الحب عاطفة سامية نبيلة ,تغنى بها الشعراء و كتب حولها الكتاب ,و كان لها وقع كبير في الأدب عامة جعلها الله عاطفة فطرية مشتركة بين الانسان و الحيوان ,و لا يمكن للحياة أن تستمر دونها ,و هي احساس معقد يتحكم فيه الشعور و اللاشعور ,و يتفاعل فيها العقل مع القلب ,فبقدرما يؤثر العقل في القلب يمكن أن يؤثر القلب في العقل ,تبعا للمواقف التي تعتبر مرجعية في كل ردة فعل لهما ,و بالتالي تتغير الأدوار بينهما من موقف لاخر ,فيمكن أن يكون القلب مؤسسا للحب و يلزم العقل بقبوله ,كما يمكن للعقل أن يؤسس هذه العاطفة على مرجعيات و مواصفات خاصة فتتم الاستجابة لها من طرف القلب .و الحب غير مرتبط بالزمان أو المكان فيمكن أن يبدأ في أي مكان و أي زمان .كما أنه غير مرتبط بالوجود أو الرؤية العينية (رغم أن من علماء النفس من ينفي ذلك) فالمسلمون يحبون الله و الرسول رغم أنهم لم يروهما (كوجود مادي) ربما كانت هذه نظرتنا الفكرية البسيطة لمفهوم الحب .الى أن ما يهمنا من خلال طرح هذا الموضوع هو التعرف بالأساس على الاشارات و العلامات الاولى الدالة على ان انسان(ة) ما يسير او تسير على درب الهوى و على وشك الوقوع في الحب.معتمدين على منهج استنباطي حيث سننطلق من نص بالغ الاهمية لدراستنا وهو مقتطف من رسالة ابن حزم الأندلسي (994-1064م) 'طوق الحمامة في الالفة و الألاف' على ان نترك للقارئ مهمة الاجابة على سؤال محوري :هل كل علاقة عابرة ,محدودة بالزمن,هي حالة حب ؟ ابن حزم هو فقيه و مفكر عربي عاش في الاندلس عرف بغزارة معرفته .و كتابه السابق الذكر هو اجابة عن سؤال وجه اليه من طرف أحد أصدقائه يسأله عن معنى الحب ,فكانت اجابته في هذا الكتاب .يقول ابن حزم (بتصرف):'الحب أعزك الله أوله هزل و اخره جد,دقت معانيه على أن توصف فلا تدرك الا بالمعاناة ,و ليس بمنكور في الديانة ,اذ القلوب بيد الله ...و للحب علامات ...أولها ادمان النظر و العين باب النفس الشارع ,...و ثانيها الاقبال بالحديث مع المحبوب ...و ثالثها الاسراع بالسير تحو المكان الذي يكون فيه ,و التعمد للجلوس بقربه ,و الدنو منه ...و تغيير الطبع ,فكم من بخيل جاد و كم من جاهل تأدب...و تعمد لمس يد المحبوب و الشرب من فضلة ما أبقاه في الاناء..و حب أهل محبوبه حتى يكونوا لديه أحب من أهله...' اذن من القراءة الاولى يتبين لنا انها اشارات مستخلصة من سيكولوجية الشخص المحب ,ترجمت في التصرفات السابقة الذكر بشكل تراتبي ,و الان نمر لتحليل هذه العلامات . 1-المرجعية الدينية: وليس بمنكور في الديانة اذ القلوب بيد الله..' عبارة تؤكد بكل صراحة على مشروعية الحب خصوصا أن تنطق من لسان فقيه و باحث في الدين كابن حزم ,وما يعزز ذلك هو قوله تعالى في سورة الروم 'ومن اياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنو اليها و جعل بينكم مودة و رحمة..' و المودة هنا هي الحب ,أما في السنة فيروى أن الرسول عليه السلام سئل عن أحب النساء اليه فكانت اجابته:عائشة ,رغم تعدد زوجاته ,كما يحكى أن زهير بن أبي سلمى أنشد قصيدة المشهورة 'البردة' في مسجد النبي عليه السلام تغزل في مطلعها بممحبوبته سعاد .فلما أنهاها أعطاه النبي عليه السلام بردته مكافئة له و اعجابا بقصيدته ,اذن فمن هذا المنطلق فالحب جائز من وجهة نظر دينية . 2-العين و لغة الكتمان : تشكل العين عنصرا فعالا في التواصل الانساني ,فأحيانا تعبر عن ما تكتمه الذات حين يعجز اللسان (لأسباب معينة) عن التعبير عن خوالج هذه النفس ,ففي حالات كثيرة يمكن أن يتوقف اللسان و اليد عن التعبير لكن العين تفضح صاحبها ,فهي أكثر العناصر تعبيرا في لغة الجسد ,اذن هي لغة النفس الشارع كما قال ابن حزم ,و استعمل هنا كلمة الشارع نظرا لمدلولها الواضح عن الكبر و الاتساع, اذن فهي تعبير عن ذلك الاعجاب الكبير الذي يوجد داخل النفس(بدلالة الادمان) و الذي سيتحول فيما بعد الى حب . 3-الانطلاق من المحسوس نحو المنطوق: اذا ما حددت العين الخطوة الأولى للاعجاب فان الفكر لا محال سيبحث عن السبل الممكنة للتقرب من الطرف الاخر ,و ازالة العوائق التي تحول دون التقرب أكثر للمحبوب ,و باعتباره كائن اجتماعي خضه الله بالكلام ,فان المحب سيخلق أتفه الأسباب للحديث مع المحب ,و لا يهم هنا موضوع الكلام في حد ذاته بقدر ما يهم فعل الكلام ,اذ ليس الا تلبية واضحة لرغبة داخلية ,و أثناء هذا الكلام سيحاول المحب أن يثني على كل كلمة أو فكرة نطقها المحبوب حتى و أن لم يجانب الصواب في ذلك, أو كان ضد ما يقول ,لأن غايته في هذه المرحلة هو تحسيس الطرف الاخر بكونه معه في كل ما يقول أي البحث عن التلاقي الفكري أولا ,و مشاركته نفس المبادئ حتى يلقى اقبالا -و لو نسبي- من الاخر ومن تم ضمان لقاء كلامي اخر أو بمعنى اخر استمرارية في التواصل تلبية لتلك الرغبات الداخلية. 4-بداية الخروج عن منطق الواقع: لاشك أن التحول من ادمان النظر الى الحديث مع المحبوب سيخلق تغيرات مهمة في نفسية المحب ,لأنه تحول من ما هو نظري الى ما هو عملي ,أو من المحسوس الى المنطوق ,حيث يعمل المحب خلال خذه المرحلة على كسب ثقة محبوبه حتى و لو تطلب منه ذلك الخروج عن منطق الواقع ,من خلال تلك المواقف التي ذكرها ابن حزم ,كتصديقه و ان كذب و الشهادة له و ان جار و الضحك لضحكه و الحزن لحزنه و تبني مواقفه و الدفاع عنه في كل شيء..,اذن هي بداية الانزياح عن مبادئ تحكم الواقع الى مواقف مغايرة من أجل ارضاء المحبوب و عدم احراجه لكي لا تزعزع تلك الثقة التي يحاول المحب بناءها,ثم لطمأنة النفس بكون هذا المحبوب شخص مناسب لتكملة الذات. 5-في اتجاه الحب النهائي: عندما تتكرر اللقاءات و تتعدد الحوارات التي أوضحنا أهذافها سابقا ,تزداد نار الألفة ,و تتجسد في مواقف من مثل:تتبع أخبار المحبوب و تصيد الأماكن التي يكون فيها و الاسراع بالسير نحو ه و تعمد الجلوس بجانبه و عدم الاحساس بالوقت الذي يمر في قربه ,و الاقدام على أفعال طفولية كالشرب من بقايا الماء في الاناء الذي شرب منه و تعمد لمس يده و الأكل من بقايا طعامه ,و الاستغناء عن أي شغل يمكن أن يبعد عنه أو يستوجب مفارقته .كما يحدث في هذه المرحلة تغير في طباع المحب من أجل ارضاء و نيل استحسان و اعجاب المحبوب ,كأن يكون بخيلا فيصبح كريما و قد يكون مهملا للمطالعة فيصبح مدمنا على الأجناس الأدبية و الكتاب الذين يقرأ لهم المحبوب ,و مهووسا بالأغاني التي يسمع لها ,كما تؤدي به نار الحب الى الى حب أهل المحبوب حتى يكونوا لديه أحب من أهله ,و تكييف برنامجه اليومي في اتجاه واحد و هو مراعاة الأوقات و الأماكن التي يمكن أن يرى فيها المحبوب . اذن كلها تغيرات مفاجئة و غير طبيعية لأنها نابعة من احساس قوي ,انه الحب ,احساس في بعده السامي العفيف ,لا يمكن ان ينتهي في هذه الحالة الا بتكملة ذلك النصف الضائع في الذات ,و الذي لا يمكن أن يتم الا بالزواج بالمحبوب أو فقدان العقل بل أحيانا الى الانتحار (ومن الحب ما قتل)و لنا دليل في عشاق من التاريخ كقيس بن الملوح و جميل بن معمر اللذان يضرب بهما المثل في الحب العفيف,حب سيطر على الذات من من خلال تصورات بناها العقل و القلب لتترجم في الواقع بالجنون لعدم الحصول على النصف الاخر .