لا يمكن الشك إطلاقا، في كون القضاء، وأي قضاء، هو المرآة العاكسة لأوضاع أي بلد. فإن كان مستقلا، وعادلا، ونزيها، فهذه أمارات تنم عن كون البلد ديمقراطيا. أما إذا كان عكس ذلك، أي غير مستقل، ولا نزيه، ولا عادل فذاك يعني أن البلد أوضاعه ليست على ما يرام.. دولة ديمقراطية، يعني قضاء قوي، ونزيه، ومستقل.. ودولة غير ديمقراطية، يعني قضاء منهك، وفي المحصلة غير مستقل، ولا نزيه.. إن البلدان غير الديمقراطية، بالضرورة سيكون فيها قضاء غير فعّال وغير منتج.. ليس من ناحية الكم، بل من ناحية الكيف. فقوام هذه الدول، أو سماتها البارزة، هي الفقر، والأمية بمستويات مرتفعة. وهذه السمات، سوف يترتب عنها، كتحصيل حاصل فقط، تفشي الجريمة، على اختلافاتها، إلى حد كبير جدا. وبالتالي، سيكون التوجه البارز لهذا البلد، التركيز على المقاربة الأمنية، أي تقوية الجهاز الأمني. أو ما يطلق عليه، اليوم، بالدولة البوليسية. والمحاكم، من طبيعة الحال، لن تكون سوى جزء من هذا الجهاز. أو هكذا ستبدو. القضايا الكثيرة جدا، التي تملأ رفوف المحاكم، والتي يصل عددها إلى الألوف سنويا، ستؤدي لا محالة إلى إنتاج مقررات قضائية غير فعالة. إذ أن القاضي، وأي قاضي، سيصيبه الوهن، وأمام الهاجس الذي يؤرقه بالبث في أكبر عدد ممكن من القضايا التي تبسط أمامه، وهذا من أوجب واجباته، سيصبح مجرد آلة، تشتغل بطريقة ميكانيكية، لا تبدع ولا تجد الوقت الكافي للتأمل من أجل القيام بهذه المهمة الحساسة على أحسن وجه. في بعض القضايا النوعية، نجد العكس. خاصة القضايا التي حازت انتباه الرأي العام. أو قضايا الإرهاب. فهذه، وتلك يكون عددها قليل مقارنة بالقضايا الأخرى التي تعتبر بمفهوم ما عادية. فضلا عن أنها تخضع للمراقبة.. فعلى الأقل، يكون القاضي، أو الهيئة القضائية التي تنظر فيها، لديها من الوقت الكافي للبث فيها. كما أن هذا العامل، أي الوقت، يتيح إبراز مظاهر ما يسمى شروط المحاكمة العادلة.. فعلى سبيل المثال، فأي محكمة، على مستوى جميع ربوع الوطن، خاصة القضايا الجنحية، المكوث فيها ساعة واحدة، وإرهاف السمع لأطراف القضايا الرائجة، مستواهم الدراسي، ووضعهم الاجتماعي.. سيتضح، على أنهم جميعا، فقراء، وجميعهم أميون. والقضايا التي تورطوا فيها، سواء كانوا متهمين أو ضحايا، إنما هي نتيجة لهذه العوامل (الجرمية) مجتمعة. سوف لن تجد، قضايا جنحية، أطرافها غير معوزين أو غير أميين. وحتى إن وجدت، فهي قليلة جدا. ما يثير الانتباه، وفي نفس الوقت يثير التعجب، هي تلك التعديلات الدورية غير المتناهية التي تخضع لها القوانين. خاصة، القانون الجنائي، وقانون المسطرة الجنائية. فهؤلاء، الساهرون على هذه التعديلات، يعتقدون، إما عن نية حسنة أو سيئة، مع العلم أن الأولى هي المفترضة، أن المشكل وراء هون القضاء، وتفشي الجريمة، إنما هو بؤس القوانين. بيد أن العكس هو الواقع. والدليل، هو أن بعض الدول، وبعض الأنظمة، هي في الأصل ديمقراطية، لا تحتكم لقوانين مكتوبة، بل إلى الأعراف والتقاليد فقط. ومع ذلك، الجريمة عندها قليلة جدا. والقضاء قوي. ما ينطبق على هؤلاء، أو ما يقال في هؤلاء، يقال أيضا في أصحاب"النموذج التنموي الجديد". هؤلاء، ينطبق عليهم القول الشعبي، الذي يتداوله المغاربة في بعض أمورهم، عندما يتم الانحراف عن جادة الصواب وإتباع الظن. فيعبرون عن ذلك أحسن تعبير بالقول، "تعالي يا أمي، أريك منزل أخوالي". القوانين، لا يمكنها، بأي حال من الأحوال، أن تُحدث التغيير. أو تجعل من بلد غير ديمقراطي بلدا ديمقراطيا. ولو كانت كذلك، لأتبع العالم أجمع، قانونا واحدا، هو قانون بلد ما يكون بالضرورة ديمقراطيا، ولما حصلت جريمة واحدة، ولما انتهكت حرمات، ولما أطلقت رصاصة واحدة، ولما شنت دولة قوية، الحرب على دولة أخرى ضعيفة.. إن ما يُحدث التغيير، هو التعليم.. تعليم قوي، سلسل، مجاني، سائد، وإجباري.. فبالتعليم، سوف يتم اختزال الكثير من الأمور السلبية، المنهكة، والقاتلة التي تؤدي إلى القهقرى وتعرقل حركة التاريخ.. لأن المتعلم، لا يرتكب الجرائم، يعرف حقوقه وواجباته، وينتج بشكل إيجابي..
وعندئذ، سوف لن تكون هناك حاجة لمثل هذا العدد المهول من التعديلات التي تطرأ على القوانين بدون فائدة.. ولن تكون هناك حاجة ل"لجنة خاصة للبحث في إيجاد نموذج تنموي جديد..".