. وبعد اتساع أخطاء النظام وانتهاكاته وتضارب مواقفه، وخاصة بعد قمع حركات التضامن ومنع ندوات في قاعات عمومية، واعتقال نشطاء الانترنيت والصحفيين والمصورين وموثقي الأحداث، ظهرت تناقضات في صف النظام فأصبحت بعض الأصوات المقربة تبدي نوعاً من التحفظ وتأخذ مسافة من بعض مظاهر التوجه الذي يلخصه سلوك النظام في هذه المرحلة الرابعة. المرحلة الخامسة: هي التي دشنها الخطاب الملكي لعيد العرش، فقد حسم الأمور في اتجاه معين، وقام بترسيم وضع قائم وإعطائه الصبغة الملكية، والتأكيد على أن القرارات المتخذة في مواجهة الحراك تحظى بالتزكية والرضى الملكيين. بمعنى أن مواجهة الحراك، وبالشكل الذي تتم به، لن تعرف أية مراجعة في الحاضر. ما يقع إذن، حسب خلفية الخطاب الملكي، أملته ضرورات عملية مرتبطة بالمصالح العليا للدولة، وما يسميه البعض ب "المقاربة الأمنية" قد يكون ضرورياً في بعض المراحل، وهو لا يعني انزياحاً عن توجهات وثوابت النظام السياسي، بل يُعتبر جزءاً منه، عندما نكون أمام ظروف كالتي عشناها في حراك الريف. إذن مراجعة المنطق الذي يتم به التعامل به مع الحراك والممهور بنوع من التشدد، لا يجب أن تُعتبر، في نظر الخطاب، مهمة حالية، والدولة يجب أن تُبدي الحزم الضروري في مواجهة رهان جدي..