دار نقاش/سجال حاد حد الجدال بيننا، يتعلق بحقيقة وجود رغبة لدى جهات معينة بنمذجة المجتمع من خلال فرض أياقين وأنماط بعينها في الشارع ووسائل الإعلام وكل مراكز التوجيه والتأثير كالكتب المدرسية، ولافتات الإشهار التجاري، ويافطات الإعلان الإداري، وأغلفة المجلات، والصفحات الوازنة للجرائد، وكليبات الإشهارات التلفزية، والأنشطة والتسويقات السياسية، والإنتاجات الدرامية، والإنجازات الرياضية، والإبداعات الفنية... واقعيا، كل الأنشطة يمارِسها ويبزغ فيها مختلف أفراد المجتمع سواء من حيث الجنس أو العمر أو الانتماء الاجتماعي والثقافي والفكري... لكن الملاحظ المتفق عليه بين المتجادلين المذكورين أعلاه أن ما يتم عرضه في المنابر السابقة الذكر ينحصر في جنس الإناث السافرات المتبرجات فقط!! وقد اختلفت التفسيرات والتبريرات: ففي مجال الإشهار التجاري -كمثال- والذي كان شرارة النقاش، قال الخصوم أن الأمر تتحكم فيه دواعي الربح التجاري المحض وبواعثه، وعليه فإن العامل المادي هذا يبقى هو الهاجس في كل ما ذكر.. في حين أني رأيت الحقيقة غير ذلك بتاتا بأدلة متعددة تبتدأ بأنه لا ربح تجاريا في الإعلانات الإدارية التي لا تقدِّم -في عمومها- إلا صورا أو رسوما للنماذج المذكورة سلفا، ولا تنتهي في أن الرجال وكذا النساء المحجبات أيضا يتسوقون ويشكلون رقم معاملات مهما في السوق، مرورا عبر ملاحظة فوارق حجم التحفيز والاهتمام العكسيين بين إنجازات الرياضيين من جهة والرياضيات من جهة أخرى سواء من حيث العدد أو حجم التميز، وصولا إلى تحليل مسألة الإشهار ذاتها، ذلك أن أولئك الخصوم أنفسهم ذكروا في معرض حديثهم أنه من يحجم عن نشر أنماط واتجاهات معينة تغلَق دونه صنابير التمويل الإشهاري والدعم المادي والمعنوي، وضربوا لذلك أمثلة.. إنه دون استحضار مسألة التنميط هذه الدائر حولها النقاش، لا يمكنني أن أفهم وجود آلاف المتفرجين في ملاعب كرة القدم لا تمثل النسوة منهم 10%، ومع هذا لا يقدم للجمهور بشكل مقرب مركز سوى ذلك النزر، أو لقطات مخلة بالحياء!!!!! تماما كما لا يمكنني أن أفهم سياق وجود عاريات في حلبة ملاكمة، أو بجانب فائزين في سباقات محركات السرعة!! في السياق ذاته تدخلت تركيا قانونيا في القرن الماضي من أجل فرض لباس يضمن الابتعاد عن الحجاب، تماما كما تتدخل الآن بعض الدول لمنع النقاب والبرقع، ولا تتدخل أبدا لمنع التبان وحاملتي الصدر.. هذا على المستوى الرسمي الممأسس المقنن..، أما فيما يخص المضايقات الفردية عبر رفض توظيف المتحجبات والملتحين، خصوصا في الوظائف المتعلقة بمواقع الاستقبال، كوسائل الإعلام المرئية والكتابات الخاصة... وعدم قبولهم في بعض المعاهد، فحدث ولا حرج.. إن التوجيه والتضليل الإعلامي بنوعيه: التعتيم والتضخيم، لا ينكره إلا عنيد معاند نظرا لما يصنعه الإعلام من أبطال من ورق، ممن ينساق في اتجاه معين، مقابل تجاهل كل من نبغ في غير ذلك مما ينفع الناس.. ولنا عبرة في فوز وموت "فنان" ليس له من مسمى الفن سوى ما روج للعري والانحلال والمجون، في مقابل فوز أو موت أحدهم ممن نبغ في علم شرعي أو كوني!! إن وجود هذه الرغبة في التحكم والتوجيه لا ينكره إلا من ينكر وجود نظرية المؤامرة من الأساس، ضاربا عرض الحائط كمية الشواهد النظرية والواقعية المثبتة للحالة حد التلبس. فنظريا توجد عدة تفسيرات للتاريخ بين مادية تقوم على محورته(تفسير التاريخ) حول الصراعات المادية بين طبقات المجتمع، وسماوية تختزله في صراعات الخير المضمر في الإنسان عبر تمثل مواعظ الرسل، والشر المودع في الميل النفسي مسندا بدواعي الهوى والشيطان... وإذن في كل الأحوال هناك صراع أزلي-أبدي تشهد على وجوده آثار التاريخ ومآثر الجغرافيا.. والحالة هذه لا ينفك الأعداء يكيد بعضهم لبعض ويتآمرون... واقعيا، وبغض النظر عن قيمتي عدل/ظلم وصواب/خطأ، صراعات متوهجة تلك التي تجري بين قيم العالم المعاصر، منها قيمتان أساسيتان: قيمة إسلامية محافظة، وقيمة غربية "متحررة"(و.م.أ زعيما)، لا يتسع المجال للتفصيل في ماهيتها ومظاهرها وأسبابها ومراحل نشأتها وتطورها... ولكن هي موجودة على كل حال، وأبرز مظاهرها تحيز المنتظم الغربي -بصفة خاصة- اللامشروط لإسرائيل، مع أنه لو قيست المسألة بميزان الربح المادي المحض الذي تحاجج به أصدقاؤنا، فلا يوجد للغرب ربح مادي مع إسرائيل(حيث تمثل إسرائيل عبئا ثقيلا على كاهل ميزانية و.م.أ مثلا بما تقدمه لها من مساعدات مالية ومادية عينية...)، ولا خسارة مع العرب(حيث يشكل نفط العرب دم شريان الاقتصاد الأمريكي مثلا، كما تمثل ودائع العرب في البنوك الأمريكية قيمة أساسية في ذات الاقتصاد)، وإنما مشاركة القيم الثابتة هي المحرك الموجه والمحدد الضابط، وهي، بالمقابل، المانع من قيام تحالف استراتيجي كالذي يقوم بين الدولتين، رغم توافر شروطه وأركانه المادية على أرض الواقع بين أمريكا والعرب، وليس بينها وبين إسرائيل!!(القصد هنا قياس درجة الولاء والحماية).. فإذا ثبتت مركزية القيم الاستراتيجية الثابتة في التعاون والتحالف والتماهي، وثبت تشارك تلك القيم من طرف دول وأمم بعينها في مقابل مشاركة دول وأمم أخرى لقيم أخرى، وثبت وجود صراع أزلي في الوجود، فيكون من العبث الحاجة إلى تدليل على وجود مؤامرة في السر والعلن قصد حسم الصراع القيمي المشترك، وتخريب قيم المشروع المنافس..
إن إنفاق أموال طائلة على مشاريع "كونية" انتقائية تروج لقيم معينة، على حساب مشاريع كونية(هذه المرة دون مزدوجتين) ملحة تمس صحة الناس أو رفاهيتهم، ما هو إلا دليل على وجود تلك المؤامرة الهادفة إلى قولبة الآخر قصد نمذجته وأيقنته وتنميطه..